بـاب صفـة الحـج ودخـول مكــة
اعلم أن أشمل حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة حجه هو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه منسك كامل في بيان هذا الأمر خصوصاً إذا جمعت رواياته بعضها إلى بعض ، فقد عُني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حجة النبي صلى الله عليه وسلم فنقل في هذا الحج معظم أفعاله من خروجه إلى رجوعه.
692- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حــج فخرجنا معه ، حتى إذا أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عـميس فقال : « اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ... » الحديث .
هذا الخبر من أفراد مسلم دون البخاري رحمهما الله . قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله به . ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة .
قوله : [ أن رسول الله حج ] :
تقدم عندنا أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قبل الهجرة ولا بعدها إلا حجة الوداع ، وقد كانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة ، وقد فرض الحج على القول الراجح في السنة التاسعة وفيها بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعلياً في الحج وأمرهما أن يقرءا على الناس سورة براءة وأنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان .
قوله : [ فخرجنا معه ] :
فيه استحباب صحبة العلماء وأهل الفضل في الأسفار للاستفادة منهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم وكسب الخصال الطيبة منهم والتعلم على أيديهم .
قوله : [ حتى إذا أتينا ذا الحليفة ] :
وهو موضع إحرام النبي صلى الله عليه وسلم ، ويسمى بالعقيق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العيق بأنه وادي مبارك ، وقد أمر الله نبيه أن يصلى بهذا الوادي وأن يحرم منه قارناً كما جاء هذا في صحيح الإمام البخاري رحمه الله . وذو الحليفة هو أبعد المواقيت عن مكة ، ويليه في البعد الجحفة ، ويليه يلملم ويليه قرن المنازل .
قوله : [ فولدت أسماء بنت عميس ] :
وهي زوجة أبي بكر الصديق وقد ولدت له محمداً ، وكانت من قبل تحت جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين الذي قتل في غزوة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة حين أخذ الراية بيمينه فقطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله فقطعت شماله ، فأخذ الراية بين ثدييه فقتل رضي الله عنه وأرضاه ، وكان قبل ذلك قد عقر جواده حتى لا ينتفع به المشركون وحتى يقاتــل حتى الموت ، فهو أول رجـل مسلم عقر جواده في سبيل الله . فلما قتل جعفر تزوجت أسماء أبا بكر، وكان يُضرب بها المثل في الجمال حتى قيل فيها أنها من أجمل نساء العرب ، فلما توفي أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وهذا هو أول العهد بأسماء وآخره ، فليس في الحديث ذكر لأسماء بعد هذا ، فلم يذكر لنا جابر بن عبد الله ماذا صنعت فيما بعد هل طهرت قبل طواف الإفاضة فطافت مع الناس ؟ ، أم أنها بقيت على نفاسها ؟ وهل أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تطوف وهي نفساء من باب الحاجة ؟ أم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد محارمها أن يبقى معها حتى تطهر ؟ . كل هذا مسكوت عنه .
وجميع طرق الحديث لم تتكلم عن هذه القضية مع حاجة الأمة إليها ، فلو جاء خبر عن حال أسماء لكان قاطعاً لتنازع المتنازعين في حكم طواف الحائض للإفاضة إذا خشيت فوات الرفقة ، فقد بحث هذه القضية شيخ الإسلام بن تيمية بالفتاوى ، وبحثها أيضاً تلميذه الإمام العالم ابن القيم رحمه الله وذلك في (إعلام الموقعين) فتوصل كل منهما في بحثه إلى أن الحائض تطوف بعد أن تستثفر بثوب ونحوه من باب المصلحة والحاجة ، فلو أمرناها بالبقاء دون رفقتها لحصل بسبب ذلك فساد كبير ربما من انتهاك الأعراض وما شابه ذلك ، وإذا أمرناهـا أن تذهب بدون طواف فقد أمرناها أن تبقى محرمة أبد الدهر ، ولا يأتي شرع بهذا ، فلا يبقى إلا ان تستثفر بثوب وتطوف حائضاً ، ولكن في زماننا هذا ربما يكون الأمر أسهل فإذا لم يأذن رفقتها بالبقاء تذهب معهم وترجع إن تيسر لها هذا بعد الطهر فتطـوف بالبيت ، وإذا لم يتيسر فليس هناك بُـد من القول بما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
قوله : « اغتسلي » :
هذا الأمر للاستحباب ، لأن الغسل لا يطهرها ، وقد نقل الإمام ابن المنذر رحمه الله الإجماع على هذا ، ولكن جاء عن الحسن البصري خلاف في هذا . ورجح الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله وجوب الغسل على النفساء خاصة ، وهذا هو اللائق بظاهريته ، فلو وجب الغسل على النفساء لكان على الطاهرة من باب أولى ، ولكنه رحمه الله أخذ بالظاهر ولم ينظر إلى المعنى الحقيقي ، فوقع بهذا الغلط . وقد تقدم عندنا بحث قضية الغسل وما قيل في ذلك وما جاء فيه من الآثار .
