المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : انطون تشيخوف.. نساج أحلامنا 1860 ـ 1904



نـــــــقــــــــاء
23-10-2015, 10:33 AM
الخلفية التي برزت فيها شخصية هذا الكاتب لتظهر على مسرح الحياة هي خلفية كئيبة بحيث لم يجد مايقول في بلدته بعد سنوات إلا أنها "قذرة وممّلة، شوارعها مهجورة وسكانها جهلة كسالى". ولكن تشيخوف أدرك منذ مرحلة مبكرة من حياته إنه لن يمضي بقية عمره في تاجانروج. ولذا كان يجلس بين أكياس الطحين وعناقيد النقانق في حانوت والده وهو يحلم برحلة في طول روسيا وعرضها.‏
حياة الضنك هذه لاحقته حتى بعد انتقاله وأسرته ليعيشوا في موسكو حيث بدأ يدرس الطب. أخذ في نفس الفترة يكتب القصص في سبيل تدبير أمور معيشته ومعيشة أسرته على الرغم من أن أباه على قيد الحياة وله أخوان اثنان يكبرانه سناً. فقد شعر منذ وقت مبكر بأن عليه هو بالذات أن ينتشل أسرته من حياة الفقر تلك. الكتابة بالنسبة له كانت إذن مجرد سبيل لكسب لقمة العيش.. ولكنه ظل بعد تخرجه يجمع بين مهنتي الطبيب والكاتب.‏
هكذا جمع بين مهنة الطبيب ومهنة الكاتب، وكان يحبهما كليهما إذ يقول: أشعر بتيقظ ونشوة أكبر حين أكبر حين أدرك بأنني أمتلك مهنتين وليس مهنة واحدة. فالطب هو زوجتي الشرعية، أما الأدب فهو عشيقتي. وحين أملّ إحداهما فإنني أتوجه إلى الأخرى لأقضي الليلة معها".‏
ظل يكتب إذن بعد أن أنهى دراسته وأخذ يرسم بقلمه، وكأنه فنان يمسك بريشته، خطوط بانوراما لروسيا في فترة حالكة كانت تغمرها فيها حالة من الشعور بالمرارة والخيبة وتتنامى فيها بوادر ثورة عارمة كان من شأنها أن تهز العالم من أقصاه إلى أقصاه. فخلال الفترة التي كتب فيها تشيخوف الجزء الأكبر من إنتاجه القصصي، أي بين عامي 1880 و1900 كانت تجتاح بلاده حالة من المرارة نجمت عن إخفاق إصلاحات القيصر ألكسندر الثاني في إحداث تغييرات بعيدة الأثر في حياة السواد الأعظم من الروس. كما كانت البلاد تشهد ولادة طبقة الروليتاريا حيث كان الفلاحون المعدمون يساقون من أراضيهم إلى المعامل المفتوحة حديثاً. وبما أن الروس أكثر استعداداً للتعبير عما في دواخلهم بالمقارنة مع الشعوب الأخرى في أوروبا فقد أنجبت روسيا في هذه الفترة معظم تلك الأسماء العظيمة الخالدة في الأدب الروسي، أبرزهم تولتسوي ودوستويفسكي وتشيخوف.‏
من الانطباعات المبكرة لحياة تشيخوف ربما نبع ذلك المقت الشديد للحياة الرتيبة للطبقة البرجوازية الرثة، وهو ما عالجه في الكثير من قصصه ومسرحياته. وهو يقول على لسان أحد أبطاله في مسرحية "الشقيقات الثلاث": "الناس هنا لا يفعلون شيئاً سوى الأكل والشرب والنوم. ولإدخال بعض التنوّع على حياتهم وليتجنبوا الملل فإنهم ينغمسون في النميمة التي تدعو للإشمئزاز، وفي شرب الفودكا والمقامرة. كل هذه الفظاظة والتفاهة تسحق الأطفال وتخمد أي جذوة لديهم، لذا يتحولون هم أيضاً إلى مخلوقات بائسة نصف ميتة، يماثل أحدهم الآخر تماماً ويصبحون مثل آبائهم وأمهاتهم."‏
إلا أنه مهما كان تأثير تربية تشيخوف المبكرة على شخصيته إلا أنها لم تخمد بالتأكيد تلك "الجذوة" الدفينة في داخله. فكل السير التي كتبت عن تشيخوف تتحدث عن مرحه وحيويته. وقد أظهر منذ أن كان فتى يافعاً شجاعة وميلاً للمزاح لم يفارقاه حتى وهو على فراش الموت. فقبل ساعات من وفاته جلس في سريره وأخذ يبتدع قصة مضحكة يرويها لزوجته ليسرّي عنها ما هي فيه وهي تراه في نزعاته الأخيرة بحيث أخذت تضحك من أعماق قلبها: كما أظهر طاقة هائلة على العمل وتعاطفاً إنسانياً رائعاً، وهو يقول في رسالة لأخيه نيقولاي:

"إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل ليل نهار، والقراءة الدؤوبة، والدراسة والسيطرة على الإرادة. فكل ساعة من الحياة ثمينة."‏

لم تكن تلك مجرد وصايا فارغة بل دستوراً التزم به تمام الالتزام في حياته اليومية. وقد ظل تشيخوف شديد التواضع في نظرته إلى كتاباته طوال حياته على الرغم مما حققه من شهرة، إذ يقول في إحدى رسائله: "

تتراكم خلفي جبالٌ من الأخطاء وأطنان من الورق المليء بالكتابة.. وحياة نجاح مفاجئ. غير أنني ـ بالرغم من ذلك ـ أشعر بأنني لم أكتب سطراً واحداً له قيمة أدبية حقيقية، وإنني أتوق للاختباء في مكان ما لمدة خمس سنوات أو نحو ذلك لأنجز عملاً جاداً دؤوباً. عليّ أن أدرس وأتعلم كل شيء من بدايته، إذ أنني ككاتب إنسان جهول تماماً".‏

ولكنه عندما أخذ يراجع مجموعة أعماله تمهيداً لنشر المجلد السادس منها عام 1902 توصل تشيخوف إلى قناعة بأن المبادئ الأساسية التي استندت عليها أعماله ظلت ثابتة على مدى سنوات عمله. وهذه المبادئ هي البساطة، والصدق،‏
والوصف المقتصد والدقيق، وعدم إقحام الكاتب لوجهات نظره في العمل.. فالمؤلف، بطرحه لقضية ما أو اقتراحه حلاً للمعضلات التي يواجهها أبطاله إنما يحاول في رأيه استغلال القارئ دونما حق، وعلى القارئ أن يتوصل إلى استنتاجاته الخاصة بمطلق حريته على أساس ما يقدمه الكاتب من أدلة وبراهين.‏
وكلما تقدم به العمر كان يرى عمق الرابطة بين أدبه وحياته: لا حوادث ملفتة للنظر، لا عبارات طنَّانة، لا وقفات بطولية بل مجرد موسيقى خافتة، حميمة، مثيرة للمشاعر تكتنفها مناطق رمادية محدودة وأسئلة قليلة تبقى دون إجابة. باختصار، أمور الحياة اليومية العادية التافهة التي تجرّنا وتقربنا من الهاوية النهائية شيئاً فشيئاً. ولقد قال للأديب الروسي تيخونوف: "

كان هدفي دائماً هو أن أقو للناس بكل صدق: تمعنوا بأنفسكم. تأملوا كم هي حياتكم سيئة ومملة، وهذا هو أهم ما يجب أن يدركه الناس. وحينما يدركون هذا فإنهم بالتأكيد سيخلقون حياة جديدة أفضل.

وفي دفتر مذكراته يكشف عن نفس المفهوم إذ يقول: "

يرتقي الإنسان حين نكشف له حقيقته كما هي بالفعل بحيث يراها أمام ناظريه."


