الجزء الرابع من قصة سيدنا موسى كليم الله
تبدأ جولة جديدة بين الحق والباطل. فهاهم أتباع فرعون من المصريين،
يتآمرون ويحرضون فرعون ويهيجونه على موسى ومن آمن معه،
ويخوّفونه من عاقبة التهاون معهم.
وهم يرون الدعوة إلى ربوبية الله وحدة إفسادا في الأرض.
حيث يترتب عليها بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله.
وقد كان فرعون يستمد قوته من ديانتهم الباطلة،
حيث كان فرعون ابن الآلهة.
وإن عبد موسى ومن معه الله رب العالمين، لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم.
فاستثارت هذه الكلمات فرعون،
وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر
(قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).
لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل. فقد نُفِّذ عليهم هذا الحكم في إبان مولد موسى عليه السلام.
فبدأ موسى -عليه السلام- يوصي قومه باحتمال الفتنة،
والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها.
وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.
والعاقبة لمن يتقي الله ولا يخشى أحدا سواه
(قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
إلا أن قومه بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم
(قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)
إنها كلمات ذات ظل!
وإنها لتشي بما وراءها من تبرم!
أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك.
وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية!
فيمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به،
ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم.
واستخلافهم في الأرض.
مع التحذير من فتنة الاستخلاف، فاستخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم،
فهو استخلاف للامتحان:
(قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
وضل موسى يأمرهم بالتوكل على الله، والاستعانة به، والالتجاء إليه،
فأتمروا بذلك ليجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجًا ومخرجًا.
(( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )).
أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام، أن يتخذوا لقومهما بيوتًا متميزة،
فيما بينهم عن بيوت القبط، ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به،
ليعرف بعضهم بيوت بعض.
وقوله:
{ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً }:
قيل: مساجد.
أما حال مصر في تلك الفترة. فلقد مضى فرعون في تهديده، فقتل الرجال واستحيا النساء.
وظل موسى وقومه يحتملون العذاب، ويرجون فرج الله، ويصبرون على الابتلاء.
وظل فرعون في ظلاله وتحدّيه.
فتدخلت قوة الله سبحانه وتعالى، وشاء الله تعالى أن يشدد على آل فرعون.
ابتلاءً لهم وتخويفا، ولكي يصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه،
وإثباتا لنبوة موسى وصدقه في الوقت نفسه.
وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب.
أجدبت الأرض وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس، واشتد القحط.
لكن آل فرعون لم يدركوا العلاقة بين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله.
فأخذوا يعللون الأسباب. فعندما تصيبهم حسنة، يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها.
وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم موسى ومن معه عليهم، وأنها من تحت رأسهم!
وأخذتهم العزة بالإثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط.
وصور لهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم،
آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي آية لن يؤمنوا بها مهما حدث.
قال تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَآيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (.
فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه.
فأرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل -وهو السوس- والضفادع، والدم.
وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الأخرى.
إلا أن المهم هو طلب آل فرعون من موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلاء.
وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البلاء
(قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ).
فكان موسى -عليه السلام- يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب.
وما أن ينكشف البلاء حتى ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ).
لم يهتد المصريون، ولم يوفوا بعهودهم، بل على العكس من ذلك.
خرج فرعون لقومه، وأعلن أنه إله.
أليس له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته،
أعلن أن موسى ساحر كذاب.
ورجل فقير لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب.
ويعبّر القرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ).
استخف بعقولهم. واستخف بحريتهم.
واستخف بمستقبلهم. واستخف بآدميتهم.
فأطاعوه.
أليست هذه طاعة غريبة.
تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين.
إن الفسق يصرف الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره، ويورده الهلاك.
وذلك ما وقع لقوم فرعون.
وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى عليه السلام.
ومشهد آخر من مشاهد المواجهة بين الحق والباطل.
حيث يحكي لنا قصة تشاور فرعون مع الملأ في قتل موسى.
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)
أما موسى عليه السلام فالتجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين،
ولاذ بحامي اللائذين، ومجير المستجيرين
(وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).
