المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( أضغاث أحلام )



نوارة الكون
11-07-2016, 09:35 AM
( أضغاث أحلام )

بينما كنت جالسةً على أنقاض منزلنا , رأيت جدارًا انحنى وارتكز على الحطام بعد أن أتعبه الوقوف , فاستظليت تحته أنا وأفراد عائلتي الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وتوسدّتُ حجرًا كان يحمل سقف منزلنا و وضعت عليه رأساً مُثقلاً بالهموم , وتلحفت الغبار الذي تنهدَته المنازل ألمًا بعد سقوطها , وبدأت حينها أفكر بالهجرة بحثاً عن مراهقتي التي قضيتها وأنا أستمع إلى أجيج النيران التي التهمت موطني سوريا عِوضاً عن ألحانهِ الشامية العتيقة , وجال بخاطري أن أترك معه ذكريات تسعةَ عشر عامًا قضيتها فيه ؛ لأبحث عن مكانٍ أستطيع فيه أن أعيش مراهقتي من جديد .

أعتقد بأنّ جدران المنزل شعرت بوجودي , واعتقد بأن جدران غرفتي شعرت بذلك أيضًا , بل حتى سريري ؛ لأنّني شعرت براحة الاستلقاء عليه بالرغم من أنّني أستلقي على الأنقاض , استسلمت له , فسرقني كعادته وقذفني إلى عالم الأحلام .
كنت واقفةً أشاهد غروب الشمس في الأفق من شرفة منزلٍ خشبيٍ أبيض اللون , نظرت للأسفل فوجدت عجوزًا تتوسد حقيبتها على كرسي خشبيٍ طويلٍ , تأملتها للحظاتٍ , ثم وجهت عينايَ إلى عمود الإنارة الذي كان خلفها مع إضاءة فتيلته , ثم نظرت للعجوز مجددًا فرأيت فراغًا بجانبها على الكرسي استطيع الجلوس فيه , خرجت من المنزل ثم توجهت لذلك الكرسي , وجلست بجانبها بكل هدوءٍ ؛ لكي لا أزعجها , نظرت للمنزل الذي نزلت منه قبل قليل , تأملت الشرفة التي كنت واقفةً خلفها , وهمست قائلةً : هذا الواقع الذي لطالما حلمت به . وفجأةً سمعت صوت صديق طفولتي جمال يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
استيقظت العجوز على صوت جمال وكأنها رأت كابوسًا , وبدأت تتحدث بكلامٍ مبهمٍ لم أجد له معنى .
استيقظت فإذا بجمال أمامي , فجلست ثم نفضت الغبار الذي علق بيدايَ معلنةً اكتفاءي بما عاشيته , وبدأت أحاول بأن أُقنع جمال بالهجرة فلم أستطع , فأجبرته عليها عندما أخبرته كذبًا بأنّي سأهاجر ولو بمفردي ؛ لأنّي كنت واثقةً بأن قلبه لن يسمح له .
تجاوزنا آلاف الأميال بواسطة جميع سبل المواصلات التي عرفتها البشرية باستثناء الطائرات وما بعدها , كانت رحلةً مريرةً جُرح خلالها كبريائنا , وكادت تضيع أن إنسانيتنا في محطاتها , ولكنّها بالرغم من كلّ هذا كانت أرحم من الجحيم الذي تعيشه بلادي سوريا .
وها نحن أخيرًا تحت سماء ليبيا الصافية على إحدى شواطئها , عشية يوم السبت نستعد لعبور البحر الأبيض المتوسط متجهين إلى محطتنا الأخيرة , إلى إحدى جزر ليونان .
توسدّت فخذ جمال متأملةً بأن تسقط جبال الخوف التي استوطنت كتِفَيْ , شعرت بشيءٍ من الراحة , غوتُ دون أن أشعر , فراودني ذات الحلم الذي رأيته في المرة الأولى من غروب الشمس , إلى صوت جمال وهو يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
استيقظت , رفعت رأسي عن فخذه فوقف مسرعًا , أمسك يساري بيمينه ليساعدني على النهوض , وقفت بجانبه فأحكم قبضته عليْ , بدأنا نركض ورمال الشاطئ تتطاير من خلفنا جرّاء خطواتٍ تجهل بأنها تسير نحو قدرين مختلفين , ثم توقفنا بمحاذاة مياه البحر ننتظر وصول القاربان اللذان لاحا لنا في الأفق .
تسللت مياه البحر لليابسة من تحتنا كأنها تتسابق للنجاة من ظلمة أعماقه , وتسابق الناس من حولنا بعد وصول القاربان في دفع كلّ ما يملكونه للابتعاد عن الجحيم بقدر المستطاع , صاح جمال بصوته معلنًا عمّا بحوزتنا , ولكن في كلّ مرةٍ يظهر من يملك ضعف ما لدينا , وعندما أوشك القاربان على الامتلاء صاح جمال مجددًا , فنظر له صاحب القاربان ثم نظر من حوله وقال : هل هناك من سيدفع أكثر ؟
لم يجد لسؤاله جوابًا , فنظر إليّ وإلى جمال وقال : أنتما آخر الركاب , ولكن لسوء الحظ لا يوجد إلّا مكانٌ واحد في كل قارب , أي أنكما ستفترقان .
اعترض جمال على كلام ذلك الرجل , وكاد أن يلغي الصفقة فمنعته عن ذلك وقلت له : إنّ الملاجئ في اليونان تكاد تكون خالية , وها نحن على وشك أن نضع نقطة النهاية لرحلتنا , أرجوك لا تدعنا نفوّت هذه الفرصة , خصوصًا بأننا نعلم بأنّ كل ما سنواجهه سيكون أرحم من العودة لسوريا , حتى الموت ذاته .
اقتنع جمال بما قلته , فأعطى الأموال لصاحبها الجديد , ثم ساعدني على ركوب أحد القاربان , وقبل أن يتوجه للقارب الآخر أخرج عددًا من الأوراق الرسمية من جيبه , وبدأ يقلبها فرأيت الأوراق الخاصة بأفراد عائلته الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وفي النهاية سلمني الأوراق الخاصة بي وقال : يجب أن تكون أوراقك معك من الآن وصاعدًا , لا أريد أن أبتعد عنك ولو للحظة , ولكن ما باليد حيلة , انتبهِ لنفسك , وفي رعاية الرحمن .
تكفلت دموع عيني بالرد على خطبته القصيرة عندما عجز لساني , فمسحتها ونظرت فيمن حولي , كان القارب متوسط الحجم ويحمل قرابة خمسين شخصًا لا يوجد بينهم موطئٌ لقدم , كان الزحام فوق القارب شديدًا ولكن بالرغم من كلّ هذا انطلق القاربان في نفس اللحظة , ولكن بعد بضع لحظاتٍ أخرى سبقنا قارب جمال حتى أختفى في الأفق خلف ستارة الليل .
انقضت تسع ساعاتٍ على انطلاقنا معلنةً في نهايتها انقضاء نصف الرحلة , تسع ساعاتٍ تكبدت بعدها السماء الصافية بطبقاتٍ من غمامٍ زاد حلكة الليل سوادًا , فهطل المطر منها فسمعنا استهلاله , ثم بدأ يزداد شيئًا فشيئًا حتى تحول صوته للهزيم حدّ التهكم , لم يكتفي البحر باستقبال ضربات المطر والمشاهدة , بل ثارت أمواجه بامتعاضٍ لتضرب ما فوقها , فكان قاربنا هو الضحية فتهشم , سقطنا منه وأصبحنا جزءًا من صراع الطبيعة هذا , بدأت أصرخ خوفًا ولكن مياه البحر المالحة قيدت فمي لأغرق بصمت , فأطلقت سراحه وحاولت الصراخ مجددًا ولكن لا صوت يعلو على صوت المطر , انقطع نفسي , أردت أن أستنشق القليل من الهواء ولكن موجةً قيد الإنشاء سحبتني للأسفل ثم ارتفعت شامخةً وهوَت بكل ذلٍ لتغرقني , فتحت فمي تحت المياه بحثًا عن الهواء من شدّة حاجتي إليه , فخرج ما تبقى منه في صدري على هيئة فقاعة يتيمة تسبح للأعلى , سبحت خلفها كما لو كنت أركض خلف روحي , رأيتها تعانق الهواء عند سطح المياه , لحقت بها , وعند السطح أخذت نفسًا عميقًا أعادها وأعاد معها الحياة إلى صدري .
توقف المطر , هدأت الأمواج وسكنت سَوْرَتُها , افترقت الغيوم , نظر القمر إلينا بكلٍ أسًا وأمدّنا بنوره متأسفًا لما حدث لنا , سمعت تأوُّه الرجال , ونحيب النساء , ونواح الأطفال , نظرت من حولي فوجدت طوق نجاة يسبح وحيدًا رغم حاجة الجميع له , سبحت باتجاهه وأحكمت قبضتي عليه عندما أمسكت به , أو بالأصح عندما أمسك هو بي .
بقيت في حجره حتى شعرت بالوهن في عضلات يداي , بل حتى خارت قواي , نظرت من حولي مجددًا فرأيت أناسًا متعلقين بحيواتهم على بقايا القارب , ورأيت أناسًا يتأرجحون على هوى وإرادة آثار الأمواج وبقاياها , ورأيت القليل منهم يجلسون على قوارب النجاة عوضًا عن البقاء في حجرها , فقررت تقليدهم .
انقضى الوقت فاختفت بعض الأصوات مع اختفاء أرواح أصحابها , انقضى حتى بزغ نور الفجر وأنقذ من تبقى منّا من ظلمتَيْ الليل والبحر , انقضى حتى أشرقت الشمس لتعلن بقاء قرابة عشرين شخصًا على قيد الحياة , ولترينا الجثث التي كانت تسبح حولنا , كان منظرًا وحشيًا , وعلى الرغم من هذا فقد كان أرحم من وحشة الليل .
انقضت الثواني ، فتلتها الدقائق والساعات , حتى أصبحت الشمس فوقنا تمامًا , فخلقت هذه الظروف في داخلي شخصيةً مكبلةً بالأفكار السوداوية , وخانقةً بذلك أحلام المنام وأحلام اليقظة التي أردت تحقيقها , كنت أفكّر في جمال الذي يفترض بأن قاربه قد رسا على الشواطئ اليونانية في مثل هذا الوقت , وفي ما الذي سيفعله بعد مماتي , فأنا من أجبرته على الهجرة معي , وأنا من قد أتركه يحارب الغربة وحيدًا , أردت أن أفكر فيما هو أسوء من ذلك , ولكنّ حرارة الشمس وصلت لذروتها , فتبخرت كل الأفكار من رأسي , أصبت بالجفاف , وازدادت درجة حرارة مياه البحر الذي ترسبت أملاحه على جلدي لتضاعف شعوري الحُرقة , وازداد عدد الجثث جرّاء الهجير .

بدأت الشمس في النزول من قبة السماء حتى حان وقت الأفول , وفي لحظاته الأخيرة جاءتني امرأة تسبح وطفلها معلقٌ على ظهرها , سلّمتْنِي طفلها وقالت : اسمه ربيع , وهو في الرابعة من عمره , وأنا لا أستطيع أن أتحمل أكثر من هذا , أرجوكِ تولّي أمره .
وضعْتُه في حجري , ثم وضعْتُ يميني على عينيْه لكي لا يشاهد أمه وهي تغرق أمامه بالرغم من فقدانه لوعيه , جرفت الأمواج جثة والدته , فبلّلْتُ وجهه بمياه البحر المالحة لعله يستيقظ ويقاتل معي ومع من تبقى من حولي , ولكن بلا فائدة .

انقضت الساعات بعد ذلك فعادت ظلمة الليل وعدنا لكمّاشة الظلمتين , انقضت الساعات حتى جاءت الساعة الباردة قَرْسًا بعد منتصف الليل , فعادت الأمواج في هذه الساعة لصراعها الأزليّ الذي لن ينتهي حتى وإن زالت البشرية , انقضت الساعات حتى انقضت معها تلك الليلة على هذا المنوال معلنةً انقضاء يومٍ كامل على تهشم قاربنا .

بدأت الشمس تصعد على سُلّمِ السماء , وقبل أن تصل للقمة ببضع ساعات أدركت بأنّ روح ربيع عرجت للسماء متجاوزةً الشمس وتاركةً جسده خاويًا في حجري , أردت أن أرمي جسده في البحر لأتخلص من حمله , ولأخفف من روعة قلبي الذي أبى بأن يجعل جسده البريء طعمًا لما في الأعماق .
شعرت باقتراب نهايتي , ونظرت من حولي للمرة الأخيرة فلم أجد أحدًا ؛ لأنّ الأمواج تكفلت بنأي من بقيَ على قيد الحياة من حولي , استَسلمت جوارحي فارتخت معها لهفة النجاة من كل ليفٍ في كلّ جزءٍ من عضلاتي , فاختلج قلبي ثم بدأ يخفق بنبرة متخاذلة , ثم ارتعد عندما لاحت لعيني سفينة في الأفق تشق البحر نحوي , حاولت أن أجذب انتباه ركابها ولكن يدايَ أبت بأن تشير لهم , وأبت كذلك حبال صوتي بأن تستنجد بهم , فسقطت جفون عيني لتخذلني هي الأخرى .

فتحت عيني للحظة واسترقت النظر فرأيت عشراتٍ من الناس من حولي , وبعد مقدار رمشة بتوقيت الإنهاك وجدت نفسي على سريرٍ صغيرٍ في مؤخرة مروحية يتعالى هديرها , وبعد رمشةٍ أخرى بذات التوقيت وجدت أناسًا من حولي يسعون بي على ذات السرير في شارعٍ ما , سقط رأسي على خده الأيمن , فاسترقت عينايَ النظر لمن ههم حولي , فرأيت جمال يسير مبتعدًا بعكس اتجاه سعي الناس بي , فخذلتني جفوني مرةً أخرى وسقطت قبل أن تتأكدّ عينايَ مما رأته .

لا أدري كم انقضى من الوقت , ولكنه انقضى بالمقدار الذي يحتاجه جسدي ليستعيد جزءًا من صحته . وجدت نفسي على سريرٍ أبيض يحيطه صفير الأجهزة وتحيطه الستائر , و وجدت أنابيبًا تتصل بجسدي من طرفٍ , وتتصل بقوارير تتأرجح فوق رأسي من الطرف الآخر , حاولت أن استعيد الأحداث الأخيرة التي حُفِظَتْ في ذاكرتي كصورٍ مشوَّشة بلا ملامح , بدأت أقلبها بالرغم من هذا , فشعرت بأنّي رأيت جمال , أغمضت عينايَ بشدّةٍ لعل الصورة تتضح قليلًا , ولكنّ صوت انسدال الستارة الأمامية جعلني أفتح عينايَ مجددًا . رأيت ممرضةً بدأت تتحدث إليَّ فور دخولها بنبرة مبتسمة وبلغةٍ لا افهمها , وبعد ثوانٍ معدودة تغيرت نبرتها إلى نبرةٍ جادةٍ لا تبشر بالخير .
لم أفهم شيئًا مما قالته فأخبرَتْها ملامحي بذلك , فأسدلت الممرضة الستارة الجانبية , فرأيت امرأةً بهيئةٍ سورية على السرير الذي بجانبي , قامت الممرضة بتوجيه الكلام الذي حدثتني به لتلك المرأة , فترجمته تلك المرأة قائلةً : إنها تتحمد لكٍ على السلامة , وتقول لكِ يجب أن تغادري هذا المشفى اليوم بالرغم من أنّ فترة نقاهتك لم تنتهي , ولكن المشفى لا يستطيع إبقاءك لأنك لا تحملين أوراقًا تثبت شخصيتك .
ثم نَظَرَتْ للمرضة وأومأت لها برأسها بأن الترجمة قد تمت , ثم قالت : حمدًا لله على سلامتك , اسمي هدى , ما اسمكِ ؟
فأجبتها : أنا ملاك , لكن أخبريني أين أنا ؟
فقالت : إطمئني , أنتِ في المشفى العام لمدينة أييا غاليني في اليونان. ثم سألتني قائلةً ما الذي حدث معك ؟ وهل تريدين الاتصال على أحد ؟
فأخبرتها بما جرى لي منذ مغادرة شواطئ ليبيا حتى هذه اللحظة فقالت ودموعها تشق مجراها على خديْها : الحمد لله رب الظلمات الذي أنقذك منها , عزيزتي لا تندمي على هجرتك بسبب ما حصل , لأنّ البحر في النهاية كان أرحم وأرأف من طغيان قوات النظام , عزيزتي إنّ بقاءك ليومٍ كامل فيه من غير زادٍ أرحم من بقاءك لأسبوع أو أكثر محاصرةً ومن غير زاد .

فقلت لها : ونعم بالله . وبعد لحظةٍ أكلمت قائلةً : لم تخبريني بقصتك ؟
فقالت : هاجرت من سوريا ووصلت إلى هذه المدينة مع أبي وأمي وأخي الصغير قبل ثلاثة أعوام , وقبل يومان تعرضت لحادث دهسٍ عندما كنت أقطع أحد الشوارع مع أخي , وأصبت في رأسي , هذا كلّ ما أذكره , وها أنا اليوم أستعد للخروج والعودة للمنزل , بالمناسبة بما أنك ستغادرين المشفى اليوم مثلي لما لا تأتين معي للمنزل ؟
أجبتها : لا , أُقَدّر لكِ هذا , سأبحث عن صديقي أولًا , ثم سأبحث عن الملاجئ التي أعدتها الحكومة اليونانية فربما أجده ينتظرني هناك .
في هذه اللحظة جاءت الممرضة وقامت بنزع كل الأنابيب التي كانت معلقةً بجسدي , ثم وضعت اللباس الذي كنت أرتديه خلال رحلتي على طرف السرير بعد أن قامت بتنظيفه , ثم قامت بذات الأمر مع هدى , وبعد أن أصبحنا جاهزتان للمغادرة قالت لي هدى : ستأتين معي للمنزل فأنت ما زلتي تحتاجين لبعض الراحة , وعندما تستعيدين كامل قواك قومي بما تريدين .
لم أجد سببًا يجعلني أرفض عرضها للمرة الثانية , فأنا فعلًا أحتاج للراحة ؛ لأنّني لو بدأت أبحث عن جمال وأنا بهذه الحالة فسينتهي بيَ المطاف مرميةً على أحد الأرصفة . وافقت على عرضها , وغادرت من المشفى برفقتها , وعند بوابة المشفى ركبنا سيارة أجرة ؛ لأنها لم تشأ أن تزعج والدها وهو في عمله كما سبق وأن أخبرتني .
كانت أجوبة هدى على أسئلتي خلال طريق العودة لمنزلها كفيلةً بأن تعيد معايرة ساعتي البيولوجية , فهي من أخبرتني أنّ الساعة الآن تشير للرابعة عصرًا , وهي من أخبرتني بالتاريخ الذي استطعت أن استنتج من خلاله أنّ يومان فقط انقضت , منذ أن تم انقاذي بواسطة أولئك البحارة .

وصلنا بعد ذلك للمنزل , فاستقبلتنا والدتها استقبالًا حارًا فور دخولنا , عرّفتها بنفسي , وتبادلنا بعد ذلك أطراف الحديث بعدما اتصلت أم هدى بزوجها لتتطلب منه شراء شيءٍ للعشاء بعد أن أخبرته بوجود ضيفٍ اليوم , احمرت وجنتايَ خجلًا فحدثتها قائلةً : أرجوكم لا تتبعوا أنفسكم , لا داعي لكل هذا .
فقالت أم هدى : زوجي سيذهب للمشفى لإنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بحادث هدى بعد انتهاء عمله , وذلك الشارع مليء بالمطاعم , لذا فلا تعب في ذلك .
انقضى الوقت حتى جاء وقت الزوال , وفي تلك اللحظة أخذتني هدى لغرفةٍ كانت في الطابق الثاني من المنزل وقالت : خذي قسطًا من الراحة , إذا حان موعد العشاء سأخبرك .
دخلت الغرفة فرأيت شرفةً في نهايتها , ذهبت لها , فوجدت نفسي واقفةً أشاهد غروب الشمس في الأفق من شرفة منزلٍ خشبيٍ أبيض اللون , نظرت للأسفل فوجدت عجوزًا تتوسد حقيبتها على كرسي خشبيٍ طويلٍ , تأملتها للحظاتٍ , ثم وجهت عينايَ إلى عمود الإنارة الذي كان خلفها مع إضاءة فتيلته , ثم نظرت للعجوز مجددًا فرأيت فراغًا بجانبها على الكرسي استطيع الجلوس فيه , خرجت من المنزل ثم توجهت لذلك الكرسي , وجلست بجانبها بكل هدوءٍ ؛ لكي لا أزعجها , نظرت للمنزل الذي نزلت منه قبل قليل , تأملت الشرفة التي كنت واقفةً خلفها , وهمست قائلةً : هذا الواقع الذي لطالما حلمت به . وفجأةً سمعت صوت صديق طفولتي جمال يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
فاستيقظت العجوز على صوت جمال وكأنها رأت كابوسًا , فنظرت من حولي , رأيت جمال يركض باتجاهي , سبقني قلبي إليه , فلحقت به وقفزت إلى صدره , سألته ودموعي تنهمر كسيلٍ جارف : كيف وجدتني ؟
فأجاب : قبل يومان تعرضت ابنة الرجل الذي يقف خلفي لحادث دهس عندما كانت تقطع أحد الشوارع برفقة أخيها , فنزل سائق السيارة ليطمئن عليها , ثم رحل عندما رأى هيئتها السورية .
رفضت المستشفيات احتوائها لأنها لم تكن تحمل أوراقها الرسمية , فأدخلتها للمشفى العام بأوراق والدتي , واليوم عدت للمشفى عندما ترجم إليَ أحد الأشخاص الخبر الذي حملته إحدى الصحف اليونانية قبل يومان , والذي يفيد بأن المشفى العام استقبل الناجين من قارب الموت , وحينما عدت للمشفى وقبل أن أدخل إليه , تعرّف أخو الفتاة التي أنقذتها عليْ , واخبر والده الذي منعني من الدخول للمشفى كوني مطلوبًا أمنيًا فيه ؛ لأنّني أدخلت إليه مريضًا بصفةٍ غير شرعية , فأخبرته بأمرك ودخل يسأل عنك عوضًا عنّي , فقالوا له بأنكِ غادرت منذ ساعات .
كنت أريد أن أبحث عنك وأن أتجه للملاجئ التي أعدتها الحكومة اليونانية , ولكنه أصرَّ على أن أرتاح في منزله لمّا علم بأنّني لم أتوسد إلّا الأرصفة وبأنّني لم آكل شيءً يسد الجوع منذ لحظة وصولي .

كانت العجوز لا تزال مرعوبةً منذ أن استيقظت , ذهبت إليها وسألتها بمقلتي هل أنتِ بخير ؟
فقالت بلغة السلام التي يجب أن تفهمها سائر البشرية : بينما كنت جالسةً على أنقاض منزلنا , رأيت جدارًا انحنى وارتكز على الحطام بعد أن أتعبه الوقوف , فاستظليت تحته أنا وأفراد عائلتي الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وتوسدّتُ حجرًا كان يحمل سقف منزلنا و وضعت عليه رأساً مُثقلاً بالهموم , وتلحفت الغبار الذي تنهدَته المنازل ألمًا بعد سقوطها , وبدأت حينها أفكر بالهجرة بحثاً عن مراهقتي التي قضيتها وأنا أستمع إلى أجيج النيران التي التهمت موطني سوريا عِوضاً عن ألحانهِ الشامية العتيقة , وجال بخاطري أن أترك معه ذكريات تسعةَ عشر عامًا قضيتها فيه ؛ لأبحث عن مكانٍ أستطيع فيه أن أعيش مراهقتي من جديد .

جلنااااار
11-07-2016, 10:54 PM
قصه جميله نواره ..
القدر هو الذي يجعل الانسان يفارق مكان عاش فيه
سبحان الله افترق جمال وملاك
ولكن شاءت الاقداران يجتمعا في نفس المنزل
الله ينصرالشعب السوري ويفك ضيقهم
الله يعطيك العافيه .. دمتي بخير

نوارة الكون
12-07-2016, 07:36 AM
قصه جميله نواره ..
القدر هو الذي يجعل الانسان يفارق مكان عاش فيه
سبحان الله افترق جمال وملاك
ولكن شاءت الاقداران يجتمعا في نفس المنزل
الله ينصرالشعب السوري ويفك ضيقهم
الله يعطيك العافيه .. دمتي بخير



كل الشكر لج غاليتي اسعدني مرورج


ربي يعطيج العافيه

رايق البال
12-07-2016, 10:16 AM
هلا فيك نواره ..
قصه جميله ونسأل الله ان يمن على اهل سوريا بالطمأنيه والامن والسعاده
الف شكر لجهدك واختيارك وتفاعلك الجميل
طابت صباحاتك ..
( نص يستحق النجوم الخمس)

الشيخه الفلانيه
13-07-2016, 09:21 PM
قصه جميله

كُل آلششكرْ عَ آلأنتِقآء

يعطيكِ آلله آلععآفيهً :)
!