يتمسك تشيخوف بالبساطة المطلقة في أسلوبه القصصي وفي شخوص مسرحياته، وحين كان الممثلون يطلبون منه إيضاح كيفية أدائهم لأدوارهم كان يؤكد لهم بأن كل شيء يجب أن يكون بسيطاً شديد البساطة، وأن الأمر الأساسي هو عدم اللجوء إلى الأسلوب المسرحي المصطنع. وهو يقول إنه أراد تصوير الحياة الحقيقية كما يعيشها الناس العاديون وأنه "يجب أن تكتب المسرحية بحيث يأتي فيها الناس ويذهبون، ويتناولون عشاءهم، يتحدثون عن الطقس ويلعبون الورق.. يجب أن يتم تصوير حياتهم كما هي, والناس كما هم في الواقع تماماً، وليس كأنهم يمشون فوق روافع خشبية تستطيل بها قاماتهم".‏

ويضيف ستانيسلافسكي: "تشيخوف معين لا ينضب. فعلى الرغم من أنه يصوّر ظاهرياً الحياة اليومية العادية إلا أنه في الحقيقة لا يتناول الأمور العابرة أو المحدودة حين يطرح تلك القضايا التي تتعلق بالإنسان أينما كان. فالإنسان في الواقع هو الفكرة الروحية المهيمنة التي تتكرر في كل مسرحياته".‏
أما الكاتب الروسي الشهير مكسيم جوركي فهو يقول: "ظل تشيخوف طوال حياته يعيش حياة الروح، لا يتكلَّف على الإطلاق. يحاول أن يكون حراً في داخله...، لا يلقي بالاً إلى ما يتوقعه وينتظره الآخرون من أنطون تشيخوف، أو ما قد يتطلبه منه أولئك الناس الأقل رقة ونعومة.... وبحكِم بساطته الرائعة كان مغرماً بكل ما هو بسيط وجوهري وصادق، كما يتمتع بأسلوبه الخاص في حمل الآخرين على التحلي بالبساطة...."‏
ويضيف جوركي: "تلتمع في عينيه الرماديتين الحزينتين بشكل شبه مستمر نظرة سخرية رقيقة. إلا أنها تتحول أحياناً لتصبح باردة حادة قاسية، وحينذاك تتسرّب إلى صوته الرقيق الودود نبرة حادة، ويتراءى لي عندئذ بأن هذا الإنسان الرقيق المتواضع يستطيع الوقوف في وجه أي قوة معادية، وأن وقفته هذه ستكون صلبة لا تلين".‏
ويختم جوركي بالقول: "ما أحسن أن يتذكر المرء إنساناً من هذا النوع، فهو يحسّ وكأنما هو طيف من السعادة والانشراح يزوره ليعطيه معنى واضحاً للحياة من جديد...."‏
أما لينين فقد قال بعد أن قرأ قصته "العنبر 6" التي تصور أوضاع المرضى في مستشفى للأمراض العقلية: إن العنبر 6 إنما كانت تصور الحياة في روسيا برمتها في ذلك الحين.‏
آخر قصص تشيخوف كانت قصة "العروس" أما آخر مسرحياته فهي "بستان الكرز". وأعماله التي تعد بالمئات منها ما هو شديد القصر وبعضها طويل، ويقول فيها هنري ترويا الذي يعتبر من أفضل من كتب سيرة تشيخوف وغيره من أعلام الأدب الروسي بمن فيهم تولستوي وديستويفسكي إن هذه الأعمال بمجموعها تشكل بانوراما لم يسبق لها مثيل في الحياة الروسية. فجميع الطبقات الاجتماعية في المجتمع الروسي، من الفلاح إلى القس، ومن أستاذ الجامعة إلى الحوذي، ومن الطالب إلى التاجر، كلهم يجدون لهم مكاناً في هذه الكوميديا الإنسانية. وقراءة قصص تشيخوف ومسرحياته تماثل القيام برحلة على متن دوّامة سريعة تنقل القارئ في أرجاء روسيا في أواخر القرن التاسع عشر برفقة دليلٍ صافي التفكير، رابط الجأش يطلعك على كل ما هنالك ولكنه يتجنب التعليق".‏
ويضيف ترويا: "وحدة أسلوب تشيخوف من بداية السلسلة إلى نهايتها وحدة مذهلة. وكما قال في رسالة لشقيقه الكسندر حين كان العقد الأول من حياته الأدبية يوشك على الانقضاء: "الإيجاز قرين الموهبة".‏
