نوارة الكون
07-12-2015, 09:30 AM
السلام عليكم ورحمة الله.
بعد عناء يوم شاقٍ من العمل , يعود الأبّ إلى المنزل ويخلد إلى النوم لفترة قصيرة وينهض بعدها ويتّجه إلى غرفة الجلوس يتصفّح الصّحف اليومية التي لا يجد لها الوقت الكافي في عمله , بينما تقوم الأمّ بإعداد الشاي والذي يُفضلان تناوله في هذا الوقت من كلِّ يومٍ , هدوءٍ تّام يلفّ أجواء الغرفة , لا يكسره إلا صوت طفلهما الوحيد ذي السنتين والنصف من عمره , فتارة يصرخ لكلِّ ما يُثيره , وتارة يتسلّق الطاولات وكراسي الجلوس , وينزع الصحيفة من يدِ أبيه , وتارة أخرى يرتمي في أحضان أمّه حيث يشعر بالحنان والأمان , كيف لا , والأمّ كلّها أنهار متدفّقة من الحنان والأمان .
الطفل يتمتّع بنشاط حركي وذهني , ومحبوب من قبل الأقارب والمعارف , استحوذ على حبّ الكلِّ , فلا يكاد يمرّ يوماً , إلّا وهناك من يسأل عنه , ذو وجهٍ جميل , يقع حُبّه في قلب كلُّ من يراه , لا يتنكّر لأحدٍ , وكان أكبر هديّةً لوالديه , فقد ملأ حياتهما بسعادة لا توصف ولا تفوقها سعادة أخرى .
قدمت الأمّ من المطبخ تحمل الشاي , وترمق ابنها بنظرات مصحوبة بابتسامة , وتتجنّبه خشية وقوع صينية الشاي فوقه , جلست الأمّ في مكانها المخصّص والذي تستطيع منه أن تراقب ابنهما , وقالت وهي تناول الأبّ كوب الشاي , ألا ترى أنّه من المناسب أن نذهب غداً إلى المركز التجاري , فغداً هو عطلة نهاية الأسبوع , لنتسوّق , وخصوصاً أنّ هناك نقص في مستلزمات الطفل , وكذلك نُروّح عن أنفسنا , وعلى الفور وافقها زوجها على رأيها , واستحسن الفكرة , إذ أنّه في أشدِّ الحاجة لذلك , وأيضاً لأنّ منزلهما يقع في ضواحي المدينة لينعما بالهدوء والاستقرار بعيداً عن صخب المدن .
والمركز التجاري يقع في قلب المدينة , تمّ إنشاؤه حديثاً , وروعيَ في تصميمه اختيار أحدث أنماط البناء , ويحتل مساحة واسعة , وأدوار متعددة , وممرات كثيرة , تمثّل شبكة عنكبوتية تجعل من الصعب التجول داخله دون تتبّع الخرائط الإرشادية الموجودة في كل نقطة تتفرّع منها ممرات المركز , وفي كلّ دور من أدواره , مما جعل الكثير من سكان المدينة والساكنين خارجها يرتادوه بشكل مستمر , إذ يوفّر جميع مستلزماتهم , كما أنه يمثّل نقطة التقاء للجميع , لوجود المقاهي والمطاعم ومناطق ألعاب الأطفال , ثمّ تناولوا وجبة العشاء وخلدوا إلى النوم جميعاً .
في اليوم التالي صباحاً وهو اليوم الأول من عطلة نهاية الأسبوع وبعد أن استيقظوا , وفرغوا من تناول وجبة الإطار استعدّت الأسرة لهذه الرحلة القصيرة , فالأبّ جهّز السيارة للانطلاق بعد أن تأكد من وجود كل المتطلبات اللازمة وخصوصاً عربة الطفل , وأتت الأمّ تحمل طفلها , وكذلك حقيبتها اليدوية بعد أن تأكدت من كلّ احتياجات طفلها أثناء التسوّق , وركبت السيارة وانطلقوا إلى المركز التجاري .
في الطريق والطفل في أحضان أمّه تبدو عليه علامات الفرح والسرور , يتأمل كل ما يراه , ينطق ببعض الكلمات المضحكة , وسعادة والديه لا توصف , فرغم أنّهما في حاجة إلى هذه الرحلة , إلا أنّهما في قرارة نفسيهما هو إدخال السعادة والسرور على نفس هذا الطفل , ولكن شيءٌ خفيِّ يساور مشاعر الأمّ من هذه الرحلة , ومع ما يشعر به طفلهما من سعادة حاولت أن تتجاهل ما يساورها .