عذت بالله، ولجأت إليه بجنابه،
من أن يسطو فرعون وغيره على بسوء.
وقوله: {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ}
أي: جبار عنيد، لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه،
لأنه لا يعتقد معاداً ولا جزاء،
ولهذا قال: {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}
كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق لولا رجل من آل فرعون. رجل من رجال الدولة الكبار،
تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)، تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها.
قال إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا،
وهناك احتمالان لا ثالث لهما:
أن يكون موسى كاذبا، أو يكون صادقا،
فإذا كان كاذبا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله.
وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ
وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ *
يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا
قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}
وهذا الرجل هو ابن عم فرعون، وكان يكتم إيمانه من قومه، خوفاً منهم على نفسه.
وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيلياً، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظاً ومعنى، والله أعلم.
قال ابن جريج: قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا، والذي جاء من أقصى المدينة، وامرأة فرعون.
تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه:
إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟
ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.
وبدت كلماته مقنعة.
إنه رجل ليس متهما في ولائه لفرعون. وهو ليس من أتباع موسى.
والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون.
ولا شيء يسقط العروش كالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.
ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل المؤمن قوتها.
بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله.
ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى، صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون.
رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة:
(قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم
(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى).
هذا رأينا الخاص، وهو رأي يهديكم سبيل الرشاد. وكل رأي غيره خاطئ. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.
لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد. قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن.
وعاد الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ، أدلة كافية على صدق موسى.
وحذّرهم من المساس به. وذكرهم بمن سبقتهم أمم كفرت برسلها، فأهلكها الله:
قوم نوح، قوم عاد، قوم ثمود.
ثم ذكّرهم بتاريخ مصر نفسه. ذكّرهم بيوسف عليه السلام حين جاء بالبينات، فشك فيه الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم
فرعون الذي نسي أنه كان نطفة مذرة. هذا المتكبر...
بكل ما يملكه من مال وجنود وعبيد...
تحداه إثنين من اهل بيته ماشطة إبنته و أقرب الناس إليه وهي زوجته ..
الماشطة التي قالت له متحدية: ربي وربك الله نتيجة لذلك التحدي قذفها في النار هي وأولادها.
فقد كانت ما شطة إبنته امرأة صالحة تعيش هي وزوجها.. في ظل ملك فرعون..
زوجها مقرب من فرعون.. وهي خادمة ومربية لبنات فرعون..
فمن الله عليهما بالإيمان.. فلم يلبث زوجها بإيمانه إلا أن علم فرعون بإيمانه فقتله..
فلم تزل الزوجة تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون.. وتنفق على أولادها الخمسة..
تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها..
فبينما هي تمشط ابنة فرعون يوماً.. إذ وقع المشط من يدها..
فقالت: بسم الله..
فقالت ابنة فرعون: الله.. أبي؟
فصاحت الماشطة بابنة فرعون:
كلا.. بل الله.. ربي.. وربُّك.. وربُّ أبيك..
فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها.. ثم أخبرت أباها بذلك..
فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره.. فدعا بها..
وقال لها: من ربك ؟
قالت : ربي وربك الله..
فأمرها بالرجوع عن دينها.. وحبسها.. وضربها.. فلم ترجع عن دينها..
فأمر فرعون بقدر من نحاس فملئت بالزيت.. ثم أحمي.. حتى غلا.. وأوقفها أمام القدر..
فلما رأت العذاب.. أيقنت أنما هي نفس واحدة تخرج وتلقى الله تعالى..
فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة.. الأيتام الذين تكدح لهم.. وتطعمهم..
فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة..
تدور أعينهم.. ولا يدرون إلى أين يساقون..
فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون.. فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي..
وأخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها..
فلما رأى فرعون هذا المنظر..
أمر بأكبرهم.. فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي..
والغلام يصيح بأمه ويستغيث.. ويسترحم الجنود.. ويتوسل إلى فرعون..
ويحاول الفكاك والهرب.. وينادي إخوته الصغار..
ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين.. وهم يصفعونه ويدفعونه..
وأمه تنظر إليه.. وتودّعه..
فما هي إلا لحظات.. حتى ألقي الصغير في الزيت..
والأم تبكي وتنظر.. وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة..
حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل.. وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت..
نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله.. فأبت عليه ذلك..
فغضب فرعون.. وأمر بولدها الثاني.. فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث..
فما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت.. وهي تنظر إليه..
حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه.. والأم ثابتة على دينها..موقنة بلقاء ربها..
ثم أمر فرعون بالولد الثالث فسحب وقرب إلى القدر المغلي ثم حمل وغيب في الزيت..
وفعل به ما فعل بأخويه.. والأم ثابتة على دينها..
فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت..
فأقبل الجنود إليه.. وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه..
فلما جذبه الجنود.. بكى وانطرح على قدمي أمه.. ودموعه تجري على رجليها..
وهي تحاول أن تحمله مع أخيه.. تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها..
فحالوا بينه وبينها.. وحملوه من يديه الصغيرتين.. وهو يبكي ويستغيث..
ويتوسل بكلمات غير مفهومة.. وهم لا يرحمونه..
وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي..
وغاب الجسد.. وانقطع الصوت.. وشمت الأم رائحة اللحم..
وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها..
تنظر الأم إلى عظامه.. وقد رحل عنها إلى دار أخرى.. وهي تبكي.. وتتقطع لفراقه..
طالما ضمته إلى صدرها... طالما سهرت لسهره.. وبكت لبكائه.. كم ليلة بات في حجرها..
ولعب بشعرها.. كم قربت منه ألعابه.. وألبسته ثيابه..
فجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك.. فالتفتوا إليها.. وتدافعوا عليها.. الطفل الرضيع..
وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها...
. فلما انتزع منها.. صرخ الصغير.. وبكت المسكينة..
فلما رأى الله تعالى ذلها وانكسارها وفجيعتها بولدها..
أنطق الصبي في مهده وقال لها:
يا أماه اصبري فإنك على الحق.. ثم انقطع صوته عنها..
وغيِّب في القدر مع إخوته.. ألقي في الزيت... وفي يده شعرة من شعرها..
وعلى أثوابه بقية من دمعها.. وذهب الأولاد الخمسة..
وهاهي عظامهم يلوح بها القدر.. ولحمهم يفور به الزيت.. تنظر المسكينة..
إلى هذه العظام الصغيرة..
عظام من؟ إنهم أولادها..
الذين طالما ملئوا عليها البيت ضحكاً وسرورا.. إنهم فلذات كبدها.. وعصارة قلبها..
الذين لما فارقوها.. كأن قلبها أخرج من صدرها.. طالما ركضوا إليها.. وارتموا بين يديها..
وضمتهم إلى صدرها.. وألبستهم ثيابهم بيدها.. ومسحت دموعهم بأصابعها..
ثم هاهم إنتزعون من بين يديها.. وقتلون أمام ناظريها..
وتركوها وحيدة..
آآه من قوة إيمانها وآآه من قوة صبرها ,,
كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب..
بكلمة كفر تسمعها لفرعون..
لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى..
ثم.. لما لم يبق إلا هي.. أقبلوا إليها كالكلاب الضارية..
ودفعوها إلى القدر..
فلما حملوها ليقذفوها في الزيت.. نظرت إلى عظام أولادها..
فتذكرت اجتماعها معهم في الحياة..
فالتفتت إلى فرعون
وقالت: لي إليك حاجة..
فصاح بها وقال: ما حاجتك ؟
فقالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد..
ثم أغمضت عينيها.. وألقيت في القدر.. واحترق جسدها.. وطفت عظامها..
فلله درها.. ما أعظم ثباتها.. وأكثر ثوابها..
ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها..
فحدّث به أصحابه وقال لهم فيما رواه البيهقي:
«لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة، قلت: ما هذه الرائحة ؟ فقيل لي: هذه ماشطة بنت فرعون وأولادُها»..
الله أكبر تعبت قليلاً.. لكنها استراحت كثيراً..
مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها.. وجاورت ربها
فلم ترض زوجة فرعون " آسية "... لما فعل بالماشطة وأبناءها ..
لأنها أختها في الله والأخوة في الله... تنعدم فيها الطبقية بين الحرة والعبدة وبين الرئيس والمرؤوس.
تحدته زوجته " آسية بنت مزاحم " وهي إحدى أربع نساء هن سيدات نساء العالمين
آسية التي آمنت برب العالمين...
جاءت إلى زوجها المتكبر عندما قتل الماشطة التي كانت تمشط ابنتها…
فأرادت أن تنتصر لأختها في الله فقالت لزوجها فرعون عندما أخبرها عن أمر الماشطة.
قالت له: " الويل لك ما أجرأك على الله "
فقال لها: " لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة؟
" فقالت: ما بي من جنون ولكني آمنت بالله تعالى ورب العالمين.
وبعد ذلك... دعا فرعون أمها...
قال لها: " إن ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة.
فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى، فخلت بها أمها...
وأرادتها أن توافق فرعون،
ولكنها أبت وقالت: أما أن أكفر بالله فلا والله.
وهذا هو التحدي... تحدي الواقع بكل ما يملك من قوة وجبروت
وعندما رأى فرعون تمسكها بدينها وإيمانها خرج على الملأ من قومه
فقال لهم: "ما تعلمون من آسية بنت مزاحم "؟....
.. فأثنى عليها القوم.....
فقال: إنها تعبد رباً غيري
فقالوا: " أقتلها "
(( أخوتي بالله... أسمعتم قول بطانة السوء... !!
لقد قالوا: اقتلها،
وقبل ثوان كانوا قد أثنوا عليها بخير...
سبحان الله من هذه البطانة الممتدة عبر التاريخ!! ))
ومن ثم نادى فرعون زبانيته...
وأوتدوا لها أوتاداً وشدوا يديها ورجليها ووضعوها في الحر اللاهب...
تحت أشعة الشمس المحرقة ووضعوا على ظهرها صخرة كبيرة
لقد كانت متنعمة بالفرش الوثير وشتى أنواع الطعام...
والمقام الكريم.
والآن تضرب بالأوتاد تحت أشعة الشمس وعلى ظهرها صخرة كبيرة.
وليت فرعون وقف عند ذلك...
إنما قال لزبانيته:
" انظروا أعظم صخرة فألقوها.
فإن رجعت عن قولها فهي امرأتي، وأخذ يتلذذ بتعذيبها...
وهذا شأن الطغاة في كل زمان.
وفي أثناء ذلك... نظرت إلى ما عند الله
فقالت تدعو الله تعالى :
{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
فكشف الله عن بصيرتها فأطلعها على مكانها في الجنة
ففرحت وضحكت وكان فرعون حاضراًً هذا المشهد.
فقال: ألا تعجبون من جنونها؟
إنا نعذبها وهي تضحك فقبض الله روحها إلى الجنة رضي الله عنها...
وألقيت الصخرة عليها.. فلم تجد ألماً لأنها ألقيت على جسد لا روح فيه..
(( إنها وقفه إيمانية... نجد مدى إشراقة نور الإيمان في قلب هذه المؤمنة.
امرأة وحيدة... ضعيفة جسدياً... آمنة مطمئنة في قصرها تتحدى واقعاً جاهلياً يرأسه زوجها))
لقد كانت نظرتها نظرة متعدية... تعدت القصر... تعدت الفرش الوثيرة... تعدت الحياة
الرغيدة... تعدت الجواري... العبيد... الخدم لذلك كانت تستحق أن يذكرها رب العالمين في
كتابه المكنون.
ويضعها مثالاً للذين آمنوا وذلك عندما قال تعالى:
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
لما تمادى قبط مصر على كفرهم ، وعتوهم ، وعنادهم ، متابعة لملكهم فرعون ،
ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه ، موسى بن عمران ، عليه السلام ،
وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة
وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول ،
وهم مع ذلك لا يرعوون ، ولا ينتهون ، ولا ينزعون ، ولا يرجعون ، ولم يؤمن منهم إلا القليل ,
وقيل : آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون ، والسحرة كلهم ، وجميع شعب بني إسرائيل .
