المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [ قـصـة منـقـولـة ] قصة السجن الذهبي



صدى صوت
13-12-2017, 01:30 PM
قديماً كانت السّجون تحت الأرض، ثم صعدت فوق التُّراب، ثم اعتلت قِمَم الجبال، ثم انتقلتْ إلى أفخم الفنادق، ثم سيتحوّلُ العالمُ كلُّه سجناً، قبل أن ينهضَ النّاس من القُبور، وتنتهي الدّنيا إلى مآلها الأخير.

ولم يعد السجن تلكَ الحُجرة المُظلمة الضيّقة التي يُزاحم عرضُها طولها حتى تختلطَ عضلاتُ مَنْ فيها، بل أصبحَ بالإمكان أن يُطلق على أفخمِ وأكثرِ الفنادقِ رفاهيةً في العالم لقب "السجن الذّهبي"، وتبقى نُقطة التّلاقي بين السّجن الأوّل والثاني، سلب حرّية الإنسان وانتفاء أيّة قدرةٍ له على اتّخاذ قرارٍ أو تحديدِ خِيار.

سجنٌ بحوضِ سباحةٍ فخم ومطاعم راقية من كلّ جنسية، وصالات رياضية من كلّ صنف، وغرف مجهّزة بأدقّ التفاصيل المَطلوبة، فقد تُنفقُ كلّ ثروتكَ التي شَقيْتَ في جَمعها يا منْ تقرأُ هذه الكلمات إنْ فكّرتَ مرةً أن تظفرَ بفرصةِ قضاءِ يومٍ واحدٍ فيه؛ لِتنسى كلّ ما شاهدتهُ في دُور السينما من أفلام هوليوود وبوليوود العالمية وديكوراتها التي تُبهر العينَ وتسحر الألباب.

كنتُ متجهاً إلى الرباط عبر القطار القادم من الدار البيضاء، وكَعادتي جلستُ أتصفّح بعض الجرائد، فإذا بشيخٍ طاعنٍ في السن يَجلسُ بجواري يحاول مدّ رأسهِ لِيقرأَ على ما يَبدو عناوين الأخبار قبلَ أنْ يستوقفَهُ عنوان بالخطّ العريض: "قصّةُ السجن الذهبي"، فبَادرني بِنبرةٍ شرقية: لقد حدثَ معي نفس الشيء، التفتُّ بسرعة نحوهُ فاسْترسلَ في الكلام دون تردّد:

كنتُ أستيقظُ في الصّباح على نغماتِ موسيقى هادئة، أقصدُ صالةَ الرياضة وقد انتظرني هناكَ جمعٌ من أساتذتها في مختلف التخصّصات، أتناولُ فطوري المفضّل كما اخترتهُ من قبلُ على الّلوحة الإلكترونية، بعد أخذ حمام دافئ في جاكوزي ذهبي مُريح متصفّحاً هاتفي الذكي آخر موديل، أستكشفُ ما آلت إليه أسهُمي ورؤوس أموالي في الأسواق الدولية، ثم أعرّجُ على حصة المساج الياباني؛ لتسترخي عضلاتي كما يسترخي المُسافر من عَناء السفر وأنا أتابعُ رقصات العصافير أمامي تشدو لحناً حزيناً من قفصها الذهبي، ألبسُ من الثّياب ما تطيبُه نفسي ويشتهِيهِ ذَوقي من بين مئات البدلات المعلّقة والأحذية الفاخرة المرتّبة من كلّ نوعٍ ولون، أتعطّر كعادتي بعِطري المميّز المستوردِ من أرقى المحلات العالمية، ثم أحملُ حقيبتي المصنوعة من جلدِ تمساحٍ أصلي وقد عُبّئت بمجلاّت متخصصة في آخر صيحات الموضة؛ كي أُلقيَ عليها بعض النظرات في مكتبي الأنيق، أسترقُ نظرةً خاطفة من نافذة البَهو الفسيح لألمحَ سائقي في الخارج وقد تسمّر قربَ بابِ سيارة رويسروس بيضاء ينتظرُ قُدومي، ثم أستقل المِصعدَ الإلكتروني الشفّاف لأنزلَ إلى ساحة الاستقبالات وأنا أتلقى سيلاً من التحيات والمتمنيات بصباح يومٍ جميل.