وصلوا إلى المركز , وأوقف الأبّ السيارة داخل المواقف المخصّصة بصعوبة كبيرة نظراً لكثرة الزائرين في هذا اليوم من عطلة نهاية الأسبوع , ونزل الأبّ واتّجه إلى صندوق السيارة الخلفي وأخرج عربة الطفل , في حين نزلت الأمّ من السيارة وهي تُعاني من شقاوة ابنها , والذي يرغب في الانطلاق , إلا أنّها وضعته في العربة وانطلقا إلى داخل المركز .
كان المركز كبير جدّاً يعجّ بالناس على مختلف أشكالهم وأعمارهم , ودوي أصواتهم تصطدم بجدرانه التي تعيد صداها , والطفل فرحٌ بهذه الرحلة يقّلب عينيه يمنة ويسرة , مشدود الانتباه لكلّ ما تقع عيناه عليه .
قرّرا الأبّ والأمّ الصعود إلى الدور الخامس لوجود كل المتاجر التي تُعنى بحاجيات الأطفال , وكذلك قربهم من منطقة الألعاب والمطاعم والمقاهي , فبعد الانتهاء من التسوّق سوف يأخذون الطفل إلى الألعاب , ومن ثَمَّ يقضيان باقي الوقت في أحد المقاهي أو المطاعم , ووصلوا جمعياً إلى وجهتهم , وهنا غادر الأبّ هذا الدور ليتمكّن من شراء بعض المستلزمات الخاصة بالمنزل من أماكن أخرى داخل المركز , تاركاً الأمّ وطفلها .
دخلت الأمّ إلى أحد المحال التجارية , وتركت ابنها في العربة قريب من باب المحل , وتحت ناظريها , ولم تلاحظ أنّ حزام ربط الطفل لم يكن مشدوداً بما فيه الكفاية , فلم يجد الطفل ما يعيق تحرّره من هذه العربة , وانطلاقه بحريّة تامة , فتحرر من هذه القيود واستطاع أن ينزل من العربة , ووقف برهةً , وهو يتأمل ما حوله ثمّ أطلق العنان لرجليه خارجاً من المحل إلى حيث لا يعلم , والأمّ منهمكة في اختيار ما يحلو لطفلها من الملابس والمستلزمات وهي محتارة ما بين هذا وذاك من الأصناف , مما جعلها تغفل عن ابنها , ونظرت في اتجاه العربة , فحملقت بعينيها مع شهقة قويّة استرعت انتباه كل من في المحل وصاحت بصوت متقطع وخائف : سمير وهو اسم الطفل !!! وبدأت ضربات قلبها تزداد وخرجت من المحل مسرعة وملقية بكلّ ما في يديها تبحث عن ابنها , ولكن من أين تبدأ ؟
لقد كان هذا المحل على زاوية إحدى الممرات وفي بدايته , وأمامها أكثر من ممر تتفرع من المساحة التي تبدأ كالموزّع لجميع الممرات , فأيُّ الممرات سلكه الطفل , وفي أيِّ اتجاه ذهب , وهل دخل إحدى المحال الأخرى ؟ أم انطلق في ممر آخر , كلّ هذه الأسئلة تعصف بذهن الأم مما شلّ تفكيرها , وانطلقت تبحث عنه يمنة ويسرة تدفع بالعربة أمامها وكلّ ما رأت طفلاً تتمعّن بالنظر إليه , وتنادي : سمير .. سمير , وتسأل هل من أحدٍ رآه , ولكن دون جدوى .
أخرجت هاتفها من حقيبتها تريد الاتصال بالأبّ , وإذا بهاتفها منطفئ لا يوجد به طاقة كهربائية , والسبب أنّ سمير قد نزع الكيبل من جهاز الهاتف قبل أن ينام ولم تتأكد الأم من ذلك ولأنّه أيضاً لم يكن هناك ما يستدعي لاستخدام الهاتف , هنا توقّف عقلها عن التفكير وأصبحت حالتها تسوء , ولم تعد ترى أمام عينيها إلا سمير , ولكن أين هو , وبدأت الهواجس والظنون تخيّم على تفكيرها وخوفها يزداد شيئاً فشيئاً , وتسترجع ذلك الشعور الذي ساورها أثناء انتقالهم بالسيارة , ولم يطرأ عليها أن تبلّغ عنه رجال الأمن في تلك اللحظات لأنّ لديها بعض الأمل في أنّها قد تجده .
