رمـادُ إِمــرأة !!
قصة قصيرة بقلم/ سعيد مصبح الغافري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
@ وراءَ كـل ألـمٍ عظيمٍ ألـمٌ أعـظـم !!
عشت حياتي ذات اللون الأصفر محرومة من كل حب .. لا قبل زواجي عرفت الحب ، ولا بعد زواجي بذاك الأحمق البليد المشاعر عرفت الحب أو الدفء ، وعلى النحو الذي تستشعره الروح ويستدفئه القلب وتنتظره طقات الوقت مترافقة مع اللهفة وظمأ الانتظار .. حتى ذلك الانسان الذي رأيته لأول مرة وبلمحة سريعة في بيت صديقتي التي هي أخته و خفق له القلب دون أن ألتقيه أو أسمع صوته خطفه الموت بشكل عاجل في حادث سير في نفس اليوم الذي أمَّـلـت قلبي كثيرا أن ألتقيه وأتعرف عليه فيه ولو بحديث عـابر بـريء مقتضب الكلمات أو البسمات .. وكان ختام هذا الحرمان الممتد بدرب العمر مرضا بالسرطان ، قَـبِـلَ أن يضم نهداي اللذان لم تمر على براريهما العذراء قبلة ولا أنفاس حرى ولا أية أشواق ، رغم الثلاثين عاما على زواجي ، قَـبِـلَ هذا الوحش الآتي متسللا خفية والمتستر بخبث مخالبه أن يستوطنهما ، ممتصا بمحبة عنيفة وعـشـق وحشي غريب كل خلاياهما ونسيجهما ، في عناق طويل طويل ، لا يضجر ولا يتعب ولا تهدأ نوبات جنونه ومتاعب آلام إبره وأدويته ليل نهار !!
لأول مرة بحياتي أعيش حبا شبقيا نهما لا يشبع من جسدي أبدأ !! حتى الأمراض تعشق ولها في العشق طرائقها!!
في عصريات قـهـوتـنـا المصبوبة في فناجـيـن ثـرثـرتـنـا وفـراغـنا اليومي الشـاسـع ذي اللون الواحد ؛ كنت أغـار كثيرا من صديقاتي وهن يروين لنا قصصهن في الحب ، و ( أسماء ) أكثر من تشدني قصصها ، وهي تقول كاشفة لنا بجرأة وقحة عن سر وجهها المتورد شبابا وسعادة وراحة وصحة وعافية ، رغم أنها قابت قوسين من الخمسين :
ـــ بالليل عند احتدامات الرغبة وسعار الأشواق ؛ يستفتح زوجي الرومانسي جدا رحلة مباهجه مع أنوثة جسدي من هاتين القبتين العاجيتين بصدري والأشبه بضياء منصوب على شرفة ليل حالم ، محاط بغيمة موسيقى ناعمة اللمسات كأصابعه الحنونة المضمخة بالعشق .. دوما بعد طقس القبلة العابرة بنارها الهادئة و نسمات عبيرها - دوما عـوَّدني أن يهبط من هنا بشلال شفتيه ؛ نزولا متمهلا متأنيا لا عجلة فيه ، لذيذا ومخدرا ينتهي كجمرة متوهجة حمراء تسقط في ضياء صدري ليتركني بعدها شمعة مشتعلة تذوب بعذاب ناره ، ولها توق ظامىء لا يقو على الصبر كثيرا .. عجيب أمر هذا الحب ؛ فهو الشيء الوحيد الذي كلما سقط جمره الملتهب في نهر الأنوثة لم ينطفىء أبدا بل يزداد أوارا !!
كنت أسمع قصص صديقتي ( أسماء ) هذه فتعبرني رعشة حزن وأنا اتحسس في حسرة صحراء صدري القاحلة الملفوفة بكفن العتمة والبؤس ، وأخيرا بذاك السرطان العاشق الذي لا أعرف كيف ومن أين أتى ومتى كان كل هذا .. أين تراه رآني لأول مرة ؟! وماذا شده في كي يعشقني كل هذا العشق ويركض خلفي بكل هذا الجنون الضافر ؟!