قوله : [ فلما استوت به على البيداء أهل بالتوحيد ] :
وهذا دليل القائلين في مشروعية الإهلال من البيداء ، ولكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل قبل البيــداء ، وتقدم عندنا حديث ابن عمر في الصحيحين أنه قال : بيداؤكم التي تكذبون فيها على رسول الله ، ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد . متفق عليه .
وقد تقدم بحث هذه القضية وأن الراجح : مشروعية الإهلال من عند المسجد وهذه هي السنة الثابتة ، وأكثر الآثار تدل على هذا .
قوله : [ أهل بالتوحيد ] :
فيه مشروعية الجهر بالإهلال وأما نية الدخول بالنسك فذلك ركن من أركان الحج أو العمرة .
قوله : [ لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ] :
هـذه التلبية تشتمل على الانقياد لأوامر الله والإذعان لذلك وتشتمل على توحيد الباري ونـفي الشريك عنه ، خلافاً للمشركين الذين يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكٌ هو لك تملكه وما ملك . فهذا معنى قول الله جل وعلا : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) } يؤمنون بقولهـم : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، ثم يثبتون بأن لـه شريكاً : بقولهم ( إلا شريك هو لك تملكه وماملك ) .
قوله : [ حتى إذا أتينا البيت استلم الركن ] :
فيه مشروعية استلام الركن ، والأفضل تقبيله إن تيسر هذا ، وإن لم يتيسر فالأفضل استلامه ، وإن لم يتيسر فالإشارة إليه ، وأما السجود عليه فقد ورد بذلك حديث عمر ، رواه أحمد وغيره . وفيه اضطراب ولا يصح .
قوله : [ فرمل ثلاثاً ] :
وهو مستحب بالاتفاق ، والرمل هو مقاربة الخطى ، لما هو فوق المشي ودون السعي الشديد ، والمستحب في الرمل أن يكون في الثلاثة الأُول ، ولا يكون إلا في طواف القدوم .
قوله : [ ومشى أربعاً ] :
وهذه هي السنة ، وأما ما يفعله بعض الناس من الرمل في السبعة كلها فهذا غلط وهناك طائفة أخرى ذكروا أنه مطلق وهذا غلط أيضاً ، والسنة في هذه القضية ما دل عليه هذا الخبر .
قوله : [ ثم أتى مقام إبراهيم فصلى ] :
أي صلى ركعتين ، فقــد جـاء في صحيـح الإمــام مسلم أنه صلى في الأولى بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والثانية بـ { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وفي رواية : قرأ في الأولى : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } والثانية : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
ولا يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام ، فلو صلاهما في أي مكان من الحرم أو خارجه صح هذا ، وقد اختلف العلماء في حكم هاتين الركعتين ، فذهب جماهير العلماء إلى إنها مستحبة ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى إيجابها ومال إليه العلامة ابن مفلح رحمه الله في ( الفروع ) ، والحكمة بتخصيص هاتين السورتين بهاتين الركعتين ليتذكر الطائف أن الطواف وهذه العبادة ليست لهذه الأحجار إنما هي لله الواحد القهار ، فلو لم يأمرنا ربنا جل وعلا في الطواف بهذا البيت ما طفنا به ولا تعبدنا الله به .
قوله : [ ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ] :
فيه استحباب استلام الركن بعد صلاة ركعتين خلف المقام .
وفيه مشروعية الخروج إلى الصفا من بابه .
