من بين صفحات التاريخ، ومن ثنايا سِيَرِ الصالحات الخالدات، عثرتُ على صورةٍ فريدة لحياة مليئة بالمواقف والمفاجآت لامرأةٍ من نوعٍ نادرٍ قلّ أن يتكرر له مثيل أو نظير، حيث برزت أمامي شخصية عجيبة حقّ لنا أن نقف عندها طويلاً نتأمل معالمها، ونستخلص من مواقفها العبر..
إنها المرأة الصالحة جلنار واسمها الحقيقي جهاد بنت جلال الدين بن خوارزم شاه، زوجة أمير معركة عين جالوت سيف الدين قطز وابنة عمه..
عاشت حياةً عصيبة مليئةً بالأخطار والمواقف الحرجة، وتجاوزت كل مراحلها بصبر وعزة وثبات وإباء، لتواصل حتى النهاية الخالدة المؤثرة التي تركت بصمتها على جبهة التاريخ ليتحدث عنها بفخر واعتزاز..
أبصرت النور على حالةٍ مزرية للعالم الإسلامي آنذاك، حيث أفاقت عليه وهو يعتصر الألم والتفرق والهزائم أمام هجمات التتار والمغول من جهة، والصليبيين من جهة أخرى..
ترعرعت جلنار في بيئة الحرب والقتال، ونمت بين أعواد الرماح، وعانت التشرد والأسفار هرباً من المغول وطلباً للنجاة من بأسهم الذي لا يرحم صغيراً ولا كبيراً..
شهدت هي ومحمود المسمى بقطز وهما طفلان صغيران موت أمها وأمه وعدد من أقاربهما النساء على أيدي التتار وقطاع الطرق، كما تعرضا لمحاولات القتل العديدة أثناء هجرتهما إلى الهند..
بيعت في سوق الرقيق كالمتاع مع أنها ابنة ملك كبير كُتبت عليه الهزيمة أمام التتار ليعاني هو وعائلته أشد المعاناة ..
فرقت الأيام بينها وبين ابن عمها ليعيش كل واحد منهما في بيت أحد التجار أعواماً طويلة..
ثم شاء الله تعالى أن يلتقيا في قصر الصالح نجم الدين أيوب عند زوجته شجرة الدر، وتعيش جلنار في ذلك القصر وسط فتن تُحاك ليل نهار، وبين نفوس مفتونة بالملك وملذات الحياة، وحريصة على الدنيا وزخرفها، مما يزيد من إيمانها بقضاء الله وقدره، وأن الله لا بد جاعل لها من أمرها فرجاً ومخرجاً ..
وتلتقي بابن عمها في ذلك القصر، ويهيئ الله تعالى لهما الزواج، ثم يهيئ لمحمود (قطز) مُلك مصر ومحاربة التتار..
ويلتقي جيشه العرمرم بجيش المغول والتتار المغرور في عين جالوت، وتشتعل المعركة وتدور الدائرة على التتار، فتحاول مجموعة منهم الوصول إلى قطز للقضاء عليه، فيقتل منهم ثلاثة، ويصل الرابع إليه ليقتله، فيفاجأ بفارس ملثم يضربه بالسيف فيرديه صريعاً، بعد أن يتلقى منه ضربة قاتلة.. وما كان ذلك الفارس الملثم إلا جلنار زوجة القائد العظيم قطز.. جاءت إلى المعركة لتفديه بنفسها وتنقذه من القتل ليظل قائداً للمسلمين يقودهم نحو النصر النهائي على التتار الذين ارتكبوا بحق المسلمين من الفظائع مالا يحصره وصف..
وينكب القائد على زوجته وهي تجود بروحها في سبيل الله فيصرخ: واحبيبتاه.. فتقول له: مه.. لا تقل واحبيبتاه.. ولكن قل: وا إسلاماه..
الله أكبر .. تقولها وهي في آخر رمق .. نعم .. وا إسلاماه .. فمن أجل نشره وإعلاء رايته نقاتل.. لا من أجل دنيا أو امرأة أو متاع زائل.. قل: وا إسلاماه .. وارفع بها صوتك عالياً ..
نهض قطز وجعل يصرخ في المسلمين.. وا إسلاماه.. صرخة مدوية زلزلت المكان، وجعلت المسلمين يهتزون ويشعرون بالقوة والعزة فينهضون لقتال أعدائهم بهمة ونشاط..
وينهزم التتار شر هزيمة، ويتبع المسلمون فلولهم حتى تتم إبادتهم والقضاء على شرورهم وأخطارهم إلى الأبد..
وتظل ذكرى جلنار عالقة في الأذهان، في صفحة تاريخية ناصعة مشرقة... تُبرز عظمة الفداء والوفاء، وتُظهر أروع صور التضحية النسائية المجيدة في تاريخ أمتنا الحافل بالصور العظيمة المشرقة ..
هكذا فلتكن النساء.. صبر على المعاناة، ورضا بالقضاء والقدر، واستعلاء على الألم، وتضحية في سبيل الله، ورعاية لحقوق الزوج الصالح، وافتداؤه بالنفس والروح..
صورةٌ أضعها بين يدي نسائنا ليتأملنها ويسبرن أغوارها، ويستخلصن منها الفوائد والعبر..
صورة فيها القدوة، وعلى خطاها ينبغي أن نسير.. حتى نصنع أجيالاً تعيد المجد والعزة للمسلمين..
