المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اختلاف الألفاظ، لا يقتضي اختلاف المعنى و”النظام الأساسي للدولة” نموذجًا



صدى صوت
18-12-2018, 10:54 AM
د. سالم الشكيلي يكتب: اختلاف الألفاظ، لا يقتضي اختلاف المعنى و”النظام الأساسي للدولة” نموذجًا

*



أثير- د.سالم الشكيلي

اللغة العربية مفرداتها واسعة، والكلمة الواحدة قد يكون لها مفردات عديدة لكنها قد تعطي ذات المعنى ، فكلمة «صَرَف» مثلًا لها تصاريف عدة ، وكل تصريف يحمل معنًى مغايرًا ، فصَرَفَه تعني جعله يذهب ، وصرّفه تعني المبالغة في المعنى الأول ، وتعني أيضًا عدّل فيه ، والصرف علم من علوم البلاغة العربية ، والصروف تعني خطوب الدهر ، هذا بخلاف أن اللفظة الواحدة تحتمل عدة ألفاظ تحمل المعنى نفسه ، وهكذا في غيرها من الأسماء أو الأفعال ، وهذا هو جوهر هذا المقال ، لذا فالمغزى من إيراد هذا المدخَل ، هو بيان أنّ لُغَة الضَاد بحرٌ من المفردات تمنحنا سعة من الاختيارِ للمعنى الذي نريد تحقيقه ، وهذه السعة لا يمكن أن تجعلنا أسرى لمفردة معينة أو لفظ بذاته .

وكما هو معلوم ، لكلِ علمٍ لغته ، فللشريعة لغة ، وللتاريخ لغة ، وللجغرافيا لغة ، وللطب لغة ، كما للقانون لغة خاصة به ، وترتيبًا على هذا الاختلاف فليس بمقدور المتخصص في التاريخ أو الجغرافيا أو الطب أن يفهم لغة القانون كما يفهمها رجل القانون ، بل حتى في ظل القانون هناك فروع مختلفة ، فللقانون الجنائي أو الجزائي لغة ، وللقانون التجاري لغة ، وللقانون الدستوري لغة ، وهكذا …

ومن الإشارة الضرورية أيضًا ، أنه في ظل هذه العلوم كلها تُوجد كلمات أو ألفاظ معينة ومخصوصة ، الأول لغوي والثاني اصطلاحي ، والمقدم في هذا يكون المعنى الاصطلاحي ، فلو أخذنا مثلًا كلمة « جمود » فهي تطلق على الشيء الثابت الساكن غير المتحرك ، لكنها في علم القانون الدستوري فلها معنى مغاير فيقال دستور جامد أو نظام أساسي جامد ، وتعني اصطلاحًا أنّ هذا الدستور أو النظام الأساسي لا يمكن تعديله بالطرق والإجراءات التي تُعدّل بها القوانين العادية ، وإنما بإجراءات أكثر صعوبة من الأولى مهما تضاءلت هذه الصعوبة .

وإذا كانت سلطنة عمان لم تأخذ بمصطلح الدستور ، واختارت تسمية النظام الأساسي للدولة ، فإننا نجزم ونؤكد أنه اختيار حكيم وموفق ، وشرحنا ذلك من خلال مؤلفين سابقين أحدهما كان في عام ٢٠٠٦م بعنوان : “الوسيط في القانون النظامي والنظام الأساسي العماني” ، والمؤلَّف الآخر في عام ٢٠١٢م بعنوان : “شرح المبادئ العامة في القانون الدستوري والنظام الأساسي العماني” ، والاجتهاد قادنا في حيثيات ذلك إلى سببين :
الأول : أن كلمة دستور ، فارسية الأصل ، وهي كلمة مركبة من (دست) و (وور) وتعني : “صاحب قاعدة” ، وانتقلت تلك الكلمة إلى العربية عن طريق اللغة التركية ، وجلالة السلطان المعظم حفظه الله حريص على استخدام مفردات اللغة العربية ، كلما كان ، وأينما كان ذلك ممكنًا ، وزدنا على حكمة وصواب هذه التسمية ، مناشدة بعض فقهاء القانون الدستوري باستبدال كلمة الدستور بمصطلح “النظام الأساسي أو القانون الأساسي” ، وهما مسمّيان كانا مستخدمَين سابقًا في مصر والعراق والأردن ، ودلّلنا أيضًا على حرص جلالته بالتوجيه من مقامه السامي باستخدام لفظ الباحثين عن عمل بدلًا من البطالة ، نظرًا لما تسببه هذه الكلمة من وصف قاسٍ في نفوس أولئك الذين لم يجدوا فرصة عمل بعد .
الثاني : كلمة دستور في اللغتين الفرنسية والإنجليزية يقابلها كلمة conistution وتعني الأساس أو التكوين ، ما يعني أننا اختصرنا المسافة واخترنا مصطلح أو لفظ النظام الأساسي للدولة .