قوله : [ فلما دنا من الصفا قرأ : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } :
استحب بعض أهل العلم قراءة هذه الآية عند الدنو من الصفا ، والذي يظهر والعلم عند الله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قرأها من أجـل الـتعليم كما قـرأ عند المقام : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ، فـنلاحـظ عـلى بعـض الناس أنهم يـقرأون : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ... } الآية . ويعتقـــدون سنية هذا ، ولهم سلف في هذه الـقضية ، ولكنهم لا يقرأون : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } عند المقام وقد جاءت قراءة هاتين الآيتين في حديث واحد ، فإما التزام قراءتهما معاً وإما تركهما معاً إلا عند انعقاد السبب من أجل التعليم ، وهذا هو الذي يظهر دليله. والعلم عند الله .
قوله : « أبدأ بما بدأ الله به » :
هكذا جاء في مسلم بلفظ الخبر ، وقد رواه النسائي رحمه الله بلفظ الأمر ، وهي رواية شاذة ، وقد رجح أكثر الحفاظ رواية الخبر . فقد اتفق حاتم ابن إسماعيل ووهيب ومالك وسفيان على روايته بلفظ الخبر وهو الذي رجحه الإمام ابن التركماني رحمه الله في ( الجوهر النقي ) .
قوله : [ فرقى الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ] :
فيه استحباب رفع اليدين عند الصعود على الصفا ، وصفة رفعهما كصفة رفعهما عند الدعاء ، ويستحب حينئذٍ التكبير والتحميد كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود ، ويستحب التهليل أيضاً وأن يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده . وذلك في قول الله جل وعلا : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11) } .
ويستحب الدعاء فيما بين ذلك ، والمستحب في الدعاء إخفاؤه ، وأما الذكر فالمستحب الجهر به كما هو مفهوم هذا الخبر ، وصفة فعل هذا أن يذكر الله أولاً ثم يدعو ثم يذكر الله ثانياً ثم يدعو ثم يذكر الله ثالثاً ثم ينزل من الصفا لقوله في الحديث : [ ثم دعا بين ذلك ] فيكون الذكر ثلاثاً والدعاء مرتين ، وهذا التوضيح يفهم من سياق الأحاديث والعلم عند الله .
قوله : [ ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ] :
المراد حتى إذا وصل المكان المنخفض وهو ما بين العلمين الآن فقد كان وادياً إلى عهد قريب سعى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوادي ، والسعي هو المشي الشديـد وهو سـنة ، وقيل واجب ، وفيه نظر .
وذكر القاضي عياض وغيره أنه يرمل رملاً ، وقد وقع في بعض طرق الحديث: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل ، وقد جاء في المسند من حديث حبيبة بنت تجزاة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى والناس حوله فرأت ركبته من شدة السعي يدور به إزاره . أي من شدة السعي ، ولكن في هذا الحديث مقال وضعف يسير .
قوله : [ حتى إذا صعدتا مشى ] :
أي حتى إذا صعد الوادي وهو المكان المنخفض مشى حتى أتيى المروة ، وحينئذ فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر والدعاء كما فعل على الصفا .
وقد أجمع العلماء على أن السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط الذهاب سعيه والرجوع سعيه أخرى ، واتفقوا على أن يبدأ من الصفى وينتهي بالمروة .
قوله : [ فلما كان يوم التروية ] :
سمي بهذا الاسم لأن الناس يروون فيه الماء، وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة.
قوله : [ توجهوا إلى منى ] :
أي محرمين ، والسنة للحجاج أن يحرموا من أماكنهم ، فإن كانوا نازلين في الأبطح يحرمون قبل الزوال من الأبطح ثم يذهبون إلى منى ، وإن كانوا ساكنين في منى فيحرمون من أماكنهم ، وقد قال بعض الفقهاء كما في ( الروض المربع ) : يحرم من مكة تحت الميزاب ، وهذا غلط وبدعة ، فلم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم من عند الميزاب ولا عُهـد هـذا عن أحد من الصحابة ولا فعله أحدٌ من التابعين ، وقد أحسن القائل :
وخير الأمور السالفات على الهدى *** وشر المحدثات البدائع
قوله : [ وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ] :
أي صلى كل صلاة في وقتها قصراً لا جمعاً ، لأن الجمع للحاجة بخلاف القصر فإنه للسفر ، فلا تلازم بين السفر والجمع ، ولكن هناك تلازم بين القصر والسفر ، فالمسافر يقصر الصلاة ولكن لا يجمع إلا عند الحاجة ، والجمع يشرع مع انعقاد سببه في الحضر والسفر ، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للحاجة ، وأما الفجر فلا يجمع معها غيرها بالإجماع .