طالت فترة البحث عن سمير مما أنساها أيّ تصّرف قد تُقدم عليه , وانطلقت تجوب الممرات , هائمة بجسمها الذي بدأ يرتجف وحرارته آخذة في الازدياد , واستمّرت على هذا الحال , واسودّت الدنيا في عينيها فأصبحت ترى المركز بمحاله التجارية كأطلال الماضي , اختفت كلّ معالم الجمال منه , وسارت كالتائهة في ظلام دامس , لا أحد يعلم بما تعانيه من العذاب على ضياع ابنها , ولم تعلم كم هو الوقت الآن وكم مضى منه وهي تبحث عن سمير, وبدأت تنهار داخليّاً مستسلمة لفقدان الأمل في أن تجد فلذّة كبدها , وشعرت بأنّها للسقوط على الأرض أقرب منها إلى الوقوف والاستمرار في البحث , فقد كان هذا آخر الممرات الموجودة في هذا الدور من المركز والذي تبحث فيه الآن بعد أن أكملت البحث في الممرات الأخرى , وتكبّدت من الآلام الكثير .
استمرت في السير , وقبل أن تصل إلى نهاية الممر وهي تجاهد نفسها وقد أخذ منها التعب ما أخذ , لاح لها في الأفق بصيص من الأمل , فكأنّها رأت سمير في نهاية الممر , وبدأ السواد ينجلي من أمام عينيها , والنشاط بدأ يدّب في جسمها , فأسرعت الخطى في نفس الاتّجاه , وكلما اقتربت ازدادت صورة ابنها وضوحاً , نعم إنّه سمير , هو سمير , واقتربت أكثر فأكثر, وفجأة تسمّرت في مكانها ,لا تصدّق ما تراه عينيها , من هول المنظر , وما بين مصدّقة ومكذّبة , فكيف العمل ؟
سمير ما إن تحرّر من قيود العربة حتى انطلق يجول في أحد الممرات وبسعادة غامرة , وابتسامة بريئة , كلّ من رآه لا يعتقد بأن الطفل تائه عن والدته , بل الجميع يجزم بأنّه لا يزال تحت نظر والديه , وخطت به قدماه إلى نهاية الممر الذي ينتهي بحاجز زجاجي يحيط به إطار معدني مطلي بمادة الكروم يتفرع منه قضبان تجميلية على الزجاج , هذا الإطار والقضبان شدّت سمير ليقوم بتسلّق الزجاج واستطاع أن ينجح في مغامرته , وصعد إلى الأعلى , واستقر في مكانه ممتطى الإطار , ورجليه متدليّة على الجانبين وكأنّه يمتطي جوداً , وهذا ما جعل الأمّ تتسمّر في مكانها , في حين أنّ عدد من الناس المتواجدين حوله يتأملون المنظر دون أن يقوموا بأدنى مجهود لإنزال الطفل من على الحاجز , والسبب أنّ أيُّ حركة قد يقوم بها الطفل تؤدي إلى سقوطه .
صاحت الأم : سمير , وانتبه الطفل إلى مصدر الصوت , إنّها أمّه فاستطاع أن يميّز صوتها من بين الأصوات , التفت إليها وبرقت عينيه وابتسم ثمّ نادى : ماما , مع رفع يديه , وحدث ما كان يخشاه الجميع , ما إن رفع يديه حتى اختل توازن الطفل وسقط في الهاوية أمام عيني أمّه التي أطلقت صرخةٌ دوّت في أرجاء المركز , ورأت المنطقة المحيطة بها تدور ووقعت على الأرض , لم يتبقى في ذهنها سوى صورة ابنها , وصراخ النساء وأصوات الرجال وهي تتلاشى تدريجياً ما بين التأنيب على ترك الطفل بمفرده وانتقاد كلّ من شارك في تصميم هذا المركز بهذه الطريقة .
