ألم في الخفاء .. و رماد !
لا يعلمون ما بي !
في اليومِ السابعَ عشر مِن يوليو /
استلقت على فراشها محتضنةً وسادتها ..
كانَ صوتها صوتُ بكاء ..
أصابت أختها حيرةٌ : تُرى ما الذي حلَ بِها اليوم !
حاولت أن تتجاهلها فَرُبما لا زالت تُعاني من حالتها النفسية ..
غادرت الغُرفة .. و هيَ تُجري اتصالاً مع دكتورةِ أختِها النفسية ..
- دكتورة / أختي لا زالت على حافةِ الاستقرار ، بكائها لا ينتهي !
- اعطيها جُرعةً من الدواء الذي قمتُ بوصفه ..
قامت و سقتها من الدواء .. الذي اسمتهُ الفتاةُ بِالسم !
مجبورةٌ هيَ .. حتى تفيقُ من حالها ..
......
بعدَ مرور يومان فقط !
بدأت عيناها تبهت و السوادُ يكثرُ حولهما ..
أعراضُ التعب سجنتها في ظلالٍ و ظلام ..
و حالتها لم تستقر بعد .. بل زادت عن حدها ..
هي لا تتكلم .. و الخوف يحاصرها من كل النواحي
حتى من أتفهِ الأمور !
و ليلها سهاد .. لا تنام بل تتألم ..
فَباتت أمها تسأل : ما الذي أصابَ ابنتي ؟
اختُ الفتاة : إنها تثيرُ غضبي بِالفعل !!
( حالاً اتصلت بِالدكتورة و اعصابها مشتعلةً تماماً )
....
وصلت الدكتورة إلى منزلِ الفتاة و العرقُ يسيل من جبينها خوفاً
مِن أن الأدوية هي من زادت من حالتها النفسية ..
- ساعديها .. وفقكِ الله !
- سَأبذلُ جُهدي يا عمتي لا تقلقي .. و لكنني مجبورةٌ أن أأخذها
إلى المستشفى ..
غادرت الفتاة البيت منتقلةً إلى حجرةً كئيبة في ذلك المستشفى المزعج ..
الذي كل صباح تبتدي فيهِ أصوات متعالية .. منهم من يتألم
و منهم من يضحك و هو قد فقدَ ذاكرته و أُصابَ بِالجنون ..
تلكَ الفتاة التي تحاول أن تستعيد قواها و لكنها في كل مرة تخفق
و تزيد حالتها بسبب الأدوية الكئيبة و المضادات القاسية ..
فَلم يجدي حال تواجدها في المستشفى / و كل يدٍ عاطلة عن حالها ..
.....
تم اتخاذ قرار من المستشفى .. أن تنقل الفتاة إلى أحدِ المستشفيات الجامعية " بون "
الواقع في ألمانيا .. /
كانَ صعباً على الأمِ أن تسافر معها إلى هناك فَالتكاليفُ باهضة الثمن ..
و قد أقلعت الطائرة في صباحِ يوماً أتى بعدَ الأمس ..
الحزنُ يروي حكايةَ بُعدِ الفتاة عن أمها و هي دون شيء .. دون قوة !
الراحةُ تلونت في عين أختها بعدَما ارتاحت من مراجعة اختها .. فَأوقاتها
سَتقضيها مع صديقتها و تقابل انعجابها بنفسها و جمالها أمام المرآة ..
....
وردة مقيدة !
أصبحت في قلب ذلكَ المستشفى الألماني .. في غرفةٍ باتت تتأمل زواياها ..
فَهي لا تفضل أن تبقى على الفراش .. بل يريحها المكوث على الزوايا ..
جاءَ الدكتور مبتسماً .. سألها بِأسلوبهِ الراقي ..
راقي لأنهُ طبيب نفسي ذاتَ خبرة عالية .. متفوق في البلاد ..
فَكانَ السؤال : أتفضلين أن نلعب ؟
أجابت : نعم .. منذُ مدة طويلة لم ألعب !
فَبدأ يلعب معها أحد ألعاب الأطفال .. و هم غارقين و مندمجين
سألها سؤالا آخر : حدثيني عنكِ .. ما بكِ ؟
توقفت .. اصيبت بِالصمت .. و كأن شيئاً يمنعها من الكلام !
فَأعادَ السؤال : ما الذي حدث ؟
( جهشت بالبكاء ) .. ثم قال : أمكِ تُحبك و تفضل صحتك !