قوله : [ حتى طلعت الشمس ] :
أي لم يدفع من منى إلى عرفات حتى طلعت الشمس ، وهذه السنة خلافاً لبعض الجهال الذين يذهبون إلى عرفات في ليلتها ، وهذا غلط وخلاف السنة .
قوله : [ فأجاز حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ]:
المراد حتى توجه إلى عرفات ولم يدخلها ، وإنما قصد طريقها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجد القبة قد ضربت له بنمرة ، ونمرة مشعرٌ وليست من الحرم ، وكون القبة ضربت للنبي في نمرة فيه دليل على جواز الاستظلال في الخيام وما كان في معناها ، إلا أن المحرم لا يجعل شيئاً يلاصق رأسه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلـــم قال : « لا يلبس المحرم البرانس ». والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر .
فيستحب للحاج أن يجلس في نمرة إلى زوال الشمس إن تيسر له هذا ، فإن لم يتيسر له فلا مانع من الذهاب إلى عرفات قبل الزوال وإلا فالسنة أن لا يذهب إلى عرفات إلا بعد جمع الظهر مع العصر ، فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه معه ، وقد قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
وقد ذهب الإمام أحمد في إحداى الروايتين إلى أن الوقوف بعرفات لا يبتدئ ولا يصح إلا من بعد الزوال ، فلو أن امرءاً ( عـند الإمـام أحمد ) وقف بعرفات من الفجر إلى قبيل الزوال ثم دفع ما صح حجه حتى يقف ولو قليلاً بعد الزوال . وهذا قول أكثر أهل العلم أبي حنيفة ومالك والشافعي، وذهب أحمد في رواية عنه إلى أن الوقوف يصح قبل الزوال مستدلاً بحديث عروة بن مُضرس . وسوف يأتي إن شاء الله الكلام عن هذه المسألة .
قوله : [ حتى أتى بطن الوادي ] :
أي حتى أتى بطن عرنة يوجد فيها الآن بعض المسجد الذي بعرفات أتى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوادي ليخطب فيه ، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة ذكرهم فيها بربهم وأوصـاهم فيها بالنساء خيراً وعلمهم ما يحتاجون إليه من المناسك .
فيشرع للخطيب أن يعلم الناس بهذه الخطبة أمور دينهم وما يغلب على ظنه أنهم يجهلونه ، خصوصاً المسائل المتعلقة بالتوحيد فإن حاجة الناس إلى التوحيد فوق حاجتهم إلى تقرير بعض المسائل ، وفي كل خير ولكن التوحيد أعظم . والسنة للخطيب أن يخطب خطبة واحدة ، وقد استحب فقهاء الشافـعية خطبتين ، والقول الأول أصح .
قوله : [ ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ] :
فيه استحباب جمع العصر مـع الظهر في عرفات ، وهذا الجمع مما أجمع عليه المسلمون ، والمستحب في هذه الصلاة مخافتة القراءة فيها ، والحكمة بجمع العصر مع الظهر في هذا المقام ليطول وقت الوقوف ليتضرع العبد لله جل وعلا .
وفي جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات بين هاتين الصلاتين دليل على مشروعية الجمع للحاجة ، وقد زعم أبو حنيفة رحمه الله أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم هنا من أجل النسك لا من أجل السفر فتعقبه شيخ الإسلام في الفتاوى ورجح أن الجمع بين الصلاتين في عرفات من أجل السفر لا من أجل النسك ، وهو قول جماهير العلماء .
وفي الحديث دليل أيضاً على مشروعية أذان واحد لكل الصلاتين .
وفيه مشروعية الإقامة لكل صلاة ، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة كما جاء في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في صحيح مسلم .
قوله : [ ولم يُصلِّ بينهما شيئاً ] :
وهذا هو المشروع للمسافر ، ومن جمع بين الصلاتين لا يحدث تطوعاً بين الفريضتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل هذا .
