صدى صوت
21-03-2017, 02:45 PM
عندما نتحدث عن أكثر البشر مواجعا فلن نجد أكثر من ذلك الانسان الذي فقد عزيزا لديه ، فتلك من أكبر النوائب إيلاما في الحياة .
لم تحملني قدماي وأنا أسمع صوت صديق العمر مخنوق بالعبرة وأكاد لا أفقه حديثه لكثرة النشيج الذي صاحب كلماته المتقطعة .
إرتعدت فرائصي وازداد وجيب قلبي وأنا أسأله مذعورا عما به .
صوته كان به حشرجة مخيفة وأكاد أرى دمع عينيه بقلبي وأسمع دقات قلبه الضعيف وهو يقول لي بأسى : ماتا يا صديقي ... ذهبا وتركا لي الحسرة تجوب في أنحاء كياني بلا هوادة .
من هما هؤلاء اللذان ماتا يا أبا عبدالرحمن ؟! قل بسرعة .. لقد أقلقتني !!
أغلق هاتفه ولم أسمع منه جوابا .
تركني في حيرة .. حيرة تنهشني ككلب مسعور .. إتصلت به ولكن جواله لا يرن ..إتصلت بصديقنا سليمان ..
سليمان ما الذي حدث ؟! من مات ؟! أبو عبدالرحمن إتصل بي وهو يبكي ولم أفهم منه شيئا .. من هذان اللذان ماتا ؟!
رد سليمان بصوت ملئه حزن .. صوت لم أعتده منه .. سليمان صاحب الصوت الأجش أسمعه اﻵن على غير عادته يقول : زوجته وابنه عبدالرحمن هما اللذان ماتا !!
ما الذي حدث ؟! كيف ماتا ؟! أهو حادث سير ؟! رد علي سليمان قائلا : نعم في حادث سير !!
يااااه !! يا ويح قلبي .. رحماك يا الله !!
استأذنت حالا وتوجهت مسرعا إلى البلد .. مباشرة إلى منزل أبي عبدالرحمن فرأيته موصدا والى جانبه تجلس سيدة مسنة وكأنها تنتظر شخصا ما ..
السلام عليك خالتي .. أين أبا عبدالرحمن ؟! ماذا حصل ؟!
ردت علي وأرى الدمع يتلألأ في عينيها : آآه يا قلبي على أبي عبدالرحمن .. فقد حبيباه دفعة واحدة .. يا رباه لطفك به والهمه الصبر على مصيبته .
سألتها : أتعرفين أين هو اﻵن ؟!
قالت : ذهبوا الى المستشفى لاحضارهما لاتمام مراسم الدفن .. ألطف يا ربي بهذا الولد .. ولد طيب .. و زوجته رحمها الله كانت من خيرة نساء الحارة .. الطيب لا يدوم يا ولدي .
شعرت برغبة جامحة في البكاء .. جلست على مقعد سيارتي بانتظار الموكب .. لم أستطع أن أسوق سيارتي إلى حيث هم .. رجلاي تنتفضان وكفاي متعرقان وكأنما قد غمسا في إناء ماء حار .
أغلقت على نفسي زجاج نوافذ السيارة وبكيت .. بكيت بحرقة .. فأنا أعلم مدى تعلقهما ببعض .
سمعت صوت زامور سيارة قادمة وإذا بموكب مهيب تتوسطه سيارة نقل الموتى .. سيارة كئيبة رغم بياض لونها .. نزلت من سيارتي .. وعيناي مركزتان في تلك السيارة التي تنقل الحزن إلى البيوت .. نزل أبو عبدالرحمن من تلك السيارة وهو لا يقدر على حمل جسده .. نزل مسنودا بذراعي والده وأخيه .. لم أقدر أن أتحرك من مكاني وكأن قدماي قد تسمرتا في الأرض أو قيدتا بقيد من حديد .. سقط مغشيا عليه بين أذرعهم .. بكى والده بحرقة خوفا عليه .. ناهيك عن حزنه على زوجة إبنه وحفيده .