ويدل على هذا قوله تعالى:
(( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ))
في قوله : (( إلا ذرية من قومه ))
عائد على فرعون لأن السياق يدل عليه .
وقيل : على موسى; لقربه . والأول أظهر ، كما هو مقرر في " التفسير " .
وإيمانهم كان خفية; لمخافتهم من فرعون وسطوته ، وجبروته وسلطته ،
ومن ملئهم أن ينموا عليهم إليه ، فيفتنهم عن دينهم ،
قال الله تعالى مخبرا عن فرعون ، وكفى بالله شهيدا :
((وإن فرعون لعال في الأرض))
أي; جبار ، عنيد ، مستعل بغير الحق ، وإنه لمن المسرفين أي; في جميع أموره وشئونه وأحواله ،
ولكنه جرثومة قد حان انجعافها ، وثمرة خبيثة قد آن قطافها ،
ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها .
وعند ذلك قال موسى :
(( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ))
هذه دعوة عظيمة ، دعا بها كليم اللهموسى ، على عدو الله فرعون ,غضبا لله عليه ،
لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ، ومعاندته ، وعتوه ، وتمرده ،
واستمراره على الباطل ، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي ،
والبرهان القطعي ،
فقال : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه
يعني : قومه من القبط ، ومن كان على ملته ، ودان بدينه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك
أي; وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا ،
فيحسب الجاهل أنهم على شيءلكون هذه الأموال ، وهذه الزينة من اللباس ، والمراكب الحسنة الهنية ،
والدور الأنيقة ، والقصور المبنية ، والمآكل الشهية ، والمناظر البهية ، والملك العزيز ، والتمكين ، والجاه العريض ،
في الدنيا لا الدين ،
ربنا اطمس على أموالهم . أي; أهلكها .
:أي اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت .
وقوله : واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم
أي; اطبع عليها .
وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ، ولبراهينه ،
فاستجاب الله تعالى لها ، وحققها وتقبلها; كما استجاب لنوح في قومه ،
حيث قال:
(( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ))
ولهذا قال تعالى ، مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملئه ،
وأمّن أخوه هارون على دعائه ،
فذكر ذلك منزلة الداعي أيضا:
قال تعالى :
(( قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ))
بعد ذلك أمرهم الله تعالى أن يستأذنو بنو إسرائيل فرعون ، في الخروج إلى عيد لهم ،
فأذن لهم وهو كاره ، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له ،
وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده;
ليتخلصوا منهم ، ويخرجوا عنهم ،
فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام ،
فلما علم بذهابهم فرعون ،
حنق عليهم كل الحنق ،
واشتد غضبه عليهم ،
وشرع في استحثاث جيشه ،
وجمع جنوده ليلحقهم ، ويمحقهم ،
قال الله تعالى :
(( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعينثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ))
لما ركب فرعون في جنوده ، طالبا بني إسرائيل ، يقفو أثرهم ،
كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل : كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم .
وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف ، أوستمائة ألف . والله أعلم .
وقيل : إن بني إسرائيل كانوا نحو ستمائة ألف مقاتل غير الذرية ،
وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى ، عليه السلام ،
ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل ، أربعمائة سنة وست وعشرين سنة شمسية .
ولقاهم فرعون و لحقهم بالجنود ، فأدركهم عند شروق الشمس ،
وتراءى الجمعان ،
ولم يبق ثمت ريب ، ولا لبس ،
وعاين كل من الفريقين صاحبه ،
وتحققه ورآه ،
فلم يبق إلا المقاتلة ، والمجاولة ، والمحاماة ،
فعندها قال أصحاب موسى ،
وهم خائفون : إنا لمدركون
وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر ،
فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه ، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه ،
والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم ، وهي شاهقة منيفة ،
وفرعون قد غالقهم وواجههم ،
وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده ،
وهم منه في غاية الخوف والذعر ، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والنكر ،
فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه ، مما قد شاهدوه وعاينوه ،
فقال لهم الرسول الصادق المصدوق موسى عليه السلام
(( كلا إن معي ربي سيهدين ))
وكان في الساقة ، فتقدم إلى المقدمة ، ونظر إلى البحر ، وهو يتلاطم بأمواجه ،
ويتزايد زبد أجاجه ،
وهو يقول : هاهنا أمرت
ومعه أخوه هارون; ويوشع بن نون ، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل ، وعلمائهم ، وعبادهم الكبار ،
وقد أوحى الله إليه ، وجعله نبيا بعد موسى وهارون عليهما السلام ،
كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى ،
ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون ، وهم وقوف ،
وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف .
ويقال : إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر ،
هل يمكن سلوكه؟ فلا يمكن ،
ويقول لموسى ، عليه السلام : يا نبي الله أهاهنا أمرت؟
فيقول : نعم . فلما تفاقم الأمر ، وضاق الحال واشتد الأمر ،
واقترب فرعون وجنوده في جدهم ، وحدهم وحديدهم ،
وغضبهم ، وحنقهم ، وزاغت الأبصار ،
وبلغت القلوب الحناجر ،
فعند ذلك أوحى الله الحليم العظيم القدير ،
رب العرش الكريم إلى موسى الكليم:
(( أن اضرب بعصاك البحر ))
فلما ضربه انفلق بإذن الله .
قال الله تعالى:
(( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ))
http://omaniaa.co/attachment.php?att...id=19922&stc=1
ويقال : إنه انفلق اثني عشرة طريقا ، لكل سبط طريق يسيرون فيه ،
وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة
عن الذي يقول للشيء : كن . فيكون .
وأمر الله ريح الدبور فلفحت حال البحر ، فأذهبته حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب .
قال الله تعالى:
(( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى ))
والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال ، بإذن الرب العظيم الشديد المحال ،
أمر موسى ، عليه السلام ، أن يجوزه ببني إسرائيل ،
فانحدروا فيه مسرعين ، مستبشرين ، مبادرين ،
وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ، ويهدي قلوب المؤمنين ،
فلما جاوزوه ، وجاوزه ، وخرج آخرهم منه ، وانفصلوا عنه ،
كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ، ووفودهم عليه ،
فأراد موسى عليه السلام ، أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه;
لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ، ولا سبيل عليه ،
فأمره القدير ذو الجلال ، أن يترك البحر على هذه الحال ،
كما قال ، وهو الصادق في المقال .:
(( ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني
عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم
جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض
وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم
من الآيات ما فيه بلاء مبين ))
فقوله تعالى:
(( واترك البحر رهوا ))
أي; ساكنا على هيئته ، لا تغيره عن هذه الصفة .
فلما تركه على هيئته وحالته ، وانتهى فرعون ، فرأى ما رأى ، وعاين ما عاين ،
هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك ،
من أن هذا من فعل رب العرش الكريم ، فأحجم ولم يتقدم ،
وندم في نفسه على خروجه في طلبهم ،
والحالة هذه ، حيث لا ينفعه الندم ، لكنه أظهر لجنوده تجلدا ،
وعاملهم معاملة العدا ،
وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة ، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه ،
وعلى باطله تابعوه : انظروا كيف انحسر البحر لي;
لأدرك عبيدي الآبقين من يدي ، الخارجين عن طاعتي وبلدي؟
وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ، ويرجو أن ينجو
http://omaniaa.co/attachment.php?att...id=19923&stc=1
وهيهات ،
فأصبح يقدم تارة ، ويحجم تارات .