زوجي منذ عرفته فصل باهت لا يتغير كباقي الفصول ، اتأمله بحنق مخنوق وقد أعطاني ظهر قفاه المتصنم .. هو ذا في نومه ؛ أشبه بجيفة نافقة .. نائم بكل شخيره المزعج بعد أن أفرغ سم رعشته البلهاء في جوفي الأخرس المنطفىء على الدوام .. لسنين ظللت لا ألقى منه إلا جوعه الشبقي الأهوج ذاك .. لا حضن .. لا قبلات .. لا همسات .. لا لمسات أصابع ممكن أن يشعل كبريتها - لو أتقن لغة الأصابع - كل مواطن جسدي .. إلى أن يئست ؛ كم حاولت مرارا تعليمه أبجدية الجسد وثقافة الجسد ، فيجأر بصوته البهيمي الأمي هازئا وهو يلقيني أرضا كالذبيحة :
ـــ نامي ...
وأنـام .. أنـام له ، مستسلمة كالدمية بجسدٍ فقد حتى لذة التمدد والاضطجاع ، وفـمٍ صامت وعينين تعودت أن أغمضهما فـوراً ، لا شـوقـا منتظرا مراودته بكل حـرارة ( هَـيْـتَ لك ) بل هـربا من مرآه المقرف ولـسـع شـنـبه القاسي الناتىء الشعيرات ولهاث كهولته التي فقدت شبابها و عنفوانها الأخضر ، لا شيء يلمسني من جسده الأبله المتصنن إلا أبجدية الثلج و الحجر والرائحة الكريهة الممزوجة بملح نهار كامل قضاه تحت عرق الشمس دون طشة ماء ولو عابرة يتصدق بها على جسده !!
في ذاك الفراش البارد برودة أيامي ؛ لا أشعر بأي شيء ولا أشم أي شيء ولا أشتاق أي شيء معه .. وصلت إلى مرحلة الـزهـد بعد أن فقدت كل شيء : صحتي . شبابي . أحلامي .. إمرأة ميتة أنا ، تتمدد عند الجوع اللحظوي - جوعه - على نعش بارد لـرجل شرقي أنـانـي جاهل و أغبر بحجم مقبرة !!
آه لو يعرف زوجي إلى أي دمار أوصل عمري بعد هذه السنين العجاف التي عشتها ومازلت أعيشها في غياهب صقيع مشاعره إلى أن صرت كما ترون ؛ شبحا أصفر ، ذهب منه كل بريقه وسحره ووهجه ، ولا ينتظر إلا ساعته الأخيرة تدق على باب رحيله الحزين الصامت !!
أطالعني في مرآة فجيعتي ؛ كائن شاحب هزيل ، ناتىء العظام ، و من دون ملامح إلا ملامح الموت .. مجرد قطعة صدئة معطوبة وباردة وبلا أي حرارة سوى إحساس الثلج الذي يلفني بكفنه الأبيض كميتة فقدت حتى رغبتها في الحب ولو لدقيقة مع رجل .. نهداي الضامران في ليل انزواءات النحيب الصامت يبكيان ألما وحسرة ..
جسدي ميت ، والأكثر موتا فيه تلك الرغبة .. الرغبة التي تحولت أخيرا إلى رماد داكن ، منثور على صفحة متاعبي اليومية وحزني ومرضي ، ذاك العاشق الأول والأخير الذي اعترض طريق حياتي ، ولازمني كمفارقة قدرية ساخرة أجبرتني أن أرضخ لحقيقة وجود هذا الكائن المُميت في جسدي وفي هذه البقية الباقية لي من الحياة .. إن كان ثمة حياة !!
تأخر الحب بمسافات بعيدة ، حتى نسي المرور بقطاره على محطة عمري ولن أنتظره أكثر مما انتظرته .. لـن أنتظره ؛ فـلـن يأتي .. لـن يأتي أبداً !!
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