إنهض يا بني .. أوجعت قلبي .. أرجوك إنهض هذا أمر الله ولا راد لقضاء الله .
رش على وجهه بعض الماء وأفاق قليلا .
قال الاب بصوت محزون : لا حول ولا قوة إلا بالله فلنذهب بهما للبدء في مراسم الدفن .. اللهم أعنا برحمتك يا رب .
كان كلام الأب كالصاعقة التي وقعت على مسامع أبي عبدالرحمن ولكن لا شيء بأيدينا أن نفعله سوى ما قاله والده .
بعد الانتهاء من مراسم الدفن والتي شارك فيها معظم أهالي البلدة لم أستطع أن أبقى إلى جانبه لكثرة المشيعين وأهله الذين جاءوا من أماكن مختلفة .
كان بيته أشبه بساحة إحتفالات .. يعج بالخلائق ما بين رجال ونساء من مختلف الأعمار .. وجوه لم أرها من قبل .
لم أستطع في ذلك اليوم أن أنام أو أن أتناول أي طعام .. صداع شديد إنتهى بي الى التقيأ لأكثر من مرة ..
أفكر في صديقي الحبيب والمصيبة التي ألمت به . يا الله .. ماذ عساه أن يفعل اﻵن ؟ أول ليلة يعيشها من غير أسرته الصغيرة .
لم أنم أبدا في تلك الليلة وبعد صلاة الفجر ذهبت اليه .. ضغطت على جرس الباب وخرج لي أخوه وعلامات الحزن والانكسار تبدوان على محياه .
أهلا بك يا موسى .. تفضل أدخل .
أين أبا عبدالرحمن ؟!
رد علي بصوته الحزين : على سريره .. متمدد فقط لكن عيناه لم تغمضان طيلة الليل ..
لم يتكلم أبدا ، لم يبك ، لم يتحرك ..
عيناه الحمراوان تدوران في سقف الغرفة وعليهما طفح من دمع وصدمة متسائلة في ألم صامت !!
كان معي في غرفتي .. بدا كأنه صنم مسجى ..حاولت أن أكلمه ولكن بلا جدوى .
تمنيته لو بكى .. لو صرخ .. لو كسر أثاث الغرفة لينفس عن كربه لكن هيهات .
ياالله !! كانت ليلة ثقيلة طويلة .. طويلة جدا وكأنها عشرون عاما .. شعرت وكأنه كان يحمل جبلا على صدره .
أدخل إليه علك تقدر على إخراجه ولو قليلا من حالته تلك .
دخلت عليه ووجدته متمددا .. إنه مستيقظ .. يجمع كلتا يديه على صدره .. دمعت عيناي بحرقة عجيبة .
جلست على السرير إلى جانبه .. تكلمت بصوت هامس لا يسمعه سواه :
ما من بشر إلا وقد نابته نائبة .. كل الناس مستهم محنة وألم بهم سوء بشكل او بآخر .
الملمات تنزل علينا بأمر الله .. من هذا الذي لم تعضه الليالي ولم تنهشه الهموم ؟
إنها حكمة الله وقضاءه فينا .
أعلم جيدا أنك فقدت أغلى إثنين في حياتك ولكن هل باليد حيلة ؟ هذا أمر الله وأنت رجل مؤمن .
قال لي بصوت مبحوح دون أن يلتفت الي :
لم أجترح أي خطيئة في حياتي .. فلماذا ؟ لماذا يذهب عني أغلى شخصين بحياتي هكذا في غمضة عين وبلا مقدمات ؟! لماذا ؟! لماذا ؟!
قلت له : هون عليك يا أخي . أذكر الله !!
قال بصوت باك : لا إله إلا الله .. رحمتك يا رحمن السموات والارض .
إن ما بي لا تتحمله الجبال الراسيات .. حزن عميق يذبحني .. ذهب حبيباي يا صديقي .. ذهبا .. قلت له : والله اني لأحس بما تحس به من ألم واتألم لأجلك .