ويقول ترويا: "ما لبث النقاد المرموقون والجمهور عامة أن توصلوا إلى قناعة أكيدة أن تشيخوف واحد من أساطين الأدب. فما الذي أضافه إلى ما كتبه غوغول وديستويفسكي وكوركنيف وتولستوي بحيث يبرز المديح الذي حظي به من معاصريه. مزيتان رئيسيتان،" يضيف ترويا، "هما الصدق والاعتدال. فأسلافه المرموقون إنما كانوا يحثون، كل بطريقته، إلى الانفعال العاصف. فهم يأسرون قراءهم بالوصول بالأمور إلى أقصاها. كما أن وصفهم ينحو إلى الغنائية الشديدة واللغة السحرية. أما تشيخوف فكان أول من تكلم بصوت خفيض هامس، وبأسلوب ينم عن الثقة بمن يخاطبه".‏
ويضيف ترويا: "ينحو تشيخوف إلى الاقتصاد في الكلمات بحيث أن لكل كلمة من كلماته أهميتها المستترة. وعلى العكس من الآخرين الذين ينحون باتجاه دعم القارئ عاطفياً ويضحكون معه ويبكون فإن تشيخوف يواجه القارئ بالأحداث والشخصيات وجهاً لوجه ثم يترك له حرية التصرف، وأقصى ما يفعله هو أن يبقي القارئ في حالة توتر عصبي، ثم ينقره بتفاصيل صغيرة يلقي بها في الموضوع المناسب. وهكذا، وبدون عبارات توضيحية، وبضربة مفاجئة واحدة يجد القارئ نفسه وقد فهم الشخصيات فهماً عميقاً. والمرء لا يقرأ قصة لتشيخوف أو يشاهد مسرحية من مسرحياته وهو في حالة نشوة سلبية، بل ينغمس في الحدث ويشارك فيه، باستمرار فهو لا يلجأ لعلف قراته قسراً بما يريد قوله بل يجعل منهم مشاركين ومتواطئين معه فيما يحدث."‏
على الرغم من كل تواضعه فإن تشيخوف كان يدرك أنه ابتدع أسلوباً جديداً في التفكير وفي الكتابة في روسيا، وقد قال لجوركي: "السبل التي فتحتها ستبقى سليمة وصامدة، وهنا تكمن كل قيمتي".‏
أما تولستوي فقد أرسل له لدى اشتداد المرض على تشيخوف ليرفع من معنوياته صورة بتوقيعه وقائمة بثلاثين قصة من القصص التي يعتبرها أفضل ما كتبه تشيخوف حتى ذلك الحين وقد جمعها في مجلد واحد ليعيد قراءتها باستمرار. وقد قسّمها تولستوي إلى صنفين، خمس عشرة منها صنّفها على نخب أول، وخمس عشرة أخرى صنفها على أنها نخب ثان. ولقد عُرف عن تولستوي قوله: "تشيخوف هو بوشكين الأدب النثري".‏
كما ينقل جوركي عن تولستوي قوله بعد أن قرأ قصة "الحبيبة" لتشيخوف: "إنها مثل الدانتيلا التي تنتجها فتاة عذراء عفيفة طاهرة، كانت هناك في الماضي فتيات ينسجن الدانتيلا، وكن ينسجن أحلام حياتهن طوال الوقت في داخل رسوم الدانتيلا التي يشكلنها. ينسجن أعز أحلامهن بحيث تصبح تلك الدانتيلا مشبعة بتطلعاتهن الغامضةالنقية عن الحب". ويضيف جوركي: "كان تولستوي يتحدث بعاطفة جياشة والدموع تترقرق في عينيه".‏

ابوقيس99
23-10-2015, 10:44 AM
بارك الله فيك استاذه سنا البدر على الموضوع والمجهود الكبير الذي بذلتيه لتنويرنا بهذه الشخصية العالمية المعروفه
سلمت اناملك التى جمعت كل هذه السطور

صدى صوت
23-10-2015, 11:03 AM
سلمت الايادي على الموضوع الشيق .. شخصيات عالمية لها اثر ملموس تأتي سيرتها من هنا وهناك لنتعلم منها كيف يجب ان نكون .
شكرا اختي الكريمه سناء

نور العيون 2013
24-10-2015, 08:46 PM
موضوع رااائع..

يعطيك العافية سنا

Raba
28-10-2015, 12:53 PM
كم جميل طرحك سنا راق لي شخصية جميلة لأول مره أقرأ عنها بارك الله فيك أختي العزيزة