عـشــتُ مُـنـاضِـلاً
كان البطل الشهيد والقائد العربي العظيم صدام حسين آخر سيف عربي صقيل ومهيب تـفـيـأت تحت ظله عروبتنا ، واحتمت ببرقه كرامتنا ، وتطلعت مشرئبة عبر شعاع مداه أحلامنا وتطلعاتنا ، وما نريد أن نحقق أو نكون !!
صدام حسين .. يا أجمل ما أنجب رحم العراق للعراق وللعرب !!
صدام حسين .. هذا الرمح العربي الأصيل الذي ظل يطعن العدو مرارا وتكرارا في خاصرته وصدره !!
صدام حسين .. هذا الواقف بشموخ ثابت على أرض المعركة والمصير !!
هذا الصقر العربي المجنح الذي حلق عاليا غير هـيًّـاب من أحد !!
كيف لي أن لا أحبه كل هذا الحب ؟! وأن لا أهرق فيه محبرة محبتي واعتزازي وفخري ؟! وأنا الذي بحياتي لم أمدح حاكما ولم أتـزلـف أو أركـع أمام أي جـزمة أو أي نظام ، وما فعلتها ولـن أفعلها ما عشت إن شاء الله لا في نثري ولا شعري ولا فيما أكتب أو أتخيل أو أنطق .
كان صدام حسين ظاهرة قومية جاد بها الزمان في ظرف دقيق عاصف كنا فيه ومازلنا نبحث عن قائد . عن مهدي منتظر . عن رجل حقيقي بحجم معجزة أو أسطورة .. يأتي ليلم شمل قطيعنا المبعثر ، ويقودنا تحت رايته ولوائه ونحن مرفوعي الرؤوس ، وواثقين من الخطوة والطريق وما بعدهما .
وقد استغرب أحدهم من موقفي الصارم والثابت ثبات الصخر والجبال من مسألة التحامي والتصاقي بلحم المجموع لا الفرد . بالقضية لا بالعروش . بالعروبة في كليتها الجغرافية الشاملة ، لا بالمزاريب والحظائر المقسمة التي أقامها وأوجدها الاستعمار في شكل دويلات بمسميات عدة ، وأعلام بألوان وأشكال مختلفة وبأناشيد ( وطنية ) تختلف أنغامها وكلماتها وطولها وقصرها من بلد إلى آخر بحسب " ما يطلبه المستمعون " ومزاجهم في هذا البلد . ناهيك عن الأنظمة والعملات والتيارات الحزبية والأفكار الأيديولوجية المتنافرة ... إلى آخر أشكال التجزيء وصور التفتيت والانقسام التي صنعها وأوجدها الإستعمار لنبقى هكذا أمة مهيضة الجنحان . لا شيء يجمعها ويوحدها ويؤطر من نسيجها الوحدوي ويجعلها ذات قوة وهيبة ومكانة بين الأمم ..
ومع ذلك لم أزدد رغم هذه الحالة القاتمة إلا التصاقا بالوطن الشمولي الواحد الممتد من الخليج إلى المحيط .. أعرف .. كلامي هذا سيضحك الكثيرين ، وسيقول قائل : ما زلت على نغمة الوحدوية القديمة التي أطلقها القوميون العرب وتوسعت أكثر في درجتها الصوتية مع بزوغ نجم جمال عبدالناصر والمد القومي العروبي الذي تم بقيادته . ما زلت أيها العروبي البائس تحلم بما ليس بالإمكان .
وما الضير أن لا أحلم ؟! وأنا العربي البسيط الذي سرقوا ونهبوا منه كل شيء حتى أبسط أحلامه كإنسان قبل أن يكون عربيا أو مسلما أو مسيحيا أو ما شئت له من النعوت ..
الحلم هو آخر طيف يمكن أن اتمسك به كعربي نهبت كل حقوقه ، وما يمت له بصلة من أمس وحاضر وغد ، وسلبت كل آماله ، وأجهصت غالب أحلامه حتى لم يعد ما يمسك به إلا خيط دخان وغبار .
وفي صدام حسين رأيت أجمل أحلامي العروبية . أنا التشريني الميلاد .. في صدام حسين رأيت الطريق واضحا إلى القدس .. إلى فلسطين .. إلى كل شبر عربي مغتصب .. بعدما ضربت عصا الإرادة بحر اليأس وفتحت فيه طريقا لعبور الفجر والغضب الساطع الزاحف بملايين الأحرار .