لحظات صمت لم تطل حتى التفت إلي وهو يبتسم ابتسامة باهتة لا معنى لها .. قال لي :هل تذكر عندما طلبتها من والدها للزواج ورفضني بحجة قلة راتبي ؟ واني لن أستطيع إسعادها ؟ وقفت هي إلى جانبي .. نعم هي .. وحاولت ان تقنع والدها وبالفعل نجحت وأقنعته .
هل تذكر كيف كان عرسنا .. والقاعة التي استأجرتها أنت لزفافنا ؟!
هل .. هل تذكر يا موسى الفرقة الشعبية التي استأجرها صديقنا سليمان لإحياء حفل زفافنا ؟! لا أنسى وقوفكم إلى جانبي أبدا ما حييت ..
كانت زينب سعيدة .. بدت ليلتها كالبدر وهي إلى جانبي في الكوشة .. إبتسامتها لم تفارق محياها أبدا ذلك اليوم . وأنا أطير من الفرح .. لم أصدق يومها أنها الآن إلى جانبي في الكوشة .. كنت ساعتها كالأمير !!
ذهبنا إلى صلالة لقضاء شهر العسل .. تعلم أني لا أقدر على السفر بعيدا لضيق ذات اليد .. كانت راضية قانعة فرحة ما دام حلمنا بالزواج من بعضنا بعضا قد تحقق فما عداه لا يهم .
هل تذكر يا موسى كيف كانت سعادتنا عندما أنجبنا عبدالرحمن ؟! يااااه .. عبدالرحمن ولدي حبيبي .. كان يشبهني كثيرا .. هي كانت تقول دائما : عبدالرحمن نسخة منك يا أبا عبدالرحمن !!
أربعة أعوام وكأنني كنت أعيش معهما في الجنة ..
لم تكدر خاطري يوما .. كانت تتحمل ضيق ذات يدي .. أعلم أنها كانت تتمنى مثل باقي النساء أن تشتري ملابسا جديدة وأشياء حديثة كباقي قريناتها ولكن ما كانت أبدا تشتكي .. كانت تقول دائما : لا يهم الملابس فالاهم أنت وعبدالرحمن وكفى .. أنتما حياتي وجنتي .. عبدالرحمن هو النسمة الرقيقة في هذا البيت وأنت نوره الذي يضيئه .
انتهى كل شيء وأفقت من الحلم يا موسى .. افقت .. كنت كمن يحلم .. ذهبا .. ذهبا ولن يعودا أبدا ..
ماذا افعل بدونهما ؟ كيف أحيا من غير زينب وعبدالرحمن ؟ ما قيمة الحياة بعد حبيباي يا موسى ؟!
أخبرني بالله عليك .. هل أجد بعدهما نورا في هذا البيت أو رائحة طيبة ؟!
رائحة الموت تزكم أنفي ووجع الفقد يعصر فؤادي .أنا حزين يا موسى وحزني عظيم ..
لم أدر ما أقول ..
أنا اعلم جيدا أن كل ما ذكره حقيقة وأشعر به .. أشعر به جدا ولكن أنى لي بجبر خاطره المنكسر ؟! وأنى لي التنفيس عن كربته وإطفاء حر كبده ؟؟
أشاطره الحزن والألم وكل ما يمكنني قوله في ذلك الموقف : ( اصبر وما صبرك الا بالله ) يا صديقي .
شعرت بصداع فظيع وعيناي تؤلماني ..
خرجت .. بلا وجهة لا أدرى إلى أين .. ياالله إرأف بصديقي في محنته .. في الطريق قابلني والده وسلمت عليه .. رأيت الدموع تملأ مقلتيه .. قلت له : سأعود .. عل نفسه تهدأ قليلا .
قال لي (بصوت مغموم) وهو يواصل سيره : لا أظنه قريبا .
مرت ايام وانا اعيش في حالة نفسية عصيبة .. الامر ليس سهلا كي يتناساه صديقي .. وانا مدرك تماما انه يمر بأزمة نفسيه .. فإن كنت انا الصديق واشعر بوجعه فكيف هو ؟
لم اشأ ان ازعجه فأنا اعلم انه على غير استعداد للحديث مع احد او الجلوس مع احد وهذا ما اكده لي اخاه وانا اتصل به يوميا للسؤال عنه .. ولا يستطيع احدنا لومه .. انها محنة عصيبة وأي محنة .
