المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : د. كاظم ناصر: نحن العرب عشّاق لعار التاريخ



ابا مازن
07-02-2017, 12:16 PM
. كاظم ناصر



التاريخ هو ذاكرة الأمّة التي تحفظ انتصاراتها وهزائمها ، ونجاحها وفشلها ، وحروبها وسلامها ، وقراراتها الصائبة والخاطئة ، وإنجازات قادتها العظماء ، وتضحيات شعبها في بناء الوطن وحمايته ، وإبداعات البررة من أبنائها الذين ساهموا في تقدّم معارفها وتعليمها وتثقيف أبنائها . أي إنّه من المفروض أن ينصف الجميع ولا يهمل أحدا ، ولكنه لا يفعل هذا دائما لأسباب متعدّدة من أهمّها إنه دائما يمجّد ويعلي شأن القوي المنتصر ويحطّ من قدر الضعيف المهزوم .

ولهذا يمكن القول إن التاريخ يكتبه صنّاعه من الأقوياء المنتصرين ، وتطمس فيه بطولات وتضحيات خصومهم من المهزومين والفاشلين . المنتصر يمجّد نفسه ويخلّدها ولو إلى حين ، ويعظّم قدراته العقليّة ، ويبرّر بطشه بعدوّه ، ويفرض على المهزوم ما يريد ، ويسنّ القوانين التي تخدم أهدافه وتلائمه ، ويفسّرها ويفلسفها كما يشاء دون أن يعترض على ذلك أحد .

تاريخ العالم صنعته المنافسة والصراعات والحروب بين الحضارات الإنسانيّة التي وظّفت السياسة ، والدين ، والجغرافيا ، والإقتصاد ، والأطماع الشخصية لزيادة نفوذها وتحقيق أهدافها ، وأخفت نواياها المصلحيّة وادّعت أن ما أرادت تحقيقه هو خدمة الإنسانية ، ونصرة الضعيف ، وحماية المظلوم ، وإقامة العدل والمساواة ، وتحقيق إرادة الله والدفاع عن دينه ، وغير ذلك من تبريرات لا علاقة لها بالأهداف الحقيقية لمعظم تلك النزاعات والحروب التي غيّرت مجرى التاريخ الإنساني .

حضارات ودول كانت عظمى منها البابليّة ، والإغريقيّة ، والرومانيّة ، والفارسيّة ، والآسيويّة ، والمسيحيّة ، والاسلاميّة ، وبريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب عنها الشمس ، وفرنسا وغيرها ساهمت مساهمة كبيرة في صنع التاريخ الانساني فبنت وعمّرت ، وقتلت ودمّرت ، وعدلت وظلمت ، ووحّدت وشتّت ، وأوقعت شعوبا تحت احتلالها ونهبت ثرواتهم واستعبدتهم .

هذه الحضارات سادت ثم بادت ، أو على الأقل فقدت دورها القيادي الدولي في زمنها وتقزّمت وتخلّصت من اجترار التاريخ والعيش على ذكراه والّلطم على أمجاده الضائعة . لقد رضيت بوجودها كدول مستقلة محدودة التأثير العالمي وانشغلت في حل مشاكل شعوبها المعاصرة ، وقبلت العالم كما هو الآن ، وتعاملت معه على أساس المصالح المشتركة ، وليس على أساس أمجاد التاريخ الذي مضى وانقضى .. كما نفعل نحن العرب !

نحن العرب … أمّة ماضوية … ما زلت تعيش على إجترار أمجادها التاريخيّة . حقيقة انّنا كنا قبائل متناحرة وحّدها الإسلام ، وإن التوسّع الإسلامي الذي حدث في مائة عام كان إنجازا ضخما للمسلمين في ذلك الوقت وغيّر المعادلة السياسية في العالم . لكن هذا إنتهى قبل 800 عام ونحن الآن … من أفشل أمم الأرض … وعلى الرغم من تمجيدنا لتاريخنا واظهارنا لبطولاته وانجازاته ، فإنّه لم يكن صفحة بيضاء ناصعة ، ولم تكن الدول والمجتمعات الإسلامية السابقة فاضلة كما نقول .

لقد كان تاريخا مزدحما بالأحداث والوقائع ، خيرها وشرّها ، مثل أي تاريخ لأي أمّة أخرى ، أي تاريخ تظهر فيه النزاعات الشخصيّة والماديّة والصراع على النفوذ والسلطة واضحة جلية ، وتتجلّى في شخوصه ومكوّناته السمات الانسانيّة بكل تعقيداتها وصراعاتها ، وتطغى على مجتمعاته كل التناقضات الاجتماعيّة والطبقيّة والسياسيّة .

تاريخنا كما ذكرت يسهب في التفاصيل … البهيّة … ويهمل تفاصيل الكثير من الأحداث الكبرى التي لعبت دورا هاما في حياة الأمّة الاسلاميّة . ومثالنا على ذلك هو أننا ما زلنا لا نعرف الكثيرعن الخلافات الاسلامية الأولى بعد موت الرسول ، ولا عن أسباب وتفاصيل حصار عثمان بن عفّان ، ومعركة الجمل ، والخوارج ، وكربلاء ، وبطش وإعدامات الحجاج ، ومؤامرات القصور ، ومذابح السفاح ، والقرامطة ، واضطهاد العلماء الذين لم يرضى عنهم الخلفاء .