انتشر الخبر في المركز كانتشار النار في الهشيم , ووصل رجال الإسعاف بطاقمين , فالطاقم الأول حمل الطفل إلى سيارة الإسعاف في انتظار الطاقم الثاني الذي اتّجه إلى الأعلى وحمل الأمّ على النقّالة وانطلقوا إلى المستشفى , ثمّ انتشر رجال الأمن , واستدعيت الجهات الأمنية , للتحقيق في هذه الحادثة الأليمة التي أثّرت على جميع مرتادي المركز وخلّفت ذلك الأثر السيئ في نفوسهم .
الأبّ لم يكن بأحسن حالاً من الأمّ , فما أن عرف بسقوط ابنه حتى انهارت نفسيّته واستسلم للقضاء والقدر , ويجد صعوبة في استيعاب ما حصل , وكيف حصل , وأين أمّه عنه , ويلوم نفسه في تركهما لوحدهما , ولكن كلّ ذلك لا يفيد فقد حدث ما حدث , إلا أنّ الجهات المعنيّة في المركز قاموا بعمل كلّ ما يجب عمله , وهدأت حالته عندما علم بأن زوجته وصلت إلى المستشفى , وهي في حالة إغماء كردّة فعلٍ طبيعية , وأنّها تحت العناية في المستشفى , وسوف يلحق بها للاطمئنان عليها بعد الانتهاء من بعض الإجراءات اللازمة .
نُقلت الأمّ المكلومة إلى المستشفى فاقدة الوعي , إن لم تكن دخلت مرحلة الغيبوبة , وأُدخلت غرفة العناية المركّزة لعدة ساعات , ثمّ غادرتها بعد أن استقرت جميع وظائف جسمها وزال عنها خطر الوقوع في غيبوبة طويلة , وبقيت في المستشفى يزورها زوجها , والأطباء نصحوا بعدم محاولة إزعاجها أو التحدّث معها , فكان يُلقي نظرة عليها ويغادر المستشفى , ولم يتّخذ إيّ إجراء حول الطفل حتى تفيق زوجته , فإنّها في نظره هي المتّهمة والمتسبّبة بوفاة سمير, والأمّ بقيت على حالها في المستشفى فاقدة الوعي لأيام قليلة .
في أحد الأيام والأمّ في حالها الذي لم يتغير , حدث شيء غريب , فتحركت الأمّ , وبدأت تتنفّس بصعوبة , شعرت أنّها مخنوقة , وأنّ شيء ثقيل يضغط على صدرها , وفيما هي تقاوم عاد إليها وعيها قليلاً مما جعلها تستعيد في تلك اللحظة منظر سقوط طفلها المؤلم , واستمرت في مقاومة ذلك الضغط الشديد , وهي ترزح تحت وطأته , والضغط بدأ يصل إلى رقبتها , وكأن هناك من يطوّق رقبتها , ويُطبق على شفتيها فلم تستطع أن تصرخ !!!! ولسان حالها يقول : ألا يكفي ما حلّ بي من مصيبة حتى أتعرّض لهذه الآلام والضغوط , هل يُعقل أنّ هناك من يريد الانتقام مني , ألا يسعهم الانتظار حتى تتحسّن حالتي , ومع كلّ هواجس الانتقام التي اجتاحت ذهنها , فإنّها تعزو ذلك لفقدان ابنها , قد يكون زوجها فقد صوابه , ولم يحتمل فقرر الانتقام على طريقته , ومع كلّ ذلك استطاعت أن تفتح عينيها , لترى أمامها مالم يكن في حسبانها ...
إنّه سمير ... يقبع على صدرها مطوّقاً يديه الصغيرتين حول عنقها يحاول المحافظة على توازنه , وينظر إليها في ابتسامة عذبة , فقد أيقظها من ذلك الحلم المخيف, نظرت إلى سمير وهي ترتجف , واعتدلت في جلستها على السرير , وضمّت الطفل إلى صدرها بكل ما أوتيت من قوّة حتى شعرت بحرارة أنفاسه في رقبتها , وبدأت يديها في التراخي , وأطرقت برأسها قليلاً , ثمّ رفعته وأغمضت عينيها لتنهمر منها تلك الدموع , إنّها دموع الحنان .