بعد ايام قررت الذهاب لزيارته علي اجده بحال افضل ولو قليلا .
قابلت والده وكان يسير على مهل متكئا على عصاه ومطأطئا راسه وكأنه في عالم آخر .. رأيته مهموما .. آآه من هم الوالد على ابنه .. فكيف ان كان ابنه واسرته الصغيره .
سلمت عليه بحراره وشعرت بأنه لا رغبة لديه في الحديث مع احد ومع ذلك سألته رغم اشفاقي عليه : أين ذهب ابا عبدالرحمن ؟!
رفع عصاه التي يتكىء عليها .. أشار بها قائلا وعيناه تنظران صوب نفس الطريق التي مشت فيها جنازة الفجيعة ذلك اليوم : إلى هناك .. إلى ...
ولم يكمل .. كانت دموعه قد أكملت كلامه وهو يواصل سيره جهة المقبرة .. سرت وراءه .. وجدناه هناك .. صدمني مرآه .. كان يجثو بين قبري زوجته وابنه .. ثيابه ملطخة بالتراب .. وجهه .. قدماه .. يداه .. شعره .. كل شيء عليه خيل لي كأنه خارج للتو من قبر .. كانت حالته قد انقلبت بشكل مأساوي فاجع .. يضحك .. يقهقه و .. يهذي ..
- زينب .. عبدالرحمن هيا .. افيقا .. يكفيكما نوم .. زينب ما هذا الثوب الابيض عليك ؟ .. بدليه .. اللون الأسود يليق بك اكثر .. عبده حبيبي .. جلبت لك أحلى هدية الا تود ان تفتحها ؟ هيا .. تأخرنا كثيرا !!
زينب جهزي الإفطار من فضلك .. عبده حبيبي تعال .. بابا .. زينب .. عبده .. هيا . هيا .. آآآه
بقلم / خليفة سالم
___________________
لم تحملني قدماي وأنا أسمع صوت صديق العمر مخنوق بالعبرة وأكاد لا أفقه حديثه لكثرة النشيج الذي صاحب كلماته المتقطعة .
إرتعدت فرائصي وازداد وجيب قلبي وأنا أسأله مذعورا عما به .
صوته كان به حشرجة مخيفة وأكاد أرى دمع عينيه بقلبي وأسمع دقات قلبه الضعيف وهو يقول لي بأسى : ماتا يا صديقي ... ذهبا وتركا لي الحسرة تجوب في أنحاء كياني بلا هوادة .
من هما هؤلاء اللذان ماتا يا أبا عبدالرحمن ؟! قل بسرعة .. لقد أقلقتني !!
أغلق هاتفه ولم أسمع منه جوابا .
تركني في حيرة .. حيرة تنهشني ككلب مسعور .. إتصلت به ولكن جواله لا يرن ..إتصلت بصديقنا سليمان ..
سليمان ما الذي حدث ؟! من مات ؟! أبو عبدالرحمن إتصل بي وهو يبكي ولم أفهم منه شيئا .. من هذان اللذان ماتا ؟!
رد سليمان بصوت ملئه حزن .. صوت لم أعتده منه .. سليمان صاحب الصوت الأجش أسمعه اﻵن على غير عادته يقول : زوجته وابنه عبدالرحمن هما اللذان ماتا !!
ما الذي حدث ؟! كيف ماتا ؟! أهو حادث سير ؟! رد علي سليمان قائلا : نعم في حادث سير !!
يااااه !! يا ويح قلبي .. رحماك يا الله !!
استأذنت حالا وتوجهت مسرعا إلى البلد .. مباشرة إلى منزل أبي عبدالرحمن فرأيته موصدا والى جانبه تجلس سيدة مسنة وكأنها تنتظر شخصا ما ..
