https://mrkzgulfup.com/uploads/171156484124551.jpeg

قائمة المستخدمين المشار إليهم

صفحة 68 من 68 الأولىالأولى ... 1858666768
النتائج 671 إلى 677 من 677

الموضوع: التفسيــر الميســر- متجدد

  1. #671




    { 1-7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }

    إلى آخر القصة.
    هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، كفروا به في جملة من كفر من اليهود، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة، فلما كان بعد [وقعة] بدر بستة أشهر أو نحوها، خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك، فخلا بعضهم ببعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه، بما هموا به، فنهض مسرعا، فتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت يهود به.
    وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه"
    فأقاموا أياما يتجهزون، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي [بن سلول]: "أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان".
    وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
    فكبر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه، ونهضوا إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء.
    فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة، وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم وحرق. فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم، وذراريهم، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأموال والسلاح.
    وكانت بنو النضير، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين، ولم يخمسها، لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، واستولى على أرضهم وديارهم، وقبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.
    فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لجلاله لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه مستعصي الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئا عبثا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته.
    ومن ذلك، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها.
    وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فجلوا إلى خيبر، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، ثم عمر رضي الله عنه، [أخرج بقيتهم منها].
    { مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ يَخْرُجُوا } من ديارهم، لحصانتها، ومنعتها، وعزهم فيها.
    { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم، وحسبوا أنهم لا ينالون بها، ولا يقدر عليها أحد، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله، لا تغني عنه الحصون والقلاع، ولا تجدي فيهم القوة والدفاع.
    ولهذا قال: { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي: من الأمر والباب، الذي لم يخطر ببالهم أن يؤتوا منه، وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد، الذي هو جند الله الأكبر، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة، ولا قوة ولا شدة، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها، واطمأنت نفوسهم إليها، ومن وثق بغير الله فهو مخذول، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم، التي هي محل الثبات والصبر، أو الخور والضعف، فأزال الله قوتها وشدتها، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا، لا حيلة لهم ولا منعة معه فصار ذلك عونا عليهم، ولهذا قال: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، على أن لهم ما حملت الإبل.
    فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم، التي استحسنوها، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم، وصاروا من أكبر عون عليها،{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حصنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل إليهم النكال بذنوبهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء على مثله، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة، وبذلك يزداد العقل، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان، ويحصل الفهم الحقيقي، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة، وأن الله خفف عنهم.
    فلولا أنه كتب عليهم الجلاء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي لا يبدل ولا يغير، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها، ولكنهم - وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي - فإن لهم في الآخرة عذاب النار، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا الله تعالى، فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية، فما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم وأطم.
    وذلك لأنهم { شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وعادوهما وحاربوهما، وسعوا في معصيتهما.
    وهذه عادته وسنته فيمن شاقه { وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
    ولما لام بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في قطع النخيل والأشجار، وزعموا أن ذلك من الفساد، وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه، إنه بإذنه تعالى، وأمره { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } حيث سلطكم على قطع نخلهم، وتحريقها، ليكون ذلك نكالا لهم، وخزيا في الدنيا، وذلا يعرف به عجزهم التام، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم، الذي هو مادة قوتهم. واللينة: اسم يشمل سائر النخيل على أصح الاحتمالات وأولاها، فهذه حال بني النضير، وكيف عاقبهم الله في الدنيا.
    ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم، فقال: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي: من أهل هذه القرية، وهم بنو النضير.
    { فـ } إنكم يا معشر المسلمين { ما أَوْجَفْتُمْ } أي: ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم، { عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } أي: لم تتعبوا بتحصيلها، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم، بل قذف الله في قلوبهم الرعب، فأتتكم صفوا عفوا، ولهذا. قال: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه ممتنع، ولا يتعزز من دونه قوي. وتعريف الفيء في اصطلاح الفقهاء: هو ما أخذ من مال الكفار بحق، من غير قتال، كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين، وسمي فيئا، لأنه رجع من الكفار الذين هم غير مستحقين له، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر فيه.
    وحكمه العام، كما ذكره الله في قوله { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } عموما، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده، لمن يتولى من بعده أمته
    { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال، في قوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ }
    فهذا الفيء يقسم خمسة أقسام:
    خمس لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [العامة]، وخمس لذوي القربى، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب، حيث كانوا يسوى [فيه] بين، ذكورهم وإناثهم، وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس، مع بني هاشم، ولم يدخل بقية بني عبد مناف، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيرهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، في بني عبد المطلب: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام"
    وخمس لفقراء اليتامى، وهم: من لا أب له ولم يبلغ، وخمس للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم.
    وإنما قدر الله هذا التقدير، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين لـ { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً } أي: مدوالة واختصاصا { بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فإنه لو لم يقدره، لتداولته الأغنياء الأقوياء، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء، وفي ذلك من الفساد، ما لا يعلمه إلا الله، كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام، فقال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح [والدنيا والآخرة]، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } على من ترك التقوى، وآثر اتباع الهوى.
    (8) ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الأموال أموال الفيء لمن قدرها له، وأنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، رغبة في الله ونصرة لدين الله، ومحبة لرسول الله، فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصار وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا، وينمو قليلا قليلا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.
    الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله، أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.
    { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها.
    ويدل ذلك على أن المهاجرين، أفضل من الأنصار، لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.
    وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا، والإيثار عكس الأثرة، فالإيثار محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا، منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان الصنفان، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين
    وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ولهذا ذكر الله من اللاحقين، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي: من بعد المهاجرين والأنصار { يَقُولُونَ } على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }
    وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا.
    ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.
    فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان، لأن قولهم: { سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } دليل على المشاركة في الإيمان وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرا وغائبا، حيا وميتا، ودلت الآية الكريمة [على] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من جملته، بل من أجله، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده.
    فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام.
    وهؤلاء أهله الذين هم أهله، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه.
    ثم تعجب تعالى من حال المنافقين، الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب، في نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم: { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا } أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا، { وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم.
    ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع، مقارنهم، والنفاق والجبن يصحبهم، ولهذا كذبهم [الله] بقوله، الذي وجد مخبره كما أخبر الله به، ووقع طبق ما قال، فقال: { لَئِنْ أُخْرِجُوا } من ديارهم جلاء ونفيا { لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ } لمحبتهم للأوطان، وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بوعدهم
    { وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ } بل يستولي عليهم الجبن، ويملكهم الفشل، ويخذلون إخوانهم، أحوج ما كانوا إليهم.
    { وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ } على الفرض والتقدير { لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } أي: ليحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة، ولا يحصل لهم نصر من الله.
    والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم - أيها المؤمنون - { أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ } فخافوا منكم أعظم مما يخافون الله، وقدموا مخافة المخلوق الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، على مخافة الخالق، الذي بيده الضر والنفع، والعطاء والمنع.
    { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } مراتب الأمور، ولا يعرفون حقائق الأشياء، ولا يتصورون العواقب، وإنما الفقه كل الفقه، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها، وغيرها تبعا لها.