التفتت إلى الجنب فإذا بزوجها يغطّ في نومٍ عميق ويعيش أحلامه , فأعتلى وجهها تلك الابتسامة , وتغمرها سعادة لا توصف بهذه النهاية , إذ أنّ كل ما حدث كان مسلسلٌ في حلمٍ مخيف
بعد عناء يوم شاقٍ من العمل , يعود الأبّ إلى المنزل ويخلد إلى النوم لفترة قصيرة وينهض بعدها ويتّجه إلى غرفة الجلوس يتصفّح الصّحف اليومية التي لا يجد لها الوقت الكافي في عمله , بينما تقوم الأمّ بإعداد الشاي والذي يُفضلان تناوله في هذا الوقت من كلِّ يومٍ , هدوءٍ تّام يلفّ أجواء الغرفة , لا يكسره إلا صوت طفلهما الوحيد ذي السنتين والنصف من عمره , فتارة يصرخ لكلِّ ما يُثيره , وتارة يتسلّق الطاولات وكراسي الجلوس , وينزع الصحيفة من يدِ أبيه , وتارة أخرى يرتمي في أحضان أمّه حيث يشعر بالحنان والأمان , كيف لا , والأمّ كلّها أنهار متدفّقة من الحنان والأمان .
الطفل يتمتّع بنشاط حركي وذهني , ومحبوب من قبل الأقارب والمعارف , استحوذ على حبّ الكلِّ , فلا يكاد يمرّ يوماً , إلّا وهناك من يسأل عنه , ذو وجهٍ جميل , يقع حُبّه في قلب كلُّ من يراه , لا يتنكّر لأحدٍ , وكان أكبر هديّةً لوالديه , فقد ملأ حياتهما بسعادة لا توصف ولا تفوقها سعادة أخرى .
قدمت الأمّ من المطبخ تحمل الشاي , وترمق ابنها بنظرات مصحوبة بابتسامة , وتتجنّبه خشية وقوع صينية الشاي فوقه , جلست الأمّ في مكانها المخصّص والذي تستطيع منه أن تراقب ابنهما , وقالت وهي تناول الأبّ كوب الشاي , ألا ترى أنّه من المناسب أن نذهب غداً إلى المركز التجاري , فغداً هو عطلة نهاية الأسبوع , لنتسوّق , وخصوصاً أنّ هناك نقص في مستلزمات الطفل , وكذلك نُروّح عن أنفسنا , وعلى الفور وافقها زوجها على رأيها , واستحسن الفكرة , إذ أنّه في أشدِّ الحاجة لذلك , وأيضاً لأنّ منزلهما يقع في ضواحي المدينة لينعما بالهدوء والاستقرار بعيداً عن صخب المدن .
والمركز التجاري يقع في قلب المدينة , تمّ إنشاؤه حديثاً , وروعيَ في تصميمه اختيار أحدث أنماط البناء , ويحتل مساحة واسعة , وأدوار متعددة , وممرات كثيرة , تمثّل شبكة عنكبوتية تجعل من الصعب التجول داخله دون تتبّع الخرائط الإرشادية الموجودة في كل نقطة تتفرّع منها ممرات المركز , وفي كلّ دور من أدواره , مما جعل الكثير من سكان المدينة والساكنين خارجها يرتادوه بشكل مستمر , إذ يوفّر جميع مستلزماتهم , كما أنه يمثّل نقطة التقاء للجميع , لوجود المقاهي والمطاعم ومناطق ألعاب الأطفال , ثمّ تناولوا وجبة العشاء وخلدوا إلى النوم جميعاً .
في اليوم التالي صباحاً وهو اليوم الأول من عطلة نهاية الأسبوع وبعد أن استيقظوا , وفرغوا من تناول وجبة الإطار استعدّت الأسرة لهذه الرحلة القصيرة , فالأبّ جهّز السيارة للانطلاق بعد أن تأكد من وجود كل المتطلبات اللازمة وخصوصاً عربة الطفل , وأتت الأمّ تحمل طفلها , وكذلك حقيبتها اليدوية بعد أن تأكدت من كلّ احتياجات طفلها أثناء التسوّق , وركبت السيارة وانطلقوا إلى المركز التجاري .
في الطريق والطفل في أحضان أمّه تبدو عليه علامات الفرح والسرور , يتأمل كل ما يراه , ينطق ببعض الكلمات المضحكة , وسعادة والديه لا توصف , فرغم أنّهما في حاجة إلى هذه الرحلة , إلا أنّهما في قرارة نفسيهما هو إدخال السعادة والسرور على نفس هذا الطفل , ولكن شيءٌ خفيِّ يساور مشاعر الأمّ من هذه الرحلة , ومع ما يشعر به طفلهما من سعادة حاولت أن تتجاهل ما يساورها .
