-
في حوارِ الضمير...
تتلاشى الضبابيّة، وتخرس الألسنُ المتعالية،
وتتعرّى حقيقةُ النفسِ البشريّة،
ويغدو القلبُ مرآةً تُجَلِّي ما خفيَ من زيفٍ ورياء.
ولكن... يبقى السؤالُ مصلوبًا على جدارِ الوجدان:
إذا انعدمَ ذلك الضميرُ الحيّ من ذلك الآدمي، فلمن تُعلنُ شكايتك؟!
وأنت تتحرّقُ شوقًا لاستردادِ ما نُهبَ منك،
ولو أنصفكَ القاضي، وأعلنَ أنَّ الحقَّ لك...
فبأيِّ سلطانٍ تُعيدُ للروحِ طمأنينتها،
وبأيِّ عدلٍ تُسكِتُ أنينَ المظلمة؟
إنّ الحقَّ وإن عُرِفَ، لا يُعيدُ المفقودَ
إن ماتَ في القلوبِ الضمير.
-
قد تعصفُ بأيامِك خريفُ الاشتياق،
وتنمو في أرضِ يقينك شجرةُ الريبِ المهين،
ويعتلي هامةَ بأسِك ضعفٌ مريب،
وأنت في ذلك الحالِ تستجلبُ الحظَّ المندرسَ في تربةِ الغيبِ البعيد،
تُحصي أنفاسَ الصبرِ من ثُقبِ إبرةٍ،
وتنقّبُ في رمادِ الصمتِ عن شرارةِ نورٍ دفين،
وتُساجلُ الوقتَ بآهاتٍ خفيّةٍ كأنها صدى الحنين،
حتى إذا انبثقَ الفجرُ من وراءِ حُجبِ الغيب،
أزهرتْ شجرةُ يقينك من جديد،
وانجلى عن روحك غبارُ الريبِ المهين.
-
-
نمضي في دروب الحياة، تتقاذفنا رياح الحيرة، وتغمرنا أمواجُ الانتظار،
لكنّ اليقين — إن سكن القلب — يُصبح نورًا يُرشد الخطى، ويُزهّر في العثرات انتصارًا.
ما ضاق صدرٌ إلا ليُفتح، ولا اشتدّ كربٌ إلا ليُفرَّج،
ففي جوف الألم وميضُ الأمل، وفي ظلمة التيه بوادرُ الفرج.
فاصبر... فإنّ الصبرَ مفتاحُ الرفعة،
ومن ذاق مرارة الطريق، شمّ عبير النهاية حين أزهرت غايته.
-
كم من طريقٍ ظننّاه ظلامًا، فإذا به قبسُ النور في آخر المسير!
وكم من جرحٍ حسبناه فناءً، فإذا به ولادةُ الوعي والتقدير!
الحيرةُ امتحانُ الصادقين، والصبرُ زادُ الواصلين،
ومن وثق بربّه، سارت به خطاه على شوكٍ يُزهر تحتها اليقين.
فلا تأسَ إن تأخّر الوصول،
فربّ تأخيرٍ يُخفي عنك ما لو رأيته لذابت روحك من الهول،
ولكنّه الله... يُمهل ليُدهش، ويبتلي ليمنح،
ويُطفئ عن قلب عبده نارَ الحيرة حين يراه قد صدق واتّضح.
-
تتكسّر بنا الأمواج، ويطول بنا المسار،
لكنّ في القلب همسًا يقول: "اثبت، فالنور ليس ببعيد."
تُربكنا الفصول، وتُثقلنا الخطوب،
غير أنّ اليقين يزهر في رماد الانتظار،
ويقول لنا بلغةٍ لا يسمعها إلا المؤمنون:
كلّ ما مضى، كان ليُمهّد لما هو أجمل.
-
يا نفسُ، تواضعي كما تواضع القلب للضياء،
ولا ترتفعي كما ترتفع الغيوم بلا مطرٍ ولا عطاء.
اقتربي من الناس برقةٍ، كما يقترب النسيم من الزهر،
ولا تبتعدي عن الأخلاق كما تبتعد الشمس عن النهار.
فالكبر يبعد، والتواضع يقرّب،
ومن نسي قيمه، ضاع قبل أن يضيع الآخرون،
فاصنعي من قلبك ملاذًا، ومن روحك وطنًا،
ولا تتركي الغرور يسرقك من نفسك ومن من يحبونك.
-
أكتفي بنفسي رغم ما يثور في قلبي من شوق،
وأحتفظ بالصمت كما يحتفظ الليل بأسراره.
أحنّ إليه في زوايا الروح،
لكنني لا أطلب ولا أتوسل،
فالاكتفاء هو قوتي، والاشتياق مجرد ظلٍ يمرّ بي بهدوء،
يدع قلبي صامدًا، وروحي حرة، رغم البعد.
-
بقايا أنفاسٍ تتردد في أوردةِ البقاء،
ونوادرُ رجاءٍ تتطاير بين ثنايا الاكتفاء،
وزوايا معتمةٍ لطالما أنارها ضياءُ الوفاء،
فتشهد اللحظاتُ بأنينِ الصفاء،
وتتنفس الأرواحُ عبيرَ الولاء،
كأنما الحنينُ يكتب وصاياه على جدرانِ المساء،
فيغدو الصمتُ ترنيمةَ وفاءٍ لا يخبو ضياؤها
مهما تعاقبَ العناء.
-
في أعماقِ النفسِ رواياتٌ شتّى، وأمنياتٌ لا نذكرها حتى، ومواقفُ أمرُّ عليها، وضحكاتي تعلو شفتيَّ مدىّ، كأنَّ الذكرى تلوّحُ لي من بعيدٍ بنداءٍ خفيٍّ، وتقول: ما زال في الوجدانِ سطرٌ لم يُكتَب بعد، وما زال في الحنينِ رجعُ صدى.