    { 14 } { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا } أي: في حال الاجتماع { إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } أي: لا يثبتون لقتالكم ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في القرى، أو من وراء الجدر والأسوار.

    فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع، اعتمادا [على] حصونهم وجدرهم، لا شجاعة بأنفسهم، وهذا من أعظم الذم، { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي: بأسهم فيما بينهم شديد، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم، وإنما الآفة في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم، ولهذا قال: { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا } حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين.
    { و } لكن { قلوبهم شَتَّى } أي: متباغضة متفرقة متشتتة.
    { ذَلِكَ } الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } أي: لا عقل عندهم، ولا لب، فإنهم لو كانت لهم عقول، لآثروا الفاضل على المفضول، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين، ولكانت كلمتهم مجتمعة، وقلوبهم مؤتلفة، فبذلك يتناصرون ويتعاضدون، ويتعاونون على مصالحهم ومنافعهم الدينية والدنيوية.
    مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب، الذين انتصر الله لرسوله منهم، وأذاقهم الخزي في الحياة الدنيا.
    وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا } وهم كفار قريش الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: { لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ] } الآية.
    فغرتهم أنفسهم، وغرهم من غرهم، الذين لم ينفعوهم، ولم يدفعوا عنهم العذاب، حتى أتوا "بدرا" بفخرهم وخيلائهم، ظانين أنهم مدركون برسول الله والمؤمنين أمانيهم.
    فنصر الله رسوله والمؤمنين عليهم، فقتلوا كبارهم وصناديدهم، وأسروا من أسروا منهم، وفر من فر، وذاقوا بذلك وبال أمرهم وعاقبة شركهم وبغيهم، هذا في الدنيا، { وَلَهُمْ } في الآخرة عذاب النار.
    ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ } أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه، فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء، لم ينفعه الشيطان، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه، بل تبرأ منه و { قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي: ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير.
    { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا } أي: الداعي الذي هو الشيطان، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه { أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } الذين اشتركوا في الظلم والكفر، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته، وهذا دأب الشيطان مع كل أوليائه، فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور، حتى إذا وقعوا في الشباك، وحاقت بهم أسباب الهلاك، تبرأ منهم وتخلى عنهم.
    واللوم كل اللوم على من أطاعه، فإن الله قد حذر منه وأنذر، وأخبر بمقاصده وغايته ونهايته، فالمقدم على طاعته، عاص على بصيرة لا عذر له.