( لأنه يعلم بأنها تحب أمها جداً ) ..
فَبدأت تحكي :
لا أتذكر كل شيء .. فَكلُ ما أتذكرهُ بأن أختي بعدَ ذلك الموقف أصبحت تكرهني
و توبخني في كل فعلٍ اقوم بِه .. أذكر بعد ذلك أنها باتت ترصدُ كل تحركاتي
و تضربني ..
( و لكن أيُ موقف ؟ )
سؤال حيرَ الدكتور !
و لكنه لم يتوقف في عمليات البحث عن حلول بِاتجاهِ هذهِ الفتاة ..
...
بعدَ مرور شهر من أيام العلاج .. لا زال يستمر الحال ..
و لكن اليوم ليس كباقي الأيام .. بدأت اليوم أحدِ مراحل استجابةِ العلاج ..
قد لاحظ الدكتور من خلال / أنهُ قد قلَ بكائها .. وجودها على الفراش بدلَ الزوايا العاصبة
على جبينها ألم و قصة لا كادت أن تُعرف بعد ..
تقعد على الفراش و بين يداها دفتر و قلم .. قد طلبتهُ من الدكتور يوم الأمس ..
و حينَ يكون موعد نومها .. يكون هو الوقت الملائم لِيعرف الدكتور ما تدونهُ بذلك الدفتر !
اصبحَ يفتش بين الأوراق و الصفحات .. لم يلقى إلا سطران قد كتبتهُ في أحد الصفحات :
( أمي .. أعلنُ اليوم امتزاجَ ألمي بِبعضِ الأمل و في داخلي عيد يفتقدك فأنا اشتقت لك ..
و لكن لا تخبري أختي .. فَهي حمقاء لا زالت تحقدُ على حالي بسببِ موقفها التافه ) !
زادت الحيرةُ في عقلِ الدكتور .. فتركَ دفترها في مكانه / ربما سيعود إليهِ غداً
لِيرى ماذا أضافت !
بدايةُ الاستقرار !
بدأ الصباح و العصافير تُغني .. اتجهت نحوَ النافذة بكل نشاط و البسمة تُعانق وجنتيها ..
فَاليوم قد سُمحَ لها أن تخرُج لِتتنزه إلى أحدِ الأماكن السياحية في ألمانيا ..
خرجت مع الدكتور المشرف عليها .. فَلاحظَ إعجابها بِالطبيعة و نفسيتها التي تتفتح
مع كل ثانية تستنشق بها الهواء النقي ..
فَجلسوا على أحدِ الكراسي الموجودة على أطراف الشاطئ .. اصبح يتناولَ معها
الحديث : لو أن أمكِ معنا !
ـ ابتسمت فقالت : فعلا افتقدتها و افتقدت سماع صوتها !
ـ إن انتهينا من العلاج .. سَتعودي بِأقصى سرعةٍ إليها ..
ـ و كأنني بدأتُ أتذكر !
ـ ماذا تتذكرين ؟
ـ ( و هي غارقة في التفكير ) قالت : أحسُ بِصداع يستوطن رأسي ..
فَعادَ بِها إلى المستشفى أو بِمسمى آخر " منزلُ الأمل " !
فَكانَ أول ما فعلتهُ عندما دخلت غرفتها / فوراً أمسكت بِالقلم فَأصبحت تخطُ بهِ
على دفترها ( كل الأماكن فارغة مهما كان جمالها .. يا أمي أحتاجك ! )
كان الدكتور بجانبها .. فأصبح يقرأ على رأسها ( المعوذات و آيةُ الكرسي ) ..
و بعد ما انتهى ، قال : حدثيني عن موقف جميل بينك و أختكِ ؟
ـ كل شيء جميل اصبح لا شيء بعدَ ذلك الموقف !
ـ ما هو الموقف ؟ .. فضفضي ما بِداخلك !
ـ كنتُ أمشي مع صديقتي في أحدِ الشوارع .. نفتشُ عن مكتبة توفي بِكتابٍ نحتاجه جداً ..
فَحدث أن لمحتُ بِالصدفةِ أختي الكبرى تقوم بِأفعال سيئة لِلغاية / و أنا لم أعي أن هذهِ أختي
من تفعل هذا .. سترها الله / حينها ألتفتت لي بعدما أخبرتها إحدى صديقاتها : أختكِ هناك !
