المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حرية تعبير منقطعة الجذور



fawaz_a
27-01-2015, 02:17 PM
رحاب أبو هوشر
بدونا شعوباً متمرسة في حرية التعبير، ونحن ندين فعل الصحيفة المشبوه بدوافع سياسية، إبان أزمة كاريكاتورات صحيفة "شارلي إيبدو". بدونا أيضًا مؤمنين بها كحق من حقوق الإنسان المُقدسة، بل ونعرف ما يتفق معها فلسفيا وقانونيا وأخلاقيا، وما فعلته الصحيفة من انتهاكات لها، في الوقت الذي كان يمكننا فيه إدانتها مستندين إلى ما نعرف، رجوعًا لإرثنا الثقافي والفكري والخطاب الديني فقط، وما لدينا من مفاهيم خاصة تؤطر واقعنا وترسم خطوطه وحدوده، لكننا آثرنا أن نتخاطب فيما بيننا، ناهيك عن مخاطبة العالم، انطلاقا من عبارة "حرية التعبير" بمفهومها الحديث، كما لو أن البعض رغب بذلك أن يدين الحرية ذاتها، ويزدريها بعد أن أمسك بها متلبسة بالانفلات والفوضى والاعتداء على الآخرين، ليضع إصبعه في عين المطالبين بها هنا، فتلك الصحيفة تجرأت على التطاول على مقدساتنا بسبب حرية التعبير في الغرب!.
استعرنا مفهوما مستحدثا وطارئا على حياتنا، لكي نبدو مقنعين لأنفسنا وللعالم، ولكي نشعر بالانسجام مع عالم حديث، مهما كان مقدار اتفاقنا أو اختلافنا معه، إلا أن ما لا يمكننا إنكاره أو تجاهله، أن مفهوم "الحرية" شكل ركيزة بناء إنسانه ومجتمعاته، ودينامية تقدمه وتطوره إلى اليوم. وكذلك استعرناه للهروب من مواجهة بنية ثقافية وفكرية تاريخية، مستمرة وشديدة الفاعلية، لا يحتوي قاموسها على مفردة الحرية.
كاريكاتورات "شارلي إيبدو" وما سبقها في هولندا والدنمارك وغيرها، أعمال مباشرة فجة ورديئة، تتقصد السخرية وإهانة المسلمين لأغراض سياسية بحتة، وفي الغرب كثيرون اعتبروها منافية لقيم الحرية. ولكن لو كانت أعمالاً فكرية نقدية، تتناول الخطاب الديني والفقه التشريعي والتاريخ الإسلامي، هل كان الموقف الاحتجاجي سيختلف؟ ولو كانت أعمالاً أدبية أو فنية، تعالج ثيمات دينية ما في قالب من التخييل الإبداعي، أو تتضمن رموزا واستعارات تم "تأويلها"مساساً بالمقدس، هل كانت ستقبل بوصفها عملاً في إطار حرية التعبير؟
قانون "الحسبة" النافذ في كثير من البلدان العربية اليوم، الممثل "القانوني" للاستبداد والإرهاب، يسخر من مرافعات البعض الأخيرة، باسم "حرية التعبير". عشرات من الكتب الفكرية والأدبية صودرت وما تزال تصادر، مواد إعلامية وأفلام سينمائية يجري فيها المقص يومياً، صحفيون وكتاب وفنانون كثر، بل وحتى دعاة دينيون، مثلوا أمام المحاكم في قضايا "الحسبة"، لأنّ أعمالهم اعتبرت تطاولاً ومساسًا بالمقدس الديني، وفق فهم من رفع القضية، شخصًا كان أو مؤسسة.
ما هي حرية التعبير التي نعرفها، لنحاجج من خلالها الصحيفة، وما زالت الذاكرة قريبة وطازجة بأعمال القتل والتهديد والتكفير ومصادرة الكلمة؟ اغتيل المفكر فرج فودة عام 1992 من قبل تكفيريين، لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، كل ذنبه كان اتساع الفجوة بين فكر ينشد خطابًا تنويريًا مجددًا، وبين خطاب ديني مغلق ومحنط، يفتقد للمخيلة واللغة المعاصرة، ويعطي الحق لأيّ شخص بغض النظر عن مؤهلاته وقدراته، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا إرهاب صريح!. وفي عام 1994، تعرض الروائي الراحل نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، على يد متطرف إسلامي، احتجاجًا على روايته "أولاد حارتنا"، زعموا أنها تمس بالذات الإلهية. عندما سأل القاضي المجرم إن كان قرأ الرواية، أجاب: لا، هم أخبروني أن بها كفرا! والمفكر الراحل "نصر حامد أبو زيد"، لم يغفر له انتماؤه الفكري التأسيسي لمؤسسة الأزهر، لوحق وطلق من زوجته، وهدد بالقتل مرات بسبب آرائه وكتبه النقدية، حتى هرب ولجأ إلى هولندا سنوات، وعندما مات قالوا: هلك الكافر. ولم ينج غيرهم من الكتاب والمبدعين من التكفير والشتم والتهديد، وإن نجوا حتى الآن من القتل.
حالات مصادرة حق التعبير والرأي في حياتنا لا تعد ولا تحصى، ولا تقتصر على الصدام مع السلطة الدينية، فتاريخنا القديم والحديث مثقل باستبداد الأنظمة السياسية وإسكاتها للأقلام والأصوات المعارضة، تصفية وسجنا وترويعا. مناخات إرهاب، جففت الحياة العامة السياسية، وأثرت على الإنتاج الفكري والإبداعي ودوره، لصالح الخطاب الديني "الأصولي" والسلطة السياسية اللذين يتناوبان على ترهيب المجتمع. ليس من الحكمة أن يدفع كل كاتب ومبدع حياته ثمنًا لرأي وموقف وفكرة، لا سيما إذا كانت مواجهته مع مجتمع بأكمله!.
هذه المصادرة العنيفة لحق التعبير، لم تحدث على نحو ظرفي مفاجئ، بل إنها ممتدة وذات عمق تاريخي في ذهنية جماعية قامت على أحادية التفكير ونفي الآخر حد تصفيته. لا يسعفنا تاريخنا إلا بإحراق الكتب ومنعها، واضطهاد المفكرين والعلماء والفلاسفة واتهامهم بالزندقة والإلحاد وأشهرهم: ابن رشد، الفارابي، ابن سينا، والفيلسوف الكندي وله قول معروف مدافعا عن نفسه أمام "المتوكل" بعد أن أمر بقتله ومصادرة كتبه، بأن أعداء الفلسفة جهلة وأغبياء وتجار دين!
بعد مضي أربعة أعوام على "الربيع العربي"، ترجم كثيرون في مجتمعاتنا فهمهم لحرية التعبير، بإغلاق الطرق وتخريب الممتلكات وأعمال الحرق وشتم وتهديد من يختلفون معه، وأحياناً قتله.
هل صدفة أن مفهوم الحرية برمته نتج عن علم الفلسفة؟!

ورد القرنفل 1
29-01-2015, 09:35 AM
ينقل الى مكانه المناسب ليلقى التفاعل الاكثر
احترامي لك