    { 18-21 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

    يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرا وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أيضا، أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد.
    وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.
    والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم - مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومن غفل عن ذكر الله، ونسي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون.
    ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد.
    ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده في كتابه الحلال والحرام، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه.

    { 22-24 } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

    هذه الآيات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى وأوصافه العلى، عظيمة الشأن، وبديعة البرهان، فأخبر أنه الله المألوه المعبود، الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم، وإحسانه الشامل، وتدبيره العام، وكل إله سواه فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأنه فقير عاجز ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل، لما غاب عن الخلق وما يشاهدونه، وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ووصلت إلى كل حي.
    ثم كرر [ذكر] عموم إلهيته وانفراده بها، وأنه المالك لجميع الممالك، فالعالم العلوي والسفلي وأهله، الجميع، مماليك لله، فقراء مدبرون.
    { الْقُدُّوسُ السَّلَامُ } أي: المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص، المعظم الممجد، لأن القدوس يدل على التنزيه عن كل نقص، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله.
    { الْمُؤْمِنُ } أي: المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به، بالآيات البينات، والبراهين القاطعات، والحجج الواضحات.
    { الْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء، { الْجَبَّارُ } الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، { الْمُتَكَبِّرُ } الذي له الكبرياء والعظمة، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور.
    { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به وعانده.
    { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ } لجميع المخلوقات { الْبَارِئُ } للمبروءات { الْمُصَوِّرُ } للمصورات، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير، وأن ذلك كله قد انفرد الله به، لم يشاركه فيه مشارك.
    { لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: له الأسماء الكثيرة جدا، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا الله هو، ومع ذلك، فكلها حسنى أي: صفات كمال، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها، لا نقص في شيء منها بوجه من الوجوه، ومن حسنها أن الله يحبها، ويحب من يحبها، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها.
    ومن كماله، وأن له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، أن جميع من في السماوات والأرض مفتقرون إليه على الدوام، يسبحون بحمده، ويسألونه حوائجهم، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الذي لا يريد شيئا إلا ويكون، ولا يكون شيئا إلا لحكمة ومصلحة.
    تم تفسير سورة الحشر، فلله الحمد على ذلك، والمنة والإحسان.




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



    •   Alt 

       

  2. #672



    { 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }

    يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي: الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، من النهر الذي يقال له { الكوثر } ومن الحوض
    طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته كنجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
    ولما ذكر منته عليه، أمره بشكرها فقال:
    { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } خص هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات.
    ولأن الصلاة تتضمن الخضوع [في] القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.
    { إِنَّ شَانِئَكَ } أي: مبغضك وذامك ومنتقصك { هُوَ الْأَبْتَرُ } أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر.
    وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع صلى الله عليه وسلم.




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



  3. #673



    { 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }

    يقول تعالى مبينًا لفضل القرآن وعلو قدره: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } كما قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وذلك أن الله [تعالى] ، ابتدأ بإنزاله في رمضان [في] ليلة القدر، ورحم الله بها العباد رحمة عامة، لا يقدر العباد لها شكرًا.
    وسميت ليلة القدر، لعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية.
    ثم فخم شأنها، وعظم مقدارها فقال: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم.
    { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أي: تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر [خالية منها]، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث من تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلًا، نيفًا وثمانين سنة.
    { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } أي: يكثر نزولهم فيها { مِنْ كُلِّ أَمْر سَلَامٌ هِيَ } أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } أي: مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر .
    وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصًا في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة.
    ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يعتكف، ويكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



  4. #674




    { 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

    لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها ، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ليبقى جاههم، وتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على بصيرة، فقال: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا } على وجه الكذب: { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله، فإن { اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ودعواهم، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم.
    { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي: ترسًا يتترسون بها من نسبتهم إلى النفاق.
    فصدوا عن سبيله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم، { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم.
    { ذَلِكَ } الذي زين لهم النفاق { بـ } سبب أنهم لا يثبتون على الإيمان.
    بل { آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } بحيث لا يدخلها الخير أبدًا، { فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } ما ينفعهم، ولا يعون ما يعود بمصالحهم.
    { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها، { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال: { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم.
    فهؤلاء { هُمُ الْعَدُوُّ } على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، { فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه، إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء.
    { وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء المنافقين { تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ } عما صدر منكم، لتحسن أحوالكم، وتقبل أعمالكم، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع، و { لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } امتناعًا من طلب الدعاء من الرسول، { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } عن الحق بغضًا له { وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } عن اتباعه بغيًا وعنادًا، فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم، فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وذلك لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم كما قال تعالى: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ }{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .

    { 7-8 } { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }

    وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا بزعمهم الفاسد:
    { لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في نصرة دين الله، وهذا من أعجب العجب، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين، وأذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، التي لا تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور ولهذا قال الله ردًا لقولهم: { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها على من يشاء، { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } فلذلك قالوا تلك المقالة، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، وتحت مشيئتهم.
    { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار، بعض كلام كدر الخواطر، ظهر حينئذ نفاق المنافقين، وأظهروا ما في نفوسهم .
    وقال كبيرهم، عبد الله بن أبي بن سلول: ما مثلنا ومثل هؤلاء -يعني المهاجرين- إلا كما قال القائل: " غذ كلبك يأكلك "
    وقال: لئن رجعنا إلى المدينة { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون، وأن رسول الله ومن معه هم الأذلون، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال [تعالى:] { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [هم] الأذلاء. { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارًا بما هم عليه من الباطل، ثم قال تعالى:

    { 9-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

    يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح، والخيرات الكثيرة، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي: يلهه ماله وولده، عن ذكر الله { فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }للسعادة الأبدية، والنعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى، قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
    وقوله: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفارات ونفقة الزوجات، والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح، وقال: { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة، ما يعنتهم ويشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه.
    فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ } متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلاً الرجعة التي هي محال: { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي: لأتدارك ما فرطت فيه، { فَأَصَّدَّقَ } من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، { وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه، ولهذا قال: { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا } المحتوم لها { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشر، فيجازيكم على ما علمه منكم، من النيات والأعمال.




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



  5. #675


    { 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }
    يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة، وأن الأرض تتزلزل وترجف وترتج، حتى يسقط ما عليها من بناء وعلم .
    فتندك جبالها، وتسوى تلالها، وتكون قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت.
    { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } أي: ما في بطنها، من الأموات والكنوز.
    { وَقَالَ الْإِنْسَانُ } إذا رأى ما عراها من الأمر العظيم مستعظمًا لذلك: { مَا لَهَا } ؟ أي: أي شيء عرض لها؟.
    { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ } الأرض { أَخْبَارَهَا } أي: تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر، فإن الأرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم، ذلك {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [أي] وأمرها أن تخبر بما عمل عليها، فلا تعصى لأمره .
    { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ } من موقف القيامة، حين يقضي الله بينهم { أَشْتَاتًا } أي: فرقًا متفاوتين. { لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } أي: ليريهم الله ما عملوا من الحسنات والسيئات، ويريهم جزاءه موفرًا.
    { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وهذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء، [وجوزي عليها] فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، كما قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا }
    وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلًا، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا.




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



  6. #676




    { 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ }

    { الْقَارِعَةُ } من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك، لأنها تقرع الناس وتزعجهم بأهوالها، ولهذا عظم أمرها وفخمه بقوله: { الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ } من شدة الفزع والهول، { كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث } أي: كالجراد المنتشر، الذي يموج بعضه في بعض، والفراش: هي الحيوانات التي تكون في الليل، يموج بعضها ببعض لا تدري أين توجه، فإذا أوقد لها نار تهافتت إليها لضعف إدراكها، فهذه حال الناس أهل العقول، وأما الجبال الصم الصلاب، فتكون { كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } أي: كالصوف المنفوش، الذي بقي ضعيفًا جدًا، تطير به أدنى ريح، قال تعالى: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } سورة النمل آية 88 ، ثم بعد ذلك، تكون هباء منثورًا، فتضمحل ولا يبقى منها شيء يشاهد، فحينئذ تنصب الموازين، وينقسم الناس قسمين: سعداء وأشقياء، { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي: رجحت حسناته على سيئاته { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } في جنات النعيم.
    { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } بأن لم تكن له حسنات تقاوم سيئاته.
    { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } أي: مأواه ومسكنه النار، التي من أسمائها الهاوية، تكون له بمنزلة الأم الملازمة كما قال تعالى: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } .
    وقيل: إن معنى ذلك، فأم دماغه هاوية في النار، أي: يلقى في النار على رأسه.
    { وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ } وهذا تعظيم لأمرها، ثم فسرها بقوله هي: { نَارٌ حَامِيَةٌ } أي: شديدة الحرارة، قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا سبعين ضعفًا. نستجير بالله منها.




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



  7. #677



    وهنــــا نصل لختــام موضوع التفسير الميسر للقرآن الكريم


    تم بحمدلله




    قال تعالى :
    { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) } صدق الله العظيم



صفحة 68 من 68 الأولىالأولى ... 1858666768

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة للسبلة العمانية 2020
  • أستضافة وتصميم الشروق للأستضافة ش.م.م