وبينما أنا أستعدُّ للخروج من باب الفُندق الزجاجي، إذا بصوتٍ حازمٍ يُناديني من الخلف: معذرة سيدي.. الخروج ممنوع وصلتنا تعليماتٌ صارمة بذلك! بينما أبوابُ الفندق تعودُ للانغلاق، في نفس اللحظة اختفى مدلولُ الحرية من قاموسي، وتبدّدت هَيْبتي كما تتبدّد الغيوم، وكانت هذه الجملة التي وُجّهت إليَّ مباشرة كفيلة بأن تُدخلني في عالمٍ آخرٍ أعيشُ فيه كل شيء، لكن يدي لا تَطالُ أيّ شيء كما كانت من قبل، تظاهرت بالهدوء ورجعتُ إلى غُرفتي وقد بدت الجُدران المتباعدة سوداء ضيقة، والأضواء المتلألئة قاتمة، والوجوهُ التي كانت مبتسمةً بشوشةً منذ قليل مكشرة متأففة، والبروتوكولات المعهودة غائبة تماماً والحياةُ مختلفة كل الاختلاف، وانقطعَ اتصال هاتفي بالشبكة العنكبوتية ففقدْتُ القدرة على معرفةِ ما يدورُ في الخارج ويُطبخُ في الكواليس، وما يحدثُ معي بالضبط، وما يُصنعُ الآن بثَرواتي ومشاريعي في كل مكان، تذكرتُّ لحظتها عصافيري التي دائماً ما تُحاول الخروجَ من قفصها الذهبي إلى أجواء السراح رغم ما أضعُ أمامها من أجودِ الأطعمة وأغلاَها، فعلمتُ أنَّ الحرية هي أغلى ما كنتُ أملك، وأنفس ما يَضيعُ منّي الآن.

فقد تقضي عمرك يا بنيّ خادماً مطيعاً لأسيادك تنفّذ ما تُؤمرُ به أحسنَ تنفيذ، تُلبّي كل ما يطلبون منكَ فلا تناقشُهم فيه أو تستفسرهُم عنه، تعملُ بإخلاصٍ ليلَ نهار دون بيّنة، لا تعرفُ للراحة سبيلاً ولا لنفسكَ حقّاً عليك، ثم بين ليلةٍ وضُحاها تنقلبُ في نظرهم إلى عدوٍّ غاشمٍ متربصٍ كما لو أنَّك لمْ تكن يوماً من المقرّبين أميناً على سِرّهم وأسرارهم، فيُحيطون بكَ كما تُحيط الكواسرُ بالحمَل الوديع، لا يَرْقُبونَ فيك إِلًّا وَلَا ذِمَّة، بل يسحقونكَ بحوافرهم ويخربون كل ما أنجزتَهُ وسهِرتَ على تحقيقه والإنفاق عليه زمناً طويلاً.


لا تثقْ يا بنيَّ بمَنْ تمدُّ لهم يدَ العَون، أو تتحالفُ مَعهم على عدوٍّ ثالث، فقد يأتي يومٌ لا يُفرّقون بينكما فيتّهمونكَ بالباطل ويذهب كل ما صنعتَهُ أدراجَ الرّياح؛ لتموتَ بغَيْظكَ وحسرتكَ قبلَ أن تَقضي بحدِّ سيفهم، وإياك أن تضعَ يدكَ مع باعةِ الدّين، فقدْ هانَ عليهم دينُهم الذي ارتضاهُ الله لهُم فكيفَ لا يهونُ القريبُ في أعيُنهم وقد باعوهُ من أجلِ مَصالحهم بأبخسِ الأثْمان، ولا تكِنّ إلى الظّلم وأنتَ تعلم، فنارُهُ وإنْ استعرتْ بمعزل عنك، فإنَّ لهيبها يزحفُ نحوكَ رويداً رويداً إلى أن يحرقكَ فتصير رماداً حقيراً تلعبُ به الرياح كيفَ تشاء.

ولا تلعنْ غدر الزمان يا بنيّ، ولكن احذرْ غدرَ الإنسان، فالزّمانُ وقتٌ نمضيهِ ونستهلكه، أما الإنسان فغدرهُ من جِبلّتِه وطبعِه، فإنْ تأمنه دَهراً يقذفْكَ جهراً.

ثم اتبع بقول الشاعر:

الدّهرُ يومان ذا أمنٍ وذا خطرٍ ** والعيشُ عيشان ذا صفوٍ وذا كدرِ

لم أنتبه لنفسي إلا ومراقبُ التذاكر بجانبي يطالبني بتذكرة القطار، ومكبّر الصوت يُنبهنا بالوصولِ إلى محطة الرباط "أكدال"، فودعتُ شيخَنا الذي ما زالَ في جُعبته الكثير، وانْصرفتُ شارداً وكلماتُه ترنُّ في أُذني.

أميرة الروح
13-12-2017, 03:09 PM
قصة رائعة
بارك الله فيك

كاتمة الإحساس
13-12-2017, 08:22 PM
قصة رائعه
سلمت اناملك
شكرا جزيلا لك

نديم الماضي
13-12-2017, 10:14 PM
قصه جميله ورائعه
بارك الله فيك دائم مبدع في الانتقاء

رايق البال
15-12-2017, 11:56 PM
هلا صدى ..
قصه جدا رائعه كما تعودنا منك
الف شكر لإختيارك وتفاعلك الجميل
طابت مساءاتك ..
( طرح يستحق النجوم الخمس)

شموس الحق
17-12-2017, 10:38 AM
جميل ما قرات اخي ابو سالم لكن كلمة السجن لها مدلول واحد فقط
هو كبت وتقييد الحرية مثلها مثل الصحة اذا فقدتها فلن يغنيك الترفيه
مهما كان ولن يشعر بقيمة الحر ية الا من فقد الحرية . لك شكري وتقديري ابو سالم

نوارة الكون
18-12-2017, 07:51 AM
سلمت يمناك اخي
انتقاء جميل وتواجد اجمل
دمت في حفظ الرحمن ورعايته