فذكروا أن جبريل عليه السلام ، تبدى في صورة فارس ،
راكب على رمكة حائل ، فمر بين يدي فحل فرعون ،
لعنه الله ، فحمحم إليها ، وأقبل عليها ،
وأسرع جبريل بين يديه ،
فاقتحم البحر ، واستبق الجواد ، وقد أجاد فبادر مسرعا ،
هكذا وفرعون لا يملك من نفسه ولا لنفسه ضرا ولا نفعا ،
فلما رأته الجنود قد سلك البحر ،
اقتحموا وراءه مسرعين ،
فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين ،
حتى هم أولهم بالخروج منه ، فعند ذلك ،
أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام فيما أوحاه إليه ،
أن يضرب البحر بعصاه ،
فضربه ،
فارتطم عليهم البحر كما كان ،
فلم ينج منهم إنسان .
http://omaniaa.co/attachment.php?att...id=19924&stc=1
قال الله تعالى:
(( وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم))
فأنجا الله أولياءه فلم يغرق منهم أحد ، وأغراق أعداءه ، فلم يخلص منهم أحد ،
إنها آية عظيمة ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة ،
وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة ، والمناهج المستقيمة .
وقال تعالى:
(( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا
من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ))
ويخبرنا الله تعالى ، عن كيفية غرق فرعون ،
زعيم كفرة القبط ،
أنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة ، وترفعه أخرى ، وبنو إسرائيل ينظرون إليه ،
وإلى جنوده ،
ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ،
ليكون أقر لأعين بني إسرائيل ،
وأشفى لنفوسهم ،
فلما عاين فرعون الهلاك وأحيطت به ، وباشر سكرات موته ،
أناب حينئذ لله وتاب ، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها;
كما قال تعالى:
(( إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ))
وقال تعالى: (( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في
عباده وخسر هنالك الكافرون ))
وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه ، أن يطمس على أموالهم ، ويشدد على قلوبهم ،
فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي; حين لا ينفعهم ذلك ، ويكون حسرة عليهم ،
وقد قال تعالى لهما; أي لموسى وهارون ، حين دعوا بهذا : قد أجيبت دعوتكما فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيههارون ،
عليهما السلام .
وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: لما قال فرعون :
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال :
قال لي جبريل :
لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة ورواه الترمذي ،
وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون; مخافة أن تدركه الرحمة
ورواه الترمذي و ابن جرير ،.
وقيل عن عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته :
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ، فجعل يأخذ الحال بجناحيه ،
فيضرب به وجهه فيرمسه . ورواه ابن جرير ،
عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال لي جبريل :
يا محمد ، لو رأيتني ، وأنا أغطه ، وأدس من الحال في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة; الله
فيغفر له
يعني: فرعون .
وفي بعض الروايات : إن جبريل قال : ما بغضت أحدا بغضي لفرعون ،
حين قال : أنا ربكم الأعلى .
ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال
وقوله تعالى : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين استفهام إنكار ،
ونص على عدم قبوله تعالى منه; ذلك لأنه ، والله أعلم ، لو رد إلى الدنيا كما كان ،
لعاد إلى ما كان عليه ، كما أخبر تعالى عن الكفار ، إذا عاينوا النار وشاهدوها ،
أنهم يقولون : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين .
قال الله : بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون
وقوله : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية
قال ابن عباس وغير واحد : شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون ،
حتى قال بعضهم : إنه لا يموت . فأمر الله البحر ، فرفعه على مرتفع –
قيل : على وجه الماء .
وقيل : على نجوة من الأرض –
وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه; ليتحققوا بذلك هلاكه ،
ويعلموا قدرة الله عليه;
ولهذا قال : فاليوم ننجيك ببدنك
أي; مصاحبا درعك المعروفة بك لتكون أنت آية لمن خلفك
أي; من بني إسرائيل ، دليلا على قدرة الله الذي أهلكه .
ولهذا قرأ بعض السلف : ( لتكون لمن خلقك آية ) .
ويحتمل أن يكون المراد : ننجيك مصاحبا درعك;
ليكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل ،
على معرفتك ، وأنك هلكت ، والله أعلم .
وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء .
كما قال عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء ،
فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنتم أحق بموسى منهم فصوموا
وأصل هذا الحديث في " الصحيحين " وغيرهما . والله أعلم .
********
***
**
*
*
*
هذه ليست نهاية قصة سيدنا موسى عليه السلام
بل نهاية فرعون وقومه
فلنتابع معاً ما تبقى من حياة سيدنا موسى عليه السلام في السلسلة القادمة
دمتم بود