على بساط من الرمل المتلألئ الذي صيرته الشمس ذهبا لامعاً، وموج البحر يمتد ليداعب حبات الرمال ويجلب معه صدفات براقة وجميلة ، كانت تمشي حافية في هدوء وهي تتأمل حركات وسكنات الموج وكل ما حوله من رمال وصخور وسماء ذهبية وجبال شاهقة وطيور عائدة إلى مأمنها ، تمشي وهي تحمل حذاءها في يدها اليسرى وحقيبة صغيرة في يمناها مملوءة بالصدف تخطو مودعة ذلك المكان الملهم عائدة إلى منزلها لاستقبال عائلتها .
هذه رغد الشابة الحالمة التي تبحث دائما عن النوادر وعن كل مكان يبعث في نفسها السعادة ، وصلت للمنزل وهي غارقة في عالم أحلامها العامر وفي كل طموحاتها العالية فتحت الباب وحقيبة أصدافها تغرد بالأصوات وهي تصطدم فيما بينها وكأنه حديث لا يفقهه غيرها، دخلت في سكون إلى المنزل الذي لا يُسمع به أصوات ولا أنفاس ولا حتى نسيم عابر، أشعلت النور ودخلت إلى المطبخ وإذ بأنظارها تتساقط على ورقة كانت على طاولة الطعام وراحت في شغف لتقرأ ما كتب فيها، أمسكتها ويداها ترتجفان في لهفة، قرأتها بصوت خفيف : ابنتي رغد لقد خرجنا أنا ووالدك في عمل مهم ونأسف أننا لم نلتقي ولكن هي الظروف من أجبرتنا على الذهاب في سرعة غير مخطط لها ، وسوف نعود سرعان ما ننهي أعمالنا..نحبك، هنا توقفت أفكار رغد وأعادت الورقة إلى مكانها ، راحت والبرود يكسو علامات وجهها صاعدةً السلم درجة درجة، بطيءٌ جدا كان صعودها إلى أن وصلت أخيرا إلى غرفتها، بعدما فتحت الأنوار جلست أمام مكتبها وأخذت تخرج الصدفات من حقيبتها وشرعت في تنظيفها وتلميعها بكل دقة ، وهي تفكر في كل السنين التي قضتها في مثل حال هذا اليوم ، فوالداها إما مشغولان خارج المنزل وداخله وفي أيام العطل والإجازات، وحياة رغد هكذا تمضي تكسوها الوحدة والعزلة ،غطت في نوم عميق وسط كل هذه الهواجس التي باتت وجعًا لا يمكن تجاهله بتاتًا...
وبعد طلوع أول علامة من علامات الفجر الصادق صحت رغد كصحو العصافير وراحت تتوضأ لصلاة الفجر لتكون بركة لذلك اليوم الجديد ، بعدها خرجت من غرفتها وهناك سكون يخيم على المنزل ، يبدو أن والداها قد خرجا مبكراً اليوم ، لم تأبه للأمر فهذا روتين يومي قد اعتادت عليه ، ولكن هناك صداع لم يفارقها منذ أن أفاقت : كم هو مزعج ـ كان قولها ـ ، وصلت للمدرسة ولكن نشاطها ليس كمثل العادة بل هي أكسل وأقل همة ، لم يكن هناك متسع لتفسير حالها بل كانت تكتفي بتجاهل ما هي عليه كي لا تزيد من حالها سوءًا ـ كما تظن ـ، رن الجرس معلنًا عن بداية الاستراحة ، لم تخرج رغد من غرفة الصف كما كانت عادتها فقط اتكأت على مسند الكرسي وهي تغمض عينيها تارة وتفتحها لتشرد تارة أخرى ، بينما هي مغمضة العينين أحست بمن يجلس بقربها ففتحت مسرعة قائلة : من سعاد ؟ لقد أفزعتني ماذا تريدين ؟، سعاد : أنا آسفة لم أقصد إخافتك ، فقد أردت الاطمئنان عليك إنك على غير عادتك اليوم ، رغد شردت تفكر في مشكلتها فالمنزل ، سعاد: ها قد عدتِ للشرود ، أعلميني ما بك؟ لربما أستطيع المساعدة ، رغد لم ترغب في بوح مشكلتها الأساسية فاكتفت بقول : أشعر بالصداع الشديد ، سعاد : هذه المشكلة إذن، لا داعي للقلق خذي هذا المسكن وسوف تشعرين بالراحة فورا ، أخذته رغد وبعد تناوله أحست براحة شديدة .