وصلوا إلى المركز , وأوقف الأبّ السيارة داخل المواقف المخصّصة بصعوبة كبيرة نظراً لكثرة الزائرين في هذا اليوم من عطلة نهاية الأسبوع , ونزل الأبّ واتّجه إلى صندوق السيارة الخلفي وأخرج عربة الطفل , في حين نزلت الأمّ من السيارة وهي تُعاني من شقاوة ابنها , والذي يرغب في الانطلاق , إلا أنّها وضعته في العربة وانطلقا إلى داخل المركز .
كان المركز كبير جدّاً يعجّ بالناس على مختلف أشكالهم وأعمارهم , ودوي أصواتهم تصطدم بجدرانه التي تعيد صداها , والطفل فرحٌ بهذه الرحلة يقّلب عينيه يمنة ويسرة , مشدود الانتباه لكلّ ما تقع عيناه عليه .
قرّرا الأبّ والأمّ الصعود إلى الدور الخامس لوجود كل المتاجر التي تُعنى بحاجيات الأطفال , وكذلك قربهم من منطقة الألعاب والمطاعم والمقاهي , فبعد الانتهاء من التسوّق سوف يأخذون الطفل إلى الألعاب , ومن ثَمَّ يقضيان باقي الوقت في أحد المقاهي أو المطاعم , ووصلوا جمعياً إلى وجهتهم , وهنا غادر الأبّ هذا الدور ليتمكّن من شراء بعض المستلزمات الخاصة بالمنزل من أماكن أخرى داخل المركز , تاركاً الأمّ وطفلها .
دخلت الأمّ إلى أحد المحال التجارية , وتركت ابنها في العربة قريب من باب المحل , وتحت ناظريها , ولم تلاحظ أنّ حزام ربط الطفل لم يكن مشدوداً بما فيه الكفاية , فلم يجد الطفل ما يعيق تحرّره من هذه العربة , وانطلاقه بحريّة تامة , فتحرر من هذه القيود واستطاع أن ينزل من العربة , ووقف برهةً , وهو يتأمل ما حوله ثمّ أطلق العنان لرجليه خارجاً من المحل إلى حيث لا يعلم , والأمّ منهمكة في اختيار ما يحلو لطفلها من الملابس والمستلزمات وهي محتارة ما بين هذا وذاك من الأصناف , مما جعلها تغفل عن ابنها , ونظرت في اتجاه العربة , فحملقت بعينيها مع شهقة قويّة استرعت انتباه كل من في المحل وصاحت بصوت متقطع وخائف : سمير وهو اسم الطفل !!! وبدأت ضربات قلبها تزداد وخرجت من المحل مسرعة وملقية بكلّ ما في يديها تبحث عن ابنها , ولكن من أين تبدأ ؟
لقد كان هذا المحل على زاوية إحدى الممرات وفي بدايته , وأمامها أكثر من ممر تتفرع من المساحة التي تبدأ كالموزّع لجميع الممرات , فأيُّ الممرات سلكه الطفل , وفي أيِّ اتجاه ذهب , وهل دخل إحدى المحال الأخرى ؟ أم انطلق في ممر آخر , كلّ هذه الأسئلة تعصف بذهن الأم مما شلّ تفكيرها , وانطلقت تبحث عنه يمنة ويسرة تدفع بالعربة أمامها وكلّ ما رأت طفلاً تتمعّن بالنظر إليه , وتنادي : سمير .. سمير , وتسأل هل من أحدٍ رآه , ولكن دون جدوى .
أخرجت هاتفها من حقيبتها تريد الاتصال بالأبّ , وإذا بهاتفها منطفئ لا يوجد به طاقة كهربائية , والسبب أنّ سمير قد نزع الكيبل من جهاز الهاتف قبل أن ينام ولم تتأكد الأم من ذلك ولأنّه أيضاً لم يكن هناك ما يستدعي لاستخدام الهاتف , هنا توقّف عقلها عن التفكير وأصبحت حالتها تسوء , ولم تعد ترى أمام عينيها إلا سمير , ولكن أين هو , وبدأت الهواجس والظنون تخيّم على تفكيرها وخوفها يزداد شيئاً فشيئاً , وتسترجع ذلك الشعور الذي ساورها أثناء انتقالهم بالسيارة , ولم يطرأ عليها أن تبلّغ عنه رجال الأمن في تلك اللحظات لأنّ لديها بعض الأمل في أنّها قد تجده .