فَأتت إليَ .. انفردت بي إلى أحدِ السكك المظلمة !
فَأصبحت تضربني بكلِ قواها .. و تعدني بأنها سَتقتلني إن نطقتُ حرفاً واحداً ..
منذُ ذلك الموقف .. لم تدعني على حالي إلى أن وصل الأمر أن تسقيني أحد الأدوية أو السم
قامت بوصفهِ لها صديقتها .. كانت تجبرني على جرعه / بِمثابة عذاب حتى لا أتكلم ..
كنتُ أتألم و أخبئ عن أمي كل الأمور خوفاً من أختي القاسية ..
و بعدما اصبحَت حالتي النفسية لا تسر .. أتت بِدكتورة نفسية .. و ما زادَ في حالي
إلا تلكَ الأدوية التي كانت على اساس أنها سَتوقظني من حالتي / فتعاكس الأمر ..
اليوم عودة !
تشافت الفتاة من حالتها تماماً .. و انطلقت هذا الصبح تتجهز لِلعودة إلى بلادها شوقاً
لأمها .. و أختها التي كانت سبب دمارها !
أقلعت الطائرة قبل ذلك بِحزن .. و اليوم أقلعت بفرح ..
فكان أول ما دقَ جرسَ منزل أمها .. تفاجأت الأم لأنها لم تعلم بموعد العودة ..
بكت من فرحها ..
ـ أمي اليوم اكتمل العيد !
ـ و اليوم سُرت عينايَ بِرؤيتك يا صغيرتي ..
ـ و لكنني لا أرى أختي .. اشتقتُ لها أيضاً هيَ الثانية !
ـ رشي ذكراها بِالدعاء .. أختكِ عادت إلى ربها قبل اسبوع ..
( لم تتكلم .. فَانطلقت إلى غرفة أختها ) .. بدأت تفتشُ الأغراض و تستعيد ذكراها معها ..
بدأت تسيل دموعها بلا وعي .. فَانطلقت نحوَ المقبرة .. تركضُ باحثةً عن اسمها ..
و حينما وجدته .. جلست بِالقرب من رأسها .. تمسحُ على الرمال و كأنها تمسح
على رأس أختها .. فقالت : أعلم بأنكِ قد ظلمتيني و دمرتِ حياتي ..
و لكن أختكِ تُحبك / و مهما كان و حدث فَالأخوةُ إخوة ..
لو تعلمين / ما ذقتُ حزناً أكبرَ من فراقك !
ما ذقتُ حزناً أكبرَ من فراقك !
ما ذقتُ حزناً أكبرَ من فراقك !
ترقبوا الجزء الثاني ..
زهرة الأحلام
الجزء الثاني من الرواية ..
مجرد خيال !!
بعد عودتها من المقبرة .. بعدما قامت بتعزية أختها و رثاء الحال قبل الأيام
.. فما من حياة تزهو من غير إخوة ..
إلتمت حولها الأحزان و تسابقت من عينها الدموع و هي تُقلب دفاتر الذكريات
و تبتلع مُرَ كُل ساعة تطلُ بلا أن يخبرها أحد من البشر بأن كل ما قد حدث هو مجرد
خيال سَيعبر .. و ينثر ريحَ الهناء بعد ذلك .. و لكن دونَ جدوى !
الحال يقتل إن لم يُتقبل .. و الروح أمانة لا تُقتل .. و الصبر جوهرة لولا وجودها
سَتمتحي الألوان حتى من بصيص الأمل الصغير ..
هدئَ حالها عندما غفت عيناها !
فَأرسل الصباح شُعاع الشمس قبل الظهور .. و كأنه ينطق بالرموز " استعدوا فطائرةُ
الأمل سَتصل حاملةً في أعماقها من طواهم الغياب " !
أفاقت و التهليل عصفور صغير يرافقها .. احتارت من أين تبدأ في تجهيز نفسها و المنزل
قبل وصول أختها إلى الدار ..
خلعت اليأس منها .. و الأسى ذاب مع ذوبان الظلام
فَتألقت حينما ارتدت فستاناً مشابهاً لِفستان أختها .. و تطوقت بطوق الياسمين ..
فَرحةٌ هيَ و كأن كُل سعادةٍ في كلِ قلب بشر قد اجتمعت بِها !
و نشرت رائحة العطر و الزهر بين أرجاء المنزل ..