قوله : [ ثم ركب حتى أتى الموقف .... واستقبل القبلة ولم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ] :
أي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الجبل بعرفات المسمى بجبل الرحمة فاستقبل القبلة ففيه استحباب استقبال القبلة عند الدعاء ، ولا يجب هذا وإنما يستحب ، وأما صعود الجبل فليس بمشروع بل لا أصله ، إنما المشروع الوقوف عنده واستقبال القبلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اليوم واقفاً على راحلته ففيه استحباب مثل هذا ، لذلك لم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم حتى غاب قرص الشمس ، ولذلك أوجب الإمام أحمد هذا الفعل ، وأما الإمام مالك فجعله شرطاً لصحة الحج ، وفي هذا نظر ، والأقرب التوسط ، فلا نقول بقول المالكية بأن الوقوف ليلاً بعرفات شرط لصحة الحج ، ولا نقول بقول جماعة من أهل الظاهر بأن الوقوف إلى الليل مستحب بل نقول : إن الوقوف إلى غياب القرص واجب ويصح الحج بدونه ، وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله .
قوله : [ حتى أتى المزدلفة ] :
أي ودفـع النبي صلى الله عليـه وسلم من عرفات بتؤدة وسكينة وهو يأمر الناس: « يا أيها الناس السكينة ، السكينة » وذلك لئلا يؤذي بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً ، لا ضرر ولا ضرار . حتى وصل إلى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء ، وهذه هي السنة للقادم إلى مزدلفة ، يبدأ أولاًبصلاة المغرب سواء قدم في أول وقتها أو بوقت العشاء الآخرة أو فيما بين الوقتين ، فإذا صلى المغرب مع العشاء بأذان واحد وإقامتين وهذه هي السنة في هذه المسألة ، وقد قال بعض الفقهاء : يـؤذن أذانين ، ويقيم إقامتين وهذا مذهب عبد الله بن مسعود ، وقالت طائفة ثالثة : يؤذن أذاناً واحداً ويقيم إقامة واحدة .
والصحيح في هذه المسألة أنه يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة ، ووجود الفاصل بين الصلاتين لا يؤثر ولا تشترط نية الجمع على القول الراجح ، وما ذكره بعض الفقهاء من الاشتراط يحتاج إلى دليل والدليل هنا متعذر .
وهنا بعض المسائل المتعلقة بالجمع : -
المسألة الأولى: ما الحكم إذا خشي فوات الوقت هل يصلى في الطريق أم لا؟.
الجواب : أنه لا مانع من صلاته في الطريق حين يخشى فوات الوقت ، وأما مع عدمه فهذا خلاف السنة ، فإن السنة أن يصلي بالمزدلفة .
المسألة الثانية : إذا قدم المزدلفة فيما بين الوقتين له أن يبادر بأدائهما معاً ، وقد قال بعض أهل العلم : يُصلي المغرب وينتظر دخول وقت العشاء أو يؤخر المغرب إلى دخول وقت العشاء ، وهذا لا دليل عليه وهو خلاف ظاهر الأحاديث . والحق في هذه القضية أنه يبادر بأداء الصلاتين ، سواء قدم فيما بين الوقتين أو غير ذلك .
المسألة الثالثة : الحديث صريح في عدم التنفل فيما بين الصلاتين ، لقوله : [ ولم يسبح ] أي لم يُصل بينهما شيئاً .
قوله : [ ثم اضطجع حتى طلع الفجر ] :
ظاهر هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم هذه الليلة للتهجد ، وبهذا قال بعض أهل العلم ، فاستحبوا ترك التهجد ليلة المزدلفة ، ولكن جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الوتر ولا ركعتي الصبح لا حضراً ولا سفراً . ويمكن حمل حديث جابر على أحد أمرين : إما أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ترك ذكر قيامه للعلم به ، فقد استفاض واشتهر بين الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع قيام الليل والوتر فاستغنى جابر بالشهرة عن الذكر .
الأمر الثاني : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أوتر قبل أن ينام ، وكون جابر بن عبد الله ما ذكر هذا لا يعني أنه لم يقع ، فإن نقل العدم ليس علماً ، وعائشة رضي الله عنها تخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الوتر ولا ركعتي الفجر لا حضراً ولا سفراً .
ولذلك جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم قاموا هذه الليلة كما في حديث أسماء رضي الله عنها في الصحيحين وأنها لم تزل تصلي حتى غاب القمر .
