أخلاق العمانيّين في الحرب..الإمام الرحيلي – أنموذجا
أثير – تاريخ عمان:
كان آل الرحيل في صحار من كبار علمائها، ولهم مكانة مرموقة بين الجميع، وكان الإمام سعيد بن عبدالله بن محمد بن محبوب الرحيلي بذات المكانة بين كبار العلماء الذين اتفقوا بمبايعته إماما على عمان بعد حالة الضعف، والهوان الذي عصف بعمان أيام القرامطة وجرائم ابن بور وسلاطين آل سامة بن لؤي، وما اكتنف ذلك الجو من انقسام، وحروب، وضعف.
فكانت بيعة الإمام سعيد بن عبدالله تقريبا في سنة 320هـ، راحة لأهل عمان بعد تلك البلايا والمحن، وكانت بيعة جرت على الدفاع لا على الشراء بسبب الفوضى التي حلت في عمان داخليا بالإضافة إلى الأخطار الخارجية التي كانت تتعرض لها من قبل الدولة العباسية التي أرسلت العديد من الجيوش لمهاجمة عمان واحتلالها.
وحينما تمّت البيعة للإمام كان عامل العباسيين يوسف بن وجيه قد احتلّ بعض أجزاء عمان في فترة شتاتها، وضعفها، وقد كان من البغاة بظلمه، وتسلّطه وسلطانه، ولعل أمراء بني سامة كانوا السبب في سلطنته، وهم أعضاء جيشه، وأركان إمارته، وكان العداء مستعرا بين الإمام سعيد بن عبدالله ويوسف بن وجيه.
وتذكر المصادر التاريخية أنه حينما قام أمر الإمام سعيد بن عبدالله في عمان خرج لمحاربته يوسف بن وجيه الذي احتلّ الظاهرة والبريمي من غرب عمان، حيث كان أغلب الغزاة يدخلون عمان من ذلك الجانب بسبب سهولة العامل الجغرافي في ذلك .
كان الصراع بين الإمام ويوسف بن وجيه غالبا ما ينتهي بانتصار الإمام الرحيلي، وحينما التقى الجيشان في نزوى كان يوسف بن وجيه قد احتل جزءا منها، ولكن جيش الإمام استطاع أن ينتصر في تلك المعركة التي انتهت بهرب ابن وجيه خارجا من نزوى مذعنا لسطوة الحق بقيادة ووحدة العمانيين خلف إمامهم.
في هذه المعركة خاصة ضرب الإمام سعيد بن عبدالله أروع الأمثلة في إحقاق الحقوق ولو للعدو الذي يحاربه، فحينما انتصر الإمام في موقعة نزوى على ابن وجيه ، قام أحد جنود الإمام بخلع رز باب كان يتبع معسكر خصمه الذي اغتصب البلاد أصلا، وحينما وصل الخبر للإمام بما فعله هذا الجندي، وبخه الإمام وعاقبه وحبسه وأمر بإرجاع رز الباب إلى عدوه يوسف بن وجيه، ولم يجسر بعدها أحد من جند الإمام أن يأخذ شيئا في المعركة يتبع ملك هذا السلطان الجائر خوفا من عقاب الإمام لعدالته في حفظ الأموال وعدم قبوله بهذه التجاوزات ولو في وسط الحرب خوفا من الله.
وفي هذه الأثناء بعث الإمام سعيد بن عبدالله رسالة إلى يوسف بن وجيه، بعد هذه الحادثة يذكره بأخلاق العمانيين في السلم والحرب وفي إحقاق الحقوق، وإنهم لا يطمعون بأموال أهل قبلتهم ولو كانوا اعداءهم ما داموا يعترفون بأوامر الإسلام ويشهدون بمقتضى الشهادتين، وبيّن له جهة النصح، والتهديد الذي له قواعد في الإسلام، وواجبات في الحلال والحرام حيث قال الإمام:
” من إمام المسلمين سعيد بن عبدالله، ومن قبله من المسلمين، إلى يوسف بن وجيه ، وأن في شأننا وشأنك لعجب في حلقة حديد في رز باب أتّهم بها رجل من رعيتنا أنه قلعها من معسكر أصحابك بنزوى، فحبسنا الذي اتهم بها لأننا نستحل حبس أهل التهم على قدر استحقاقهم في حكم المسلمين، وقلنا للناس جهرا على رؤوس الملأ أن أموال أهل القبلة علينا حرام كحرمة أموالنا على بعضنا البعض، وحجزنا على الناس التعرض لأشيائكم ما دقّ منها وما جلّ، حتى قال من لا علم له بأصول الدين إنكم الآن حفظة للجند على أموالهم، ومن ذلك الحبوب التي جمعت في الأمصار التي استولينا عليها ، وجرى حكمنا عليها، ولم علم الناس منّا أنا لا نستحل شيئا، ولا نغار أحدا على معصية الله كائنا من كان من الناس منعهم ذلك من التعرض لأشيائكم كلها، فلم يتعرضوا لأشيائكم التي كانت بجوارنا كلها من بلداتنا ،ولولا خوف العقوبة منا لانتهب ذلك بأيسر مؤنة ولم يكن ذلك المنع الذي منعناه تقربا إليك ، ولا ابتغاء وسيلة منا إليك ، ولكنا اتبعنا في ذلك كتاب الله وآثار أسلافنا في تحريم أموال أهل القبلة، كما نادى بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: “إن أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا”.
وقد حاربناك محاربة المسلمين لأهل البغي حتى تفيئ إلى أمر الله، فلا نهاية لذلك عندنا أو تفنى روحك، أو أرواحنا على إحياء الحق، وإماتة الباطل إن شاء الله، فلا نستحل منك مالا ولا نسبي لك عيالا، ولا ننسف لك دارا، ولا نعقر لك نخلا، ولا نعضد لك شجرا، ولا نستحل منك حراما، ولا نجهز على جريح، ولا نقتل مواليا تائبا ولا مستأمنا إلينا، ولا نغنم ماله ولا ندعو أحدا يتعدى عليه بنفس ولا مال ، فإن فعل ذلك أحد بأحد أخذنا له الحق إذا صح معنا فمن كان في يده مال فهو أولى به ، لأننا لا نزيل مالا إلا بحجة”.
هكذا كانت أخلاق الإمام سعيد بن عبدالله الرحيلي مع أعدائه في الحرب، فما بالكم بعدالته بين أهل عمان في عهده الذي لم يستمر طويلا نتيجة استشهاده، وهو يحاول أن يصلح بين جماعتين حدثت بينهما الفتنة والقتال نتيجة خصام امرأتين، دخل الإمام مثلما تروي المصادر التاريخية بين هاتين الجماعتين وسط القتال محاولا تهدأت الأمور والصلح بينهم فما شعر الناس إلا والإمام قتيلا بينهم سنة 328هـ ولا يدرى من هو قاتله رحمه الله واسكنه فسيح الجنات.
*المرجع : عمان عبر التاريخ، تأليف الشيخ سالم بن حمود بن شامس السيابي، الطبعة الخامسة ، 2014م ، وزارة التراث والثقافة مسقط