حينها طُرقت الباب بِهدوء / أصابها الارتباك ثُمَ انطلقت نحوَ الربيع عندما قابلت أختها
و هي ترتدي مثلَ لباسها ..
ـ أهلاً !!
ـ أعُدتِ ؟
ـ أعادني الحنين ( و هي مبتسمة )
ـ لو تعلمين كيف قتلني رحيلك ( دامعة عيناها و هي تحتضنها )
ـ أعتذر على كل أخطائي صغيرها و كبيرها !
ـ اصصص .. ليس بيننا اعتذار .. مهما كان سَتبقي أنتِ توأمي
التي لا أستطيع أن أتهمها بِالأخطاء !
ـ إنني مرهقة .. منذُ الأمس لم أنمْ !
ـ جهزتُ فراشك فَلقد أحسستُ بِتعبك ..
نامت كُلُ واحدةٍ منهما على فراشها .. و مرَ ذلك اليوم بأعماق راحة ليس
لها حدود ..
و بعد دقات الساعات و الدقائق .. في منتصف الليل قد أفاقت تلتهمها الغُصص
و تُناديها ضحكة و ابتسامة لا إرادية ..
باتت تبحث في سرير أختها التي كانت بالأمس نائمة على فراشها .. و تفتش المنزل
في كل زاوية باحثةً عنها ..
و لكن لم يكن يحدث شيء ذلك الوقت إلا انهيار و احتراق بقايا الأمل ..
فَهيَ لم تجد أختها !
و لم يكن وجودها إلا خيال .. و خيال .. و خيال .. زارَ أعماقَ حلمٍ ماغِص ..
بعدهُ لم يزُر عيناها النوم .. مكثت تحتمي ما بين الزوايا ..
إلى أن أشرقَ الصُبح / الذي في نظرها لا يقُل و لا قليلةً عنِ الليل بِشيء ..
رنَ هاتفها ( مكالمة واردة من الدكتور النفساني )
ـ أهلاً .. لقد افتقدتكِ و افتقدتُ وجودكِ .. ما رأيكِ أن تعودي ؟
( ظلت تُحاكي الصمت ) !
ـ ثُمَ قال : كيفَ أصبحتِ ؟
ـ بخير .. إنني بخير !
ـ ردكِ لا يبعثُ في قلبي الاطمئنان !
أغلقت الهاتف فوراً .. فَهي لم تعد بِحاجة إلى طبيب نفساني /
قد تشافت و رزقها الله العافية من تلكَ الحالة الموحشة !
لحظةٌ .. لحظةٌ يا أمي !
انطوت صفحةُ النهار ..
و برزت النجوم و الأجرامُ على السماء ..
باتت تجلسُ على نافذة غرفتها .. تحملُ مشاعرَ حزينة .. حروف باهتة تسكبها
على الدفتر .. منذُ أن تعلمت الكتابة عندما كانَ وجودها في أحدِ مستشفيات ألمانيا
النفسية ..
اعتادت في ذلك الوقت .. أن تلمحُ أمها على السجادة تًصلي لِلرحمن ..
و همساتُ استغفارها تصلُها .. فَترتاحُ قليلاً ..
و لكنَ اليوم .. لا صوت .. لا همس في المنزل .. الصمتُ يضُج / و الخوفُ
يغلي في القلب ..
لمحت أمها قد أطالت السجود .. فَمكثت تنتظر .. تترقب جلوسها !!
و لكنَ الانتظارَ ملَ مِن نفسه .. و تكلل جبينُ الفتاة بِالعرق ..
اقتربت مِن أمها ..
حتى رأتها .. لا تُجيب النداء .. لا تجلس !!
فارقت أمها الحياةُ و هيَ ساجدة و الإبتسامة نورٌ على وجهها ..
و لم يكد أن يأتي الفجر و يعتلي صوتُ الأذان إلا و بدأت مراسم الدفن ..
احتضنتها كُل امرأة تُقبل لِتُعزيها .. و لكنها دونَ كلام .. دونَ دموع !
إلى أن غادرَ الجميعُ المنزل .. فَالتقطت قلمها و دفترها لِتكتب :
" اليوم أمي غادرت .. تركتني هيَ الأخرى بعدما تركتني أختي ..
اليوم أعلنَ موتي بينَ جدران المنزل .. سَأكونُ مدفونة بينَ مقابر الأحزان !
يتبع في الجزء الثالث ..