السلام عليك خالتي .. أين أبا عبدالرحمن ؟! ماذا حصل ؟!
ردت علي وأرى الدمع يتلألأ في عينيها : آآه يا قلبي على أبي عبدالرحمن .. فقد حبيباه دفعة واحدة .. يا رباه لطفك به والهمه الصبر على مصيبته .
سألتها : أتعرفين أين هو اﻵن ؟!
قالت : ذهبوا الى المستشفى لاحضارهما لاتمام مراسم الدفن .. ألطف يا ربي بهذا الولد .. ولد طيب .. و زوجته رحمها الله كانت من خيرة نساء الحارة .. الطيب لا يدوم يا ولدي .
شعرت برغبة جامحة في البكاء .. جلست على مقعد سيارتي بانتظار الموكب .. لم أستطع أن أسوق سيارتي إلى حيث هم .. رجلاي تنتفضان وكفاي متعرقان وكأنما قد غمسا في إناء ماء حار .
أغلقت على نفسي زجاج نوافذ السيارة وبكيت .. بكيت بحرقة .. فأنا أعلم مدى تعلقهما ببعض .
سمعت صوت زامور سيارة قادمة وإذا بموكب مهيب تتوسطه سيارة نقل الموتى .. سيارة كئيبة رغم بياض لونها .. نزلت من سيارتي .. وعيناي مركزتان في تلك السيارة التي تنقل الحزن إلى البيوت .. نزل أبو عبدالرحمن من تلك السيارة وهو لا يقدر على حمل جسده .. نزل مسنودا بذراعي والده وأخيه .. لم أقدر أن أتحرك من مكاني وكأن قدماي قد تسمرتا في الأرض أو قيدتا بقيد من حديد .. سقط مغشيا عليه بين أذرعهم .. بكى والده بحرقة خوفا عليه .. ناهيك عن حزنه على زوجة إبنه وحفيده .
إنهض يا بني .. أوجعت قلبي .. أرجوك إنهض هذا أمر الله ولا راد لقضاء الله .
رش على وجهه بعض الماء وأفاق قليلا .
قال الاب بصوت محزون : لا حول ولا قوة إلا بالله فلنذهب بهما للبدء في مراسم الدفن .. اللهم أعنا برحمتك يا رب .
كان كلام الأب كالصاعقة التي وقعت على مسامع أبي عبدالرحمن ولكن لا شيء بأيدينا أن نفعله سوى ما قاله والده .
بعد الانتهاء من مراسم الدفن والتي شارك فيها معظم أهالي البلدة لم أستطع أن أبقى إلى جانبه لكثرة المشيعين وأهله الذين جاءوا من أماكن مختلفة .
كان بيته أشبه بساحة إحتفالات .. يعج بالخلائق ما بين رجال ونساء من مختلف الأعمار .. وجوه لم أرها من قبل .
لم أستطع في ذلك اليوم أن أنام أو أن أتناول أي طعام .. صداع شديد إنتهى بي الى التقيأ لأكثر من مرة ..
أفكر في صديقي الحبيب والمصيبة التي ألمت به . يا الله .. ماذ عساه أن يفعل اﻵن ؟ أول ليلة يعيشها من غير أسرته الصغيرة .
لم أنم أبدا في تلك الليلة وبعد صلاة الفجر ذهبت اليه .. ضغطت على جرس الباب وخرج لي أخوه وعلامات الحزن والانكسار تبدوان على محياه .
أهلا بك يا موسى .. تفضل أدخل .
أين أبا عبدالرحمن ؟!
رد علي بصوته الحزين : على سريره .. متمدد فقط لكن عيناه لم تغمضان طيلة الليل ..
لم يتكلم أبدا ، لم يبك ، لم يتحرك ..
عيناه الحمراوان تدوران في سقف الغرفة وعليهما طفح من دمع وصدمة متسائلة في ألم صامت !!
كان معي في غرفتي .. بدا كأنه صنم مسجى ..حاولت أن أكلمه ولكن بلا جدوى .