كان صدام حسين التجسيد الأروع لكل ما أتمناه وأتطلع إليه كعربي قومي بعروبة نقية وخالصة ومتعصبة لكل مفردات وجودها حتى النخاع .
وإن كانت من بداية لهذا النضال ففي جمال عبدالناصر رأيت بداية الطريق ، وفي صدام من بعده أبصرت التكملة .. التكملة التي لولا الخيانات وغـدر المقربين لكانت وصلت بنا وأوصلتنا كأمة إلى أقصى حدود آمالنا الكبرى . لكن .. وآ أسفاه . ضاع كل شيء !!
أذكر يوم صـرّح رحمه الله وطلب من دمشق وبيروت فتح الحدود لعبور جنوده : أعطوني حدودكم لأسبوع واحد وسأحرر كل فلسطين . يومها كنت أسعد مخلوق تمنى هذه اللحظة الغالية . أخيرا سنحارب . أخيرا سنذهب إلى القدس وسنصلي مع الرفاق في الأقصى الشريف . أخيرا ستخفق راية النصر في يافا وحيفا والخليل ورام الله وبقية الأرض المقدسة . فالطريق إلى فلسطين والنضال مع إخوة الدم والسلاح والمصير شرف ما بعده شرف والاستشهاد في سبيل قضية واضحة وهدف واضح ومحدد ، غاية كبرى يتمناها كل مسلم ، عربي كان أم أعجمي .
ولكن التخاذل الذي حصل بكل أسف من الأشقاء بدد الحلم ، فانكسرت الروح ، وانكفأت إلى أحزانها وهمومها وجراحها النازفة وهزائمها المتلاحقة ، التي ما فتأت تتكرر بسيناريوهات عدة ، ومخرجين جدد ، وجدوا الظروف مهيأة والأجواء مفتوحة والأرضية شاغرة لصنع لعبة جديدة وطبخة جديدة بالمنطقة وللمنطقة خصوصا وأن الكومبارس الغبي من الأنظمة الحالية الضعيفة المسخرة والخاضعة مثل حجر شطرنج لهوى ترامب ورفاقه ــ كل هذا يفي بالغرض المأمول منه ويمكن للقوى العالمية أن تقود به وتنفذ من خلال كبشانه وحميره العمياء مخططاتها لخلق شرق أوسط جديد يرضي العاهرة إسرائيل محظية أمريكا بالدرجة الأولى .
كان لموت صدام أكبر الأثر والتأثير فينا كأمة . يوم أعدم بيد الخونة والأمة على صبيحة عيد أضحى ، كنت أبكي بصمت ، وأنشج بروح موجوعة لهذا المصاب والمصيبة . كنت أختنق بأنفاسه الطاهرة الزكية والحبل يلتف حول عنقه الكريمة . كنت أنا الذي يموت خنقا لا صدام . ويوم أعلنوا وفاته ؛ كنت أنا المتوفي لا هو . أنا بكل عروبتي وقضيتي وأحلامي وجيوشي وأوطاني وملايين الملايين من أمتي ــ نحن من متنا جميعا دفعة واحدة .. ومن يومها ذهب كل شيء مع الريح . وما زالت ريح السموم تسفي وتذري بكل شيء يمكن أن تطاله يدها . وها نحن على مشارف سايكس بيكو جديدة ، وبلفور مشؤوم جديد ، ونكبة جديدة ، وحزيران جديد ، أشد من حزيران النكسة الذي صفعنا به عام 1967 .
فكيف تريدني أن لا أكتئب وأن لا ألبس أثواب الحداد السود كعربي مطعون في الظهر والقلب بخناجر الشقيق والعدو والداخل والخارج ؟! كيف تريد مني أن أعيش حياتي كما البهيمة ، لا مباليا بشيء ولا مهتما بشيء ؟! وأنا الذي عشت جـل عمري مناضلا بقلمي دون أن أتنازل عن قضيتي وثوابتي ، ودون أن أرضخ أو أقبل أن أبوس حذاء أحد أو أتقبل واقعا يفرض عليًّ فرضا ، شئت أم أبيت . إن الموت لـدي حينئذ لأعـز من هذا الذل ، وما بالسهولة يموت الأحرار الذين يمشي في عروقهم دم تشي جيفارا وجمال وصدام ولوثر كنج ودلال سعيد المغربي وجميلة بو حريد وعمر المختار وسواهم من الشرفاء الأحرار في العالم . وإن مت فأفضل وأكرم ميتة أتمناها حقا هي أن أموت بشرف وقلمي المناضل في يدي مرابطا على ثغور القضية حتى آخر لحظة للصمود .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
2019/02/25م
_____________________