المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الثعابين والمزامير ...



روانـــــووو
14-02-2017, 12:38 AM
الثعابين والمزامير
بقلم: نسيم الصمادي
تقول الأسطورة بأن راعيًا للأغنام في منطقة جبلية قصية جلس فوق كومة من الحجارة، وأطلق صوت مزماره مع الريح. نفخ من تجاويف قلبه حتى تجلى وأبدع، وأغنامه ترعى مأخوذة بعزفه الشجي. ومع تصاعد صوت المزمار وتردد صداه بين شعاب الوادي، فوجئ بثعبان ضخم يمد رأسه من بين الحجارة، وفي فيه تلمع ذهبة تخطف الأبصار. وضع الثعبان قطعة الأصفر البراق أمام الراعي، وانسل عائدًا إلى جحره الخفي.

في اليوم التالي عاد الراعي، وعزف حتى انتشى طربًا، فخرج الثعبان وناوله قطعة ذهب أخرى. وهكذا، درج الراعي على العزف، وظل الثعبان يكافئه كل معزوفة بقطعة من ذهب. حتى كان ذاك اليوم الذي مرض فيه الراعي، فعهد إلى ابنه برعاية الأغنام. قال له: "تذهب إلى قمة الجبل، وتجلس على كومة الحجارة الكبرى، وتعزف حتى يطرب الحجر ويرقص الشجر. ولسوف تعرف حينها من أين آتيكم بالذهب."

ذهب الابن ونفخ المزمار، فخرج الثعبان يحمل هديته المعتادة. فما كان من الابن الغر إلا أن وضع المزمار جانبًا، وأطلق خرطوشته على الثعبان المنتشي بالموسيقى، فشطره نصفين. ثم أخذ ينقب الحجارة ويدحرجها إلى الوادي، فتكسر الأشجار وتدمر الطبيعة المسالمة. وقبل أن يقذف الحجر العاشر، لدغه الثعبان الجريح فأرداه قتيلاً.

عاد الأب المكلوم بعدما برئ من مرضه إلى المكان، وراح يعزف مزماره بكل جوارحه، فأطل الثعبان برأسه بلا ذهب، وقد هده التعب وأنهكه الجرح والنصب. وقال للراعي: "لقد غدر بي ابنك وقطع ذيلي الذي كنت أسحب به الذهب، ومات بغدره وطمعه، بعدما قطع العهد، فنفد المنجم، وصار صوت المزمار موجعًا بعدما كان مولعًا. فاذهب ولا تعد، فأنت لن تنسى ابنك الملدوغ، وأنا لن أنسى ذيلي المقطوع."

سمعت وتأملت هذه الأسطورة وأنا برفقة ثلة من أصدقاء الطفولة. اجتمعنا بعدما افترقنا أكثر من 40 عامًا. ارتحلنا وقضينا يومًا كاملاً في واحدة من أكثف غابات بلادنا. أكلنا "النبق" البري، واصطدنا الطيور ببندقية صيد قديمة اضطررنا إلى إصلاحها أكثر من مرة. روى الحكواتي المهذار الثرثار الذي لا يسكت أبدًا، وكان منذ طفولتنا يحكي ويروي بلا توقف، وكأنه المتحدث الرسمي باسم الشلة. روى هذه القصة الخيالية بأسلوبه المعبر المثير، وبعدها قلت لهم: "ألا تلاحظون أننا لم نتغير أبدًا؟!" ما زال الراوية مهذارًا، والنزق متوترًا، والفلاح كادحًا، والصياد متوثبًا، والحكيم صامتًا، والتاجر بياعًا، والراعي صبورًا. حتى من حصل منا على الدكتوراه، ومن صار مليونيرًا، لم يتغير طبعه، ولم يتخل عن ربعه.

بعدما روى "عيسى" القصة، ابتسم "جميل"، وصمت "موسى"، وهز رأسه "محمود"، قلت لهم بأنني سمعت هذه القصة من أبي، ومن عم أبي قبل عقود. والمعاني التي تنضح بها ما زالت واحدة.

- فمهما تبدل الإنسان ودار به الزمان، ولبس من أقنعه، فإن طبعه لا يتغير؛ إذ يبقى دائمًا ابنًا لذات الجوهر. فالعدو يظل عدوًا، وإن منحنا الذهب. والصديق يبقى صديقًا وإن غاب عنا أربعين عامًا.

- ومهما كان القلب قاسيًا، والطبع شرسًا، فإنه يمكن للحب أن يخترق القلب، ويوقف الحرب. فقد زادت الموسيقى من ثقة الثعبان بالراعي، فكان هذا يعزف، والثعبان يطرب ويعطي. إلا إن الحماقة أعيت من يداويها، فأبى الابن إلا أن يطلق النار ويقتل الثعبان بسبب ضعف الخبرة، فصار مثلاً، وذهب عبرة.

- وها نحن اليوم نعيش ما بين الكهولة والشيخوخة، وما زلنا نطلق النار على العصافير مثلما كنا نفعل في الطفولة. فالطيور في عرفنا ودستورنا وقوانين الطوارئ التي نعلنها، تطير وتغرد، فتقتل برصاصنا الرخيص، ثم تشوى وتؤكل.

- القائد نشأ قائدًا، والراعي يعيش راعيًا، والعسكري يبقى شرطيًا، ولا يتخلى عن غريزته أحد. يعدنا بالانتخابات، ويمنينا بالديموقراطية، فنطلق له أهازيج الحرية. سنرقص له ومعه، ولكنه في نهاية المطاف سيطلق النار على الثعابين والعصافير معنا. صوت الرصاص يعلو دائمًا على صوت المزامير، وقيود الأحكام العرفية تلغي دائمًا كل الدساتير!

هل فهمتم؟
قال الحكواتي: "بصراحة لا أدري، كنت أظننا فهمنا، ثم شممنا رائحة الشواء فنسينا."
وها هي الولائم أمامكم! هل فهمتم؟

نسيم الصمادي

مس ماريانا
14-02-2017, 07:13 PM
يااالله ..
فمهما تبدل الإنسان ودار به الزمان، ولبس من أقنعه، فإن طبعه لا يتغير؛ إذ يبقى دائمًا ابنًا لذات الجوهر. فالعدو يظل عدوًا، وإن منحنا الذهب. والصديق يبقى صديقًا وإن غاب عنا أربعين عامًا.

فعلاً..
شكرا على الطرح الجميل عزيزتي ..
لا عدمنا طلتك

نـــــــقــــــــاء
14-02-2017, 08:24 PM
مهما كبر الإنسان يبقى طبعه فيه
شكرا للطرح روان

ابوقيس99
14-02-2017, 09:12 PM
اختياررايع وقصة جميله
راقت لي جدا
شكرا استاذه روانوو طرح استحق النجوم