تمنيته لو بكى .. لو صرخ .. لو كسر أثاث الغرفة لينفس عن كربه لكن هيهات .
ياالله !! كانت ليلة ثقيلة طويلة .. طويلة جدا وكأنها عشرون عاما .. شعرت وكأنه كان يحمل جبلا على صدره .
أدخل إليه علك تقدر على إخراجه ولو قليلا من حالته تلك .
دخلت عليه ووجدته متمددا .. إنه مستيقظ .. يجمع كلتا يديه على صدره .. دمعت عيناي بحرقة عجيبة .
جلست على السرير إلى جانبه .. تكلمت بصوت هامس لا يسمعه سواه :
ما من بشر إلا وقد نابته نائبة .. كل الناس مستهم محنة وألم بهم سوء بشكل او بآخر .
الملمات تنزل علينا بأمر الله .. من هذا الذي لم تعضه الليالي ولم تنهشه الهموم ؟
إنها حكمة الله وقضاءه فينا .
أعلم جيدا أنك فقدت أغلى إثنين في حياتك ولكن هل باليد حيلة ؟ هذا أمر الله وأنت رجل مؤمن .
قال لي بصوت مبحوح دون أن يلتفت الي :
لم أجترح أي خطيئة في حياتي .. فلماذا ؟ لماذا يذهب عني أغلى شخصين بحياتي هكذا في غمضة عين وبلا مقدمات ؟! لماذا ؟! لماذا ؟!
قلت له : هون عليك يا أخي . أذكر الله !!
قال بصوت باك : لا إله إلا الله .. رحمتك يا رحمن السموات والارض .
إن ما بي لا تتحمله الجبال الراسيات .. حزن عميق يذبحني .. ذهب حبيباي يا صديقي .. ذهبا .. قلت له : والله اني لأحس بما تحس به من ألم واتألم لأجلك .
لحظات صمت لم تطل حتى التفت إلي وهو يبتسم ابتسامة باهتة لا معنى لها .. قال لي :هل تذكر عندما طلبتها من والدها للزواج ورفضني بحجة قلة راتبي ؟ واني لن أستطيع إسعادها ؟ وقفت هي إلى جانبي .. نعم هي .. وحاولت ان تقنع والدها وبالفعل نجحت وأقنعته .
هل تذكر كيف كان عرسنا .. والقاعة التي استأجرتها أنت لزفافنا ؟!
هل .. هل تذكر يا موسى الفرقة الشعبية التي استأجرها صديقنا سليمان لإحياء حفل زفافنا ؟! لا أنسى وقوفكم إلى جانبي أبدا ما حييت ..
كانت زينب سعيدة .. بدت ليلتها كالبدر وهي إلى جانبي في الكوشة .. إبتسامتها لم تفارق محياها أبدا ذلك اليوم . وأنا أطير من الفرح .. لم أصدق يومها أنها الآن إلى جانبي في الكوشة .. كنت ساعتها كالأمير !!
ذهبنا إلى صلالة لقضاء شهر العسل .. تعلم أني لا أقدر على السفر بعيدا لضيق ذات اليد .. كانت راضية قانعة فرحة ما دام حلمنا بالزواج من بعضنا بعضا قد تحقق فما عداه لا يهم .
هل تذكر يا موسى كيف كانت سعادتنا عندما أنجبنا عبدالرحمن ؟! يااااه .. عبدالرحمن ولدي حبيبي .. كان يشبهني كثيرا .. هي كانت تقول دائما : عبدالرحمن نسخة منك يا أبا عبدالرحمن !!
أربعة أعوام وكأنني كنت أعيش معهما في الجنة ..
لم تكدر خاطري يوما .. كانت تتحمل ضيق ذات يدي .. أعلم أنها كانت تتمنى مثل باقي النساء أن تشتري ملابسا جديدة وأشياء حديثة كباقي قريناتها ولكن ما كانت أبدا تشتكي .. كانت تقول دائما : لا يهم الملابس فالاهم أنت وعبدالرحمن وكفى .. أنتما حياتي وجنتي .. عبدالرحمن هو النسمة الرقيقة في هذا البيت وأنت نوره الذي يضيئه .
