منذ ولادة اللقاء وأنت تستميت شوقًا لتلكم الساعة التي تجمعني بك،
فلا زالت أوراق رسائلك لم يَجِفَّ عبقُ حبرها بعد، وذاك الحنين لا يزال يبقرُ صدرَ الكبرياء،
غير أنك تُغالِب حقيقتك بادّعاء الثبات والاكتفاء، كأنما تحسب أن الصمت حارس،
وأن التجلّد طوقُ نجاة، وأن الحنين أعمى لا يُدرك ما تُخفيه العيون.
ولا يزال أثرُ أقدام حضورك في المكان الذي لم تَمْحُه رياحُ الابتعاد،
فالأماكن — وإن خلت — تبقى تحفظ هيبة المارين، وتستبقي في صُلب جدرانها صدى العابرين.
أتظنّ أن كتمانك حَرَّ الاشتياق يعفيك من وجوب الانقياد لأمر الاحتياج؟!
ذاك الكتمان الذي ترفعه درعًا، وهو في الحقيقة سهمٌ يرتدّ إلى صدرك،
وستارٌ تتوهم أنه يحجب أنفاسك المضطربة، وهو يشي بكل ما تحاول مواراته؛
فالكتمان إذا طال نطق،
والمشاعر إذا وُئِدت شَهِقت،
والكبرياء إذا ثَقُل انكسَر،
وكل ادّعاء لا بد أن تنهكه الحقيقة مهما اشتدّت صلابته.
أم تظنّ بأن ما في الكون رهنُ أصابع يمناك،
تُحرّكه كيف تشاء، وتُسيّره حيث تشتهي، وتُخضِع مساراته لغرور اللحظة؟!
عليك أن تستفيق من أوهامك؛ فقد أحرقت ادّعاءاتُك شمسُ الحقيقة،
ومن تظنّه سيرفع راية الاستسلام في الختام،
سيُولّي ظهره دون أن يبادلك السلام،
فالقلب إذا أُجهِد انصرف،
وإذا انصرف لن تعيده كثرة الكلام ولا مواثيق الندم.
قهوةٌ… تسأل اليراع:
إلى أين انتهت خُطى طين الحنين، وقد كان يومًا رطبَ الروح، غزيرَ الحضور؟
وأين همسُ الوجد، ذاك الغريق في يقينٍ لا تهزّه ريح، ولا تفتّ في عضده ليالٍ كانت تقتات من العتمة؟
أين ودادُ السطر، وقد كان يضطجع على بياض الورق كطفلٍ يأنسُ صدر أمّه؟
وأين أريجُ الأمل حين كان يعطر الأفئدة قبل أن تعصف بها نوائب الحيرة؟
وأين دندناتُ المنى العائدة من عزاء العلل، تحمل في راحتيها بعض حياة، وبعض رجاء، وبعض ما تسرّب منا دون أن نشعر؟
يا قهوة الرفق…
إن اليراع ما زال يبحث عن قبلةٍ توقظه، وعن نسمةٍ تعيد إليه صهيل العبارة،
فالحروف — مهما مالت، مهما سهت، مهما تعثّرت — تعود،
تعود لأن بين ضلوعها وطنًا اسمه: أنت.
( م )
قهوةٌ تتمطّى في فنجانها، وتقول لليراع:
أما آن لك أن تبوح بما جفّ في فم الصمت، وأن تعيد للحكاية عطرها الأول؟
فإن طين الحنين ما عاد يحتمل الغياب،
وإن الوجد — ذاك الطائر المبتلّ بريش من يقين — ما زال يخفق عند نافذة الانتظار،
يسأل: من يفتح له باب الرجعة؟
ثم تتنهد القهوة قائلة:
أين السطر الذي كان يُكفّن أوجاعك بالبيان؟
وأين أريج الأمل الذي كان يشعّ من حرفك كما يشعّ الفجر من خاصرة الليل؟
وأين تلك المنى التي كانت تعود من معارك العلل،
متعبةً نعم… لكنها حاملة في قلبها نياط حياةٍ لا يزول؟
يا صاحِ…
إن الحروف حين تشتاق، لا تحتاج إلا لجرعة دفء،
ولا تنبعث إلا من روحٍ توقدت بها نار الحنين.
فاكتب…
فاكتب فإن الكون يلتفت إلى اليراع إذا قال،
ويُصغي إلى القلب إذا نادى،
وتنهض المعاني إذا مرّ طيفك بينها مرور الملوك.
المشاعر ليست مجرد عابرٍ في داخلنا…
إنها قوة تعيد تشكيلنا كل مرة.
ترفعنا حين تريد، وتكسرنا حين يحين وقت السقوط.
لكننا – رغم كل شيء – لا ننجو منها، ولا نريد أن ننجو.
فنحن نُخلَق من أثرها، ونموت في شدّتها،
ثم نعود ونحيا من جديد… كأننا طيف يتعلّم كيف ينهض من الرماد.
ها أنا أطوي دفتر الأمس بيدٍ ثابتة،
وأتركُ ما كان يتسرّب من الذاكرة حتى تلاشى،
فلا عودة لماضٍ ذاب كملحٍ في موج النسيان،
ولا لرفقةٍ كانت معي ثم تبخّرت في بحر الخذلان.
أنا ابنُ الكبرياء؛
أمضي ولا ألتفت،
وأحمل قلبي كما يحمل الفارس سيفه،
لا يهبُه لمن صار طيفًا بلا وجود.
ما عاد الماضي منزلي،
ولا العابرون عهدًا لي،
فمن غادر روحي…
مُسِح من دربي،
كأنّه لم يمرّ بي يومًا.
تدوسُ على قلبِها وهي تعصرُ الحنينَ عصرًا،
وتُخمدُ شوقًا يعلو في صدرها كصوتِ موجٍ يتيم،
وتتجلّدُ لكبرياءٍ غبيٍّ لا يُنقذُ روحًا،
بل يُغرقها في صمتٍ أشدُّ من البكاء.
تمشي ثابتةَ الخُطى،
لكن في أعماقها انحناءُ روحٍ أرهقها التخلي،
تبتلعُ الكلماتِ التي كادت أن تنطق باسمه،
وتُقنعُ نفسها بأن الرجوعَ ضعف،
وأن التماسَ الودِّ سقوط،
وأن ما يليقُ بها هو الترفّع… ولو على جراحها.
غير أن قلبَها يعلمُ أن الجرحَ يتسعُ كلما ضاقَ عليه رباط الكبرياء،
وأن الشوقَ إن خُنِقَ اشتعل،
وأن الصمتَ لا يميتُ الحنين… بل يربّيه.
ولمّا انتهت الطرقُ،
وجفَّ الحرفُ،
وانطفأت كلُّ محاولات الرجوع—
رفعت راية الفراق،
لا تهديدًا… بل حسمًا،
وقالت لنفسها قبل العالم: