من كتاب :"رحلة البحث عن معنى :حكاية طبيبة تصاب بالسرطان وهي حامل"
الفصل (١)
خاطرة
وقبل البدء في الكتاب هذه خاطرة بقلم أب الدكتوره نور وهو الأستاذ الدكتور محمد علي البار وهو من أشهر الأساتذة في العالم الاسلامي في عالم الأخلاقيات الطبية وله عدة مؤلفات وإسهامات كبيرة في هذا المجال.
"نور هي آخر العنقود سبقتها ثلاث أخوات وأخ ... بفضل الله تعالى حفظت جميع البنات القرآن الكريم ، وحفظ علي أجزاء طيبة منه . وكانوا جميعا متفوقين في دراستهم ومتمسكين بدينهم وما يدعو اليه .
كانت نور منذ طفولتها الباكرة عقلانية بفضل الله وكرمه ، وأذكر ثلاث حوادث عندما كانت في الخامسة – السادسة من عمرها :
الأولى : كنا جلوسا في بلكونة المنزل وبدأت السماء تمطر وكانت أختي الكبرى معنا فقالت :
صبَّي صبَّي لبن لبن
العيد روس دخل عدن
وهي تشير الى حكاية كانت رائجة في الأجيال السابقة ، وهي أن ( الامام أبو بكر بن عبد الله العيد روس عندما دخل عدن عام 889هـ وتوطنّها أمطرت السماء لبنا . ( وهي حكاية تدلّ على فرح أهل عدن بمقدم العيد روس العالم الجليل والرجل الكريم بلا حدود )
فإلتفتت نور لعمتها وقالت : لبن لبن !!؟
فقالت : العمة : نعم هذه كرامة . اسألي أبوك ؟
فإلتفتت إليّ نور متسائلة : فقلت لها : ما رأيك أنت ؟
ففكرّت قليلا ، وقالت : خرافة . فضحكت واحتضنتها .
وفي الروضة المتقدمة سألت المدرسة التلميذات : كل واحدة تخبرني عن أي عضو مزدوج في جسمها وبادرت التلميذات : العينين .. الأذنين .. اليدين .. الرجلين .. الشفتين ، وجاء الدور على نور ، ولم تجد أمامها الأعضاء المزدوجة فقالت : القلب . فقالت المدرسة : القلب واحد يا نور ، فقالت نور : لا يا أبلة هناك بطين أيمن وبطين أيسر .. وصكت الأبله رأسها تعجبا . من أخبرك بهذا يا نور ؟ أبوك طبعا . قالت : لا ولكني سمعت أخواتي ( وهن يكبرنها ببضع سنوات ) وعرفت ذلك منهن .
وفي أحدى المرات كنت أسوق السيارة ومعي نور في الكرسي الخلفي ، وجاءت إشارة صفراء فعبرت دون توقف ، وبعد مروري بثوان تحولت الى حمراء ، فصاحت نور : يا بابا أنت قطعت الاشارة .
وكانت نور على حق فالاشارة صفراء وفعلا تحولت الى حمراء بمجرد مروري بها . وضحكت معها ، وقلت لها : انت شرطي مرور ممتازة .
ما ان وصلت نور إلى أواخر المرحلة الابتدائية الا وكانت قد التهمت كتب أحمد باكثير ... وقرأتها في المرحلة المتوسطة مرارا ، وخاصة ملحمة عمر ثم انطلقت منها الى الآداب العالمية : تشيخوف ، دستوفسكي ... الخ ومعها كتب مصطفى محمود وخالد محمد خالد وعمرو خالد ... الخ . كانت مثل أبيها وأمها وأخواتها مولعة بالقراءة وزادت عليهم شغفا بها .
وكانت خطتنا أنا وأمهم أن لا نستخدم الدروس الخصوصية . ونكتفي بالمدارس الحكومية مع مساعدتنا لهم ، وخاصة في المراحل الأولى من الدراسة . وبفضل الله سبحانه وتعالى كانوا دائما متفوقين في جميع مراحل الدراسة .
وكنا نترك لهم اختيار الكلية التي يريدون الالتحاق بها بعد جلسة مشاورات ... ولم نكن نفضل الابن الوحيد على أخواته ، وبطبيعته كولد كان يريد أن يفرض نفسه عليهم ، ولكنه وجد حزما في أن ذلك ليس له.
وفي الجامعة كانوا جميعا متفوقين في الدراسة ، بل ونالت ثلاث من البنات لقب الطالبة المثالية في الجامعة ومنهن نور ، التي كانت مثل اخواتها ، الأولى في دفعتها ، والشكر والحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى . اللهم اجعلنا من الشاكرين الذاكرين .
وبفضل الله سبحانه وتعالى تربى الجميع على الصدق والأمانة وحب الله وخشيته ، وساعدنا في ذلك مجموعة من الاخوات السوريات الفاضلات فجزاهم الله عنا خير الجزاء . فكانت دروس القرآن والسيرة والقدوة خير حافز للجميع .
وتزوجها زميل لها في كلية الطب . وسافرا في بعثة الى كندا ، وجاءت ظروف حمل وولادة فاضطرا للعودة إلى جدة .. ثم بعد فترة عادا الى الولايات المتحدة التي تفرض امتحانات قاسية متعددة قبل الالتحاق بالدراسات العليا . ونجحا في ذلك بفضل الله . ثم حدث حمل وورم في الثدي كما تقصه علينا نور باسلوبها النوراني البديع ....
وتكلمت معها ثم سألتها عما تنوي أن تصنع بالحمل وخطورة العلاج الكيماوي عليها ، فأخبرتني بأن هناك بعض الأدوية التي لا تؤثر في الحمل ، ويمكن استخدامها وكنت قد قرأت مقالات علميا في هذا الموضوع الشائك . بل وكانت لدينا حالة في المركز الطبي الدولي وكان استشاري الأورام يرى الاجهاض ، واستشارية النساء والولادة ترى أن يتم الحمل طالما كانت الحامل راغبة في مواصلة الحمل . وبعد اطلاعي على الابحاث وافقتُ الاستشارية رغم ان الحمل كان قبل المائة وعشرين يوما التي حددّها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن مسعود عن نفخ الروح في الجنين وسار عليه علماء الاسلام .
وهناك فتاوى واضحة بجواز الاجهاض حتى بعد المائة وعشرين يوما ، إذا لم تكن هناك وسيلة أخرى لانقاذ الأم سوى باجراء الاجهاض وتناول المواد المشعة والمواد الكيماوية الخطيرة . وشرحت لها تلك الأحكام .
قلت لنور : صلي الاستخارة . ثم سألتها بعد ذلك فوجدتها قد مالت الى مواصلة الحمل وأخبرتني أنها فتحت المصحف فوجدت أمامها قوله تعالى ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس )
فقلت لها فورا : انتهى الأمر ، وتوكلي على الله وسيجعل الله لك فرجا ومخرجا .
وجاءت مريم سليمة بفضل الله تعالى وقرة عين لنا جميعا مع أخيها أحمد .
بارك الله في نور واخوتها وحفظها لنا وشفاها ببركة المئات ممن دعا لها بالشفاء التام . وهو سبحانه القائل : ( ادعوني استجب لكم )"
ملاحظة: هذه الخاطرة كتبت قبل وفاة الدكتوره نور رحمها الله وغفر لها فسيح جناته.