انتهى كل شيء وأفقت من الحلم يا موسى .. افقت .. كنت كمن يحلم .. ذهبا .. ذهبا ولن يعودا أبدا ..
ماذا افعل بدونهما ؟ كيف أحيا من غير زينب وعبدالرحمن ؟ ما قيمة الحياة بعد حبيباي يا موسى ؟!
أخبرني بالله عليك .. هل أجد بعدهما نورا في هذا البيت أو رائحة طيبة ؟!
رائحة الموت تزكم أنفي ووجع الفقد يعصر فؤادي .أنا حزين يا موسى وحزني عظيم ..
لم أدر ما أقول ..
أنا اعلم جيدا أن كل ما ذكره حقيقة وأشعر به .. أشعر به جدا ولكن أنى لي بجبر خاطره المنكسر ؟! وأنى لي التنفيس عن كربته وإطفاء حر كبده ؟؟
أشاطره الحزن والألم وكل ما يمكنني قوله في ذلك الموقف : ( اصبر وما صبرك الا بالله ) يا صديقي .
شعرت بصداع فظيع وعيناي تؤلماني ..
خرجت .. بلا وجهة لا أدرى إلى أين .. ياالله إرأف بصديقي في محنته .. في الطريق قابلني والده وسلمت عليه .. رأيت الدموع تملأ مقلتيه .. قلت له : سأعود .. عل نفسه تهدأ قليلا .
قال لي (بصوت مغموم) وهو يواصل سيره : لا أظنه قريبا .
مرت ايام وانا اعيش في حالة نفسية عصيبة .. الامر ليس سهلا كي يتناساه صديقي .. وانا مدرك تماما انه يمر بأزمة نفسيه .. فإن كنت انا الصديق واشعر بوجعه فكيف هو ؟
لم اشأ ان ازعجه فأنا اعلم انه على غير استعداد للحديث مع احد او الجلوس مع احد وهذا ما اكده لي اخاه وانا اتصل به يوميا للسؤال عنه .. ولا يستطيع احدنا لومه .. انها محنة عصيبة وأي محنة .
بعد ايام قررت الذهاب لزيارته علي اجده بحال افضل ولو قليلا .
قابلت والده وكان يسير على مهل متكئا على عصاه ومطأطئا راسه وكأنه في عالم آخر .. رأيته مهموما .. آآه من هم الوالد على ابنه .. فكيف ان كان ابنه واسرته الصغيره .
سلمت عليه بحراره وشعرت بأنه لا رغبة لديه في الحديث مع احد ومع ذلك سألته رغم اشفاقي عليه : أين ذهب ابا عبدالرحمن ؟!
رفع عصاه التي يتكىء عليها .. أشار بها قائلا وعيناه تنظران صوب نفس الطريق التي مشت فيها جنازة الفجيعة ذلك اليوم : إلى هناك .. إلى ...
ولم يكمل .. كانت دموعه قد أكملت كلامه وهو يواصل سيره جهة المقبرة .. سرت وراءه .. وجدناه هناك .. صدمني مرآه .. كان يجثو بين قبري زوجته وابنه .. ثيابه ملطخة بالتراب .. وجهه .. قدماه .. يداه .. شعره .. كل شيء عليه خيل لي كأنه خارج للتو من قبر .. كانت حالته قد انقلبت بشكل مأساوي فاجع .. يضحك .. يقهقه و .. يهذي ..
- زينب .. عبدالرحمن هيا .. افيقا .. يكفيكما نوم .. زينب ما هذا الثوب الابيض عليك ؟ .. بدليه .. اللون الأسود يليق بك اكثر .. عبده حبيبي .. جلبت لك أحلى هدية الا تود ان تفتحها ؟ هيا .. تأخرنا كثيرا !!
زينب جهزي الإفطار من فضلك .. عبده حبيبي تعال .. بابا .. زينب .. عبده .. هيا . هيا .. آآآه
بقلم / خليفة سالم
___________________