طالت فترة البحث عن سمير مما أنساها أيّ تصّرف قد تُقدم عليه , وانطلقت تجوب الممرات , هائمة بجسمها الذي بدأ يرتجف وحرارته آخذة في الازدياد , واستمّرت على هذا الحال , واسودّت الدنيا في عينيها فأصبحت ترى المركز بمحاله التجارية كأطلال الماضي , اختفت كلّ معالم الجمال منه , وسارت كالتائهة في ظلام دامس , لا أحد يعلم بما تعانيه من العذاب على ضياع ابنها , ولم تعلم كم هو الوقت الآن وكم مضى منه وهي تبحث عن سمير, وبدأت تنهار داخليّاً مستسلمة لفقدان الأمل في أن تجد فلذّة كبدها , وشعرت بأنّها للسقوط على الأرض أقرب منها إلى الوقوف والاستمرار في البحث , فقد كان هذا آخر الممرات الموجودة في هذا الدور من المركز والذي تبحث فيه الآن بعد أن أكملت البحث في الممرات الأخرى , وتكبّدت من الآلام الكثير .
استمرت في السير , وقبل أن تصل إلى نهاية الممر وهي تجاهد نفسها وقد أخذ منها التعب ما أخذ , لاح لها في الأفق بصيص من الأمل , فكأنّها رأت سمير في نهاية الممر , وبدأ السواد ينجلي من أمام عينيها , والنشاط بدأ يدّب في جسمها , فأسرعت الخطى في نفس الاتّجاه , وكلما اقتربت ازدادت صورة ابنها وضوحاً , نعم إنّه سمير , هو سمير , واقتربت أكثر فأكثر, وفجأة تسمّرت في مكانها ,لا تصدّق ما تراه عينيها , من هول المنظر , وما بين مصدّقة ومكذّبة , فكيف العمل ؟
سمير ما إن تحرّر من قيود العربة حتى انطلق يجول في أحد الممرات وبسعادة غامرة , وابتسامة بريئة , كلّ من رآه لا يعتقد بأن الطفل تائه عن والدته , بل الجميع يجزم بأنّه لا يزال تحت نظر والديه , وخطت به قدماه إلى نهاية الممر الذي ينتهي بحاجز زجاجي يحيط به إطار معدني مطلي بمادة الكروم يتفرع منه قضبان تجميلية على الزجاج , هذا الإطار والقضبان شدّت سمير ليقوم بتسلّق الزجاج واستطاع أن ينجح في مغامرته , وصعد إلى الأعلى , واستقر في مكانه ممتطى الإطار , ورجليه متدليّة على الجانبين وكأنّه يمتطي جوداً , وهذا ما جعل الأمّ تتسمّر في مكانها , في حين أنّ عدد من الناس المتواجدين حوله يتأملون المنظر دون أن يقوموا بأدنى مجهود لإنزال الطفل من على الحاجز , والسبب أنّ أيُّ حركة قد يقوم بها الطفل تؤدي إلى سقوطه .
صاحت الأم : سمير , وانتبه الطفل إلى مصدر الصوت , إنّها أمّه فاستطاع أن يميّز صوتها من بين الأصوات , التفت إليها وبرقت عينيه وابتسم ثمّ نادى : ماما , مع رفع يديه , وحدث ما كان يخشاه الجميع , ما إن رفع يديه حتى اختل توازن الطفل وسقط في الهاوية أمام عيني أمّه التي أطلقت صرخةٌ دوّت في أرجاء المركز , ورأت المنطقة المحيطة بها تدور ووقعت على الأرض , لم يتبقى في ذهنها سوى صورة ابنها , وصراخ النساء وأصوات الرجال وهي تتلاشى تدريجياً ما بين التأنيب على ترك الطفل بمفرده وانتقاد كلّ من شارك في تصميم هذا المركز بهذه الطريقة .