مرت الأيام ورغد تعتاد على ذلك المسكن الغريب يوما تلوى الآخر أصبح تعلقها بالمسكن يكبر وشعورها بآلام الرأس تزداد فور ما تنقطع عنه وهي مسكينة لا تعلم ما سر هذا المسكن ومن ماذا يتكون !، في يوم ما كانت رغبتها فيه ملحة فاتصلت بصديقتها سعاد لتخبرها بحاجتها له ولكن الآن قد أعلمتها بأنها يجب أن تدفع مقابلًا لأخذ المزيد لم تتردد رغد في الموافقة فقد كانت ميسورة الحال ، وبدأت الأيام تتوالى وحالة رغد تزداد سوءًا ، ووالدها قابعان في صومعة العمل المستمر لا يلاحظان ولا يراقبان ولا يحسبان ، انقلبت حال رغد رأسًا على عقب حتى ملامحها أصبحت مدعاة لريبة لم تعد كما هي أبدا ، وبعد مرور ثلاثة أشهر لاحظت إدارة المدرسة تغير رغد الطالبة المتفوقة والنجيبة فتم إرسال رسالة لوالديها كي يحضرا للمدرسة ، وبعد ذلك الحضور اكتشف الوالدان بأن ابنتهم مدمنة مخدرات ، كانت الغلطة في عدم الاهتمام وقلة الرعاية فرغد وحيدتهم تمكث ساعات وأيام لوحدها لا من يؤنسها ويهتم بها لذلك لم تكن رغد المخطئة الوحيدة ، بعد ذلك تدهورت حالة رغد كثيرا بسبب التسمم الذي حصل جراء أخذ جرعة مركزة فتم وضعها في العناية المشددة ، أخذ الوالدان إجازة طارئة ومكثا عند رغد في المستشفى ، مرت أسابيع ورغد في عالم آخر لا تشعر ولا تحس فقط مرمية على ذلك الفراش الأبيض كقطعة خشب مسندة ، في أحد الأيام وبينما الوالدة تمسك يد ابنتها تقرأ لها آيات من الذكر المبارك دار الحوار الآتي الذي ابتدأه والد رغد : إن حالها يزعجني جدا لا أعلم ما العمل ، تكلمت والدة رغد والحزن يملأ صوتها : لقد كنا المخطئين منذ البداية كان يجب أن نعطي رغد ولو جزءًا بسيطا من وقتنا ، لقد غرنا العمل وكسب الأموال وتناسينا بأن الله قد رزقنا ذرية يجب أن نحافظ عليها،
أردف والد رغد :نحن من دفعناها لحالتها هذه ، بكت والدة رغد وعادت لتكمل قراءة القرآن لابنتها، ما هي إلا دقائق ودخل الطبيب يحمل البشرى التي أتت كفرصة ثانية لتكفير ذنب هذه الأسرة وتبيانٍ لرحابةِ رحمةِ الله وسعتها ، وقف الوالد في انتظار قول الطبيب والوالدة تترقب بعيونها الحائرة ، تكلم الطبيب ووجهه يبشر بالخيرات : لقد أجرينا فحوصات كاملة على ابنتكما وبحمد من الله ومنته أن بعث فيها نبض من الشفاء وعافها عما كان يبتليها ،،، لقد تعافت رغد من علتها تماماً ويمكنها الخروج بعد أن تصحو ، حمد الوالدان الله على هذه النعمة وبدأ الاثنان في التخطيط لما ستكون عليه الحال بعد هذه العقبة ، خرجت الأسرة من المستشفى بعدما شفيت رغد وعادت كما كانت تشع بالنور والحياة ، استقالت والدتها لتكون بجوار ابنتها أما الوالد فقد أخذ إجازة للم شمل الأسرة والترفيه عنها ، وعادت الأمور إلى مجراها وعادت رغد لحياتها المليئة بالأحلام والنجاحات والتطلعات بجوار والداها لا تحمل هم الوحدة ولا عبء غياب والديها ،
تتوالى المشاكل إذا زاد عدد المخطئين في حيز واحد ، وتقل إذا اتحد الجميع على دحض وتفنيد الأخطاء وتصحيحها والمبادرة للأفضل،
فعند حدوث كارثة تدمر هرم النجاحات لا يجب إلقاء اللوم على شخص واحد لربما ذلك الشخص المتهم يكون هو من وقفت عنده أحداث الكارثة
التي بدأت من قمة الهرم إلى أن وصلت لأسفله عند مكان ذلك الشخص
يجب أن نحاسب أنفسنا على أخطائنا قبل أن نحاسب الخلق على أخطائهم
فلربما سبب خطئهم هو تقصير منا في عملنا فالحياة سلسلة تكاملية ، وكل عمل يقوم على عمل آخر ، حياة رغد ما هي إلا مثال بسيط لما يحصل في المجتمع من مشكلات وكوارث كلها تؤدي إلى درب التهلكة فالحلم الناجح
ينتحر إذا لوثته البيئة الملوثة وانعدمت من حوله الأيادي المساعدة والألسن الناصحة ،
ـ النهاية ـ