لقد قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين هم عمر ، وعثمان ، وعلى . الخلافة الأموية إستمرت 89 عاما من 661 م – 750 م حكم خلالها 14 خليفة قتل منهم خمسة في مؤامرات وصراع على السلطة . والخلافة العباسية في العراق إستمرت 530 عاما من 750 م – 1258 م حكم خلالها 37 خليفة قتل منهم 18 في مؤامرات وصراع على السلطة . من الواضح أن الدماء سالت بغزارة في تاريخنا كما سالت في تواريخ الأمم القويّة الأخرى ولا نستطيع لا نحن ولا هم إنكار ذلك .

تاريخنا الحديث ، وتحديدا منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن ، مزدحم بأحداث محرّفة ومزوّرة . إنه يمجّد حركات فاشلة أضرّت بمستقبل الأمة ويعتبرها ثورات عظيمة ، ويحوّل موآمرات وإتفاقيات دفعت الأمة ثمنها غاليا إلى إنجازات سياسية مهمّة ، … ويخلّد ويعظّم حكّاما … خونة إستعبدوا شعوبنا ودمّروا أوطاننا وشرذموها وحرموها من كل أسباب التقدم ، ويحوّل هزائمنا إلى إنتصارات كاذبة .

هزيمة حرب الأيام الستّة عام 1967 كانت أكبر كارثة مخزية لنا في تاريخنا الحديث . إسرائيل التي لم يمض على وجودها سوى تسعة عشر عاما في ذلك الوقت ، هزمت العالم العربي ممثّلا في الجيوش المصريّة ، والسوريّة ، والاردنيّة ، والعراقيّة في سته أيام ، واحتلت الضفة الغربية وسيناء والجولان ” ما يعادل أربع أضعاف مساحتها ” ، وكالعادة أنكرنا وكذبنا وسمّينا هزيمتنا التي صدمت العالم ” نكسة .”

كان من المفروض أن يحاسب الحكّام وقادة الجيوش المهزومة على تقصيرهم وسوء إدارتهم للمعركة ، ولكنّنا كعادتنا ألّفنا ونشرنا مئات الكتب والمعلّقات الشعريّة وآلاف المقالات التي تشيد ببطولات قادة جيوشنا المهزومة ، وتثني على حكمة وعظمة حكّامنا ، … ومنعنا إجراء الدراسات النزيهة المعمّقة … التي تكشف جوانب ضعفنا وتحدّد الأخطاء والتجاوزات التي أدّت إلى هزيمتنا لأنّنا نرفض أن نعترف بالحقائق كما هي .

حرب عام 1973 مع إسرائيل ، والحرب العراقية الايرانية ، وحرب الخليج ، واحتلال لبنان عام 1982 ، وحروب اليمن وسوريا وليبيا أمثلة أخرى على تشويهنا للحقائق وتزويرنا للتاريخ . إن مؤأمراتنا وهزائمنا في هذه الحروب واضحة كالشمس ولا لبس فيها . وعلى الرغم من ذلك ، فإن تاريخنا سيحوّلها إلى ملاحم ، ويمجّد فيها الحكام وبطولاتهم ، ويسجّلها على أنها كانت إنتصارات عنتريّة ، ونجبر نحن والأجيال القادمة على إجترارها كحقائق تاريخيّة .

كل دولة تحترم تاريخها ، وتدرسه وتستفيد من تجاربه ، وتدرّسه لمواطنيها في مدارسها وجامعاتها بحرّية وحياد ، وتوثّق إيجابيّاته وسلبيّاته ، وتوضّح انتصاراته وهزائمه ، وتعطي كل ذو حق حقه ، وتبرز حسنات وسيئات وإخفاقات وانتصارات قادتها العظام بأسلوب علميّ حياديّ هدفه إظهار الحقائق ونشرها وتداولها بحرّية ليطّلع عليها المواطن ولتنتفع منها الأجيال القادمة .

أما نحن فإننا نجتر تاريخا لا شوائب فيه . كلّه بطولات وعدل ومساواة ، وجميع قادته ملائكة ، ونحرّم كتابته ودراسته إلا بالطريقة التي ترضينا ، ونكفّر ونجرّم منتقديه ، ونتهمهم بابشع التهم ، ونقصيهم وننفيهم كما فعلنا مع عدد كبير من المفكرين … الأوائل والمحدثين … الذين حاولوا إظهار الحقيقة وانتهوا في القبور والسجون والمنافي . من المهم جدّا أن نعرف حقائق تاريخنا ، وننقّيه من الأكاذيب والشوائب لنجعله ذو مصداقية ، ونعلّمه لأجيالنا لتعرفه على حقيقته وتنتفع منه .

نحن نعادي الحقيقة ونرفضها ، ونحارب الناطقين بها والمدافعين عنها ، … لأننا أمّة جاهلة مهزومة … تخاف من التغيير ، وتغطي عوراتها بأردية ممزّقة بالية لا تستر منها شيئا . إنّنا أمة لا أمل لها ما دامت ترفض الحداثة ، ….. وتعيش على عشق عار التاريخ …..

http://www.raialyoum.com/?p=616959