قوله : [ وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ] :
جاء في حديث ابن مسعود في الصحيحين ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بأداء هذه الصلاة في غير الوقت المعتاد ، وذلك ليستقبل يوماً عظيماً من أعظم الأيام ألا وهو يوم النحر ، فيستفتحه بالوقوف عند المشعر الحرام فيدعو ربه ويهلله ويحمده . ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في بيان قراءته في ركعتي الصبح ، ولا نقل ذلك الصحابة إلينا ، ولم يذكروا هل أطال القراءة أم قصرها ؟ كل هذا لم يذكره جابر بن عبد الله ، فلذلك نستطيع أن نقول : إن عدم ذكر جابر بن عبد الله لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولطولها ولقصرها يدل على أن جابراً لم يذكر كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله في الحج ، فمن أخذ من حديث جابر إن ما لم يذكره ليس واجباً ، وليس مستحباً فقد غلط ، وأيضاً من أخذ منه عدم قيام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة فهذا فيه نظر ، لأن جابراً أيضاً لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم هل صلى ركعتي الفجر أم لا ؟ ولهذا نقول : إن نقل العدم ليس علماً ، فمن نفى تهجد ليلة المزدلفة بحـديث جـابر فـيلـزمه أن يـنـفي ركعتي الفجر ، لأن جابراً لم يـذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى .
ولذلك نقول الحق في هذه القضية : أن المسلم لا يدع الوتر لا حضراً ولا سفراً ولا يدع ركعتي الفجر ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها » . رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها .
قوله : [ ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ] :
وهو جبـلٌ صغير كان معروفاً عندهم ويسمى بـ ( قـزح ) والآن هدم وأقيم المسجد المعروف مقامه ، فيستحب الوقوف عند المشعر الحرام للدعاء وحمد الله وذكره وتمجيده وتعظيمه ، ويستحب أن يستمر الوقوف إلى الإسفار ، وهل هذا واجب أم مستحب ؟ .
الجمهور عـلى استحباب ذلك ، وذهب ابن حزم إلى الوجوب مستدلاً بقول الله تعالى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وقال : هذا أمر ، والأمر يفيد الوجـــوب ، ونحن نقول لأبي محمد : أما كون الأمر يفيد الوجوب فهذا صحيح ، ولكن معنا دليل على أن الأمر في الآية للاستحباب لا للإيجاب ، وهذ الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى المزدلفة قال : « وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف » . رواه مسلم في صحيحه . هذا الدليل الأول .
الدليل الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف عند المشعر الحرام لم يقف معه كل الصحابة ، بل كانوا متفرقين ، فهذا دليل صريح على أن الوقوف عند المشعر الحرام للاستحباب لا للإيجاب ، وإلا لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة الذين لم يقفوا عند المشعر الحرام ، وبعض الناس في هذا اليوم ما بين إفراط وتفريط ، ما بين إنسان يدفع بعد صلاة الصبح ليسابق الناس ويصل الأول وهذا غلط وما بين إنسان ينام فلا يستيقظ إلا من حر الشمس وهذا غلط أيضاً وتشبه بالمشركين فإنهم كانوا لا يفيضون كما في حديث عمر عند البخاري رحمه الله حتى تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفع حينما أسفر جداً قبل أن تطلع الشمس .
قوله : [ حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ] :
يستحب الإسراع للقادم من المزدلفة إلى منى حين المرور بوادي محسر ، وقد ذكر بعض الفقهاء بأن الحكمة من الإسراع لأنه موطن عذاب وسمي ( محسراً ) لأن الفيل الذي بعثه أبرهة لهدم الكعبة حسر فيه ، وهذا مجرد اجتهاد ، وأما دليل قاطع بالقضية فليس هناك دليل ، بل الحق في هذه المسألة أن الإسراع بودي محسر أمر تعبدي ، والدليل على هذا أنه لا يشرع الإسراع للذاهب ولا يشرع الإسراع لغير القادم من مزدلفة فلو كان على ما ذكروا لشرع الإسراع لكل من مـرَّ به ، وهم لا يقولون بهذا ، فعلم أن الإسراع في وادي محسر أمر تعبدي ، وأما كون الفيل حسر فيه فهذا يحتاج إلى دليل ، والدليل هنا متعذر والإسراع هنا مستحب غير واجب ، وأيضاً الإسراع بالنسبة للمشي وليس المعنى أنه يجري جرياً ، إذ قوله في الحديث : [ فحرك قليلاً ] .
يتبع