انتشر الخبر في المركز كانتشار النار في الهشيم , ووصل رجال الإسعاف بطاقمين , فالطاقم الأول حمل الطفل إلى سيارة الإسعاف في انتظار الطاقم الثاني الذي اتّجه إلى الأعلى وحمل الأمّ على النقّالة وانطلقوا إلى المستشفى , ثمّ انتشر رجال الأمن , واستدعيت الجهات الأمنية , للتحقيق في هذه الحادثة الأليمة التي أثّرت على جميع مرتادي المركز وخلّفت ذلك الأثر السيئ في نفوسهم .
الأبّ لم يكن بأحسن حالاً من الأمّ , فما أن عرف بسقوط ابنه حتى انهارت نفسيّته واستسلم للقضاء والقدر , ويجد صعوبة في استيعاب ما حصل , وكيف حصل , وأين أمّه عنه , ويلوم نفسه في تركهما لوحدهما , ولكن كلّ ذلك لا يفيد فقد حدث ما حدث , إلا أنّ الجهات المعنيّة في المركز قاموا بعمل كلّ ما يجب عمله , وهدأت حالته عندما علم بأن زوجته وصلت إلى المستشفى , وهي في حالة إغماء كردّة فعلٍ طبيعية , وأنّها تحت العناية في المستشفى , وسوف يلحق بها للاطمئنان عليها بعد الانتهاء من بعض الإجراءات اللازمة .
نُقلت الأمّ المكلومة إلى المستشفى فاقدة الوعي , إن لم تكن دخلت مرحلة الغيبوبة , وأُدخلت غرفة العناية المركّزة لعدة ساعات , ثمّ غادرتها بعد أن استقرت جميع وظائف جسمها وزال عنها خطر الوقوع في غيبوبة طويلة , وبقيت في المستشفى يزورها زوجها , والأطباء نصحوا بعدم محاولة إزعاجها أو التحدّث معها , فكان يُلقي نظرة عليها ويغادر المستشفى , ولم يتّخذ إيّ إجراء حول الطفل حتى تفيق زوجته , فإنّها في نظره هي المتّهمة والمتسبّبة بوفاة سمير, والأمّ بقيت على حالها في المستشفى فاقدة الوعي لأيام قليلة .
في أحد الأيام والأمّ في حالها الذي لم يتغير , حدث شيء غريب , فتحركت الأمّ , وبدأت تتنفّس بصعوبة , شعرت أنّها مخنوقة , وأنّ شيء ثقيل يضغط على صدرها , وفيما هي تقاوم عاد إليها وعيها قليلاً مما جعلها تستعيد في تلك اللحظة منظر سقوط طفلها المؤلم , واستمرت في مقاومة ذلك الضغط الشديد , وهي ترزح تحت وطأته , والضغط بدأ يصل إلى رقبتها , وكأن هناك من يطوّق رقبتها , ويُطبق على شفتيها فلم تستطع أن تصرخ !!!! ولسان حالها يقول : ألا يكفي ما حلّ بي من مصيبة حتى أتعرّض لهذه الآلام والضغوط , هل يُعقل أنّ هناك من يريد الانتقام مني , ألا يسعهم الانتظار حتى تتحسّن حالتي , ومع كلّ هواجس الانتقام التي اجتاحت ذهنها , فإنّها تعزو ذلك لفقدان ابنها , قد يكون زوجها فقد صوابه , ولم يحتمل فقرر الانتقام على طريقته , ومع كلّ ذلك استطاعت أن تفتح عينيها , لترى أمامها مالم يكن في حسبانها ...
إنّه سمير ... يقبع على صدرها مطوّقاً يديه الصغيرتين حول عنقها يحاول المحافظة على توازنه , وينظر إليها في ابتسامة عذبة , فقد أيقظها من ذلك الحلم المخيف, نظرت إلى سمير وهي ترتجف , واعتدلت في جلستها على السرير , وضمّت الطفل إلى صدرها بكل ما أوتيت من قوّة حتى شعرت بحرارة أنفاسه في رقبتها , وبدأت يديها في التراخي , وأطرقت برأسها قليلاً , ثمّ رفعته وأغمضت عينيها لتنهمر منها تلك الدموع , إنّها دموع الحنان .
التفتت إلى الجنب فإذا بزوجها يغطّ في نومٍ عميق ويعيش أحلامه , فأعتلى وجهها تلك الابتسامة , وتغمرها سعادة لا توصف بهذه النهاية , إذ أنّ كل ما حدث كان مسلسلٌ في حلمٍ مخيف