أذْكر في عام ٢٠١٢م جمعتني الأقدار بفقيه كبير في القانون الدستوري ، هو الأستاذ الدكتور ثروت بدوي رحمة الله عليه ، حيث كنا نحن الاثنان نحضر مؤتمرًا علميًا في جامعة الإسكندرية ، وكان من حسن حظي أن يكون هو رئيسًا للجلسة التي سألقي فيها ورقتي البحثية ، فدار بيننا نقاش قبل الجلسة حيث بادرني بسؤاله التالي : هل ما زلتم في عمان بدون دستور ؟ فأجبته بلى لدينا دستور هو النظام الأساسي للدولة صدر في عام ١٩٩٦م ، فقال ولكن هذا ليس دستورًا فرددت عليه تعلمت على يديك عندما كنت طالبًا في بداية الثمانينات من العقد الماضي بأنّ الدستور يحتوي على كذا وكذا وكذا … والنظام الأساسي العماني يحتوي على كل ما يحتويه الدستور … وبعد حوار طويل صمت معلمي صمتًا مطبقًا فظننت أنه غضب مني ، فحان وقت الجلسة واعتلى سيادته المنصة ، وتثاقلت قدماي عند سيري إلى المنصة لمعرفتي بجراءة الرجل وصراحته المعهودة ، ولذاعة لسانه عند التأنيب ، وأقول لنفسي وقعت اليوم في شر أعمالي … وكانت المفاجأة عندما أراد تقديمي ، حيث بدأ قوله « كان طالبًا فأصبح فقيهًا تكلم بالحجة وببلاغة المنطق لا أخجل أمامكم أيها الحضور من أنحني تقديرًا له …» وما كاد الرجل يكمل حديثه حتى قبلته على رأسه تواضعًا واحترامًا وإجلالًا لمن كان يومًا استاذًا ومعلمًا لي .

ومما يؤسف له ما يقوله البعض ممن يحبسون أنفسهم في الألفاظ المختزلة في أذهانهم ، والتي لا تعني عندهم إلا معنىً واحدًا ، بأنه لا يوجد في السلطنة دستور ولا نظام دستوري ، وهم بذلك مع حسن القصد منهم ، جانَبَهم الصواب في هذا ، ونفوا عن البلاد صفة الدولة القانونية وجحدوا وجود دولة المؤسسات القائمة على العدل والمساواة والشورى ، كل هذا لأننا لم نأخذ بمصطلح الدستور ، كما يريدون .

عفوًا أيها السادة ، لدينا دستور ، ولدينا نظام دستوري ، وإن اختلفت التسميات ، فالمسمى المقصود يفضي إلى المعنى المراد ، بل وربما أكثر شمولًا وإيضاحًا وتطوّرًا ، وللتوضيح أكثر ، دعونا نناقش أولًا ، ما الذي يتضمنه دستور أي دولة ، فهو بالقطع يتضمن بيان شكل الدولة والمبادئ الموجهة لسياستها ، وتحديد نظام الحكم فيها ، وتعيين السلطات العامة التنفيذية والتشريعية والقضائية ، واختصاص كل سلطة منها وعلاقة بعضها ببعض ، بالإضافة إلى النص على الحقوق والحريات والواجبات العامة للمواطنين ، ثانيا ، لننظر إلى النظام الأساسي للدولة وسؤال صريح موجه لهؤلاء النافين لوجود دستور لدينا : هل اختلف النظام الأساسي للدولة في مضمونه ومحتواه عما تتضمنه دساتير العالم ؟ والإجابة المنطقية والصائبة ، لمن يفهم في الدساتير ، لن تكون بالنفي ، إلا إذا كانت إجابتكم بخلاف هذا ، عندها سنقول لكم مرة أخرى قد جانَبَكم الصواب ، ولكن هذه المرة لن نُحسن الظنّ فيكم ، لأنّنا الآن نقارعكم الحجة بالحجة ، والعلم والمنطق ، فالنظام الأساسي للدولة تحدث عن الدولة والمبادئ الأساسية لها ، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، كما تضمن نظام الحكم في السلطنة ، وشملت مواده : السلطان وكيفية اختياره ، والاختصاصات التي يمارسها جلالته ، أعقب ذلك المواد المتعلقة بمجلس الوزراء والمجالس المتخصصة ، واشتمل على باب خاص بمجلس عمان بجناحيه الدولة والشورى واختصاصاث كل منها ، ليأتي بعد ذلك باب مستقل خاص بالسلطة القضائية ومبدأ سيادة القانون ، وأخيرًا ، باب آخر بالحقوق والحريات والواجبات العامة ، فهل تجدون حقًا اختلافًا بين الاثنين ؟ أم هي المكابرة فقط والتمسك بالألفاظ دون المعاني ! “مالكُم ، كيف تحكمون ؟”

لقد كنت حريصًا في كتاب الوسيط السابق الإشارة إليه على استخدام مصطلح القانون النظامي كمرادف للقانون الدستوري ، ومصطلح القاعدة النظامية كمرادف للقاعدة الدستورية ، ولكن أصدقكم القول لم أجد استجابة وقبولا لهذا المنحى لدى طلبتي في كلية الحقوق ولا لدى رجال القانون ، لسبب بسيط أنّ الناس اعتادت على مصطلحَي القانون الدستوري والنظام الدستوري وأصبحا ذائعي الصيت والانتشار ، الأمر الذي حتم عليّ العودة عن ذلك في كتاب شرح المبادئ العامة في القانون الدستوري والنظام الأساسي العماني عام ٢٠١٢م ، وكنت حريصًا على الإبقاء على خصوصية التسمية العمانية والدفاع عنها كما يجب ، وهذا ما حصل أيضًا في الكتاب الجديد “النظام السياسي والدستوري في سلطنة عمان” ، حيث سيجد القارئ الكريم ما تم تسطيره في هذا الخصوص بسهولة ، بل إنه تم بيان الفرق بين ما اعتاد عليه النص في بعض الدساتير ، من أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع ، وبين ما جاء به النظام الأساسي للدولة بهذا الشأن ، بقوله الشريعة الإسلامية هي أساس التشريع ، وهو وصفٌ أكثر دقة ومعنى ، فالأساس هو ما يبنى عليه ، وقد فندت ذلك بالحجج والأسانيد التي أراها من وجهة نظري مقنعة ومنصفة .

أيها الإخوة الكرام ، من المسؤولين خصوصًا والآخرين عمومًا ، إنّ التشبّث بالألفاظ حرفيًا في مواضع معينة ، لا يخدم البلد ، وإنما ضرره أكثر من نفعه ، فالسلطنة وبفضل وحكمة جلالة السلطان -متعه ربي بالصحة والعافية- تسير نحو العلا بحكمة بالغة ، وبصيرة ثاقبة ، في كل مجالات الحياة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، دعونا نتشارك في بناء الوطن العزيز كلٌّ من موقعه ، فكلنا عمانيون ندين له بالولاء والانتماء ، فليس بيننا ثمة شخص غير حريص عليه ، لا تستحوذوا ، ولا تصرّوا على تمرير قراراتكم في المسائل المصيرية ، استشيروا أصحاب الاختصاص والتخصص ، استشارة من يريد تقديم خدمة أفضل ، وليس لمجرد استشارة لا يتم العمل بها ، وأكرر أن تُعرض الاستشارة على أصحاب التخصص ، ومعاذ الله أن أقصد نفسي بذلك ، فعمان ملأى بالمتخصصين الأكفاء ، وهي دولةٌ ولاّدة ، ولا تسمعوا فقط ممن يمالئ السلطة ويخاف على كرسيه من الطيران منه .

وأخيرًا أود التأكيد على نقطة مهمة ، وهي أنّ هذا المقال ليس من مقاصده الهجوم على أحد ، أو نقد شخص بذاته ، فالجميع أكنّ لهم من الاحترام والتقدير ما يستحقونه وأكثر ، وهم أيضًا هاماتهم وقاماتهم الوظيفة والاجتماعية محفوظة ومصانة ، لكنّ مقاصد المقال بحق ، هي بيان الحقائق والمفاهيم التي “قد” وأقول “قد” لا يدركها البعض ، واختلافنا في الرأي لا يُفسد الود بيننا