رحيل آخر الربابنة
ذات صباح معتم ..في يوم جمعة ..شروق غير سعيد .. أمواج تنضح حزينة على شاطيء حزين .. هدوء غير معتاد ..خبر زلزل مسامع اهل الشريجة وكل البلاد..واهل الجزيرة ..ترجل الفارس من صهوة جواده .. وطوى اشرعته من صواريها.. وانطفى سراج الظلام .. تظلك رحمة الله جدي العزيز في نعيم جناته..مع المخلصين الابرار .. سافر سريعا …شبيه الريح والسحاب.. أحتواه ظلام الفقد مساء هذا اليوم الاسود .. الألم تغلغل في أركان الجسد وتفاصيله الدقيقة.. كعادته..كما تغلغل صبر السنين .. أتعب العيون من دموع الفراق .. أرهق ذاكرتنا بمغامراته....أين بقايا حكايات زمن الطيبين ..لم يتبق منهم أحدا ..بغيابه.. رحل آخر رجال هذا البحر وربابنته ..رحل آخر شجعان هذا البحر.. سافروا جميعا .. لحق بركبهم..رغم ريح الشتاء ..تحرك السفين ..تبدو اليابسة ضئيلة في عينيه .. لم يلتفت خلفه كثيرا .... يوم لم يعرف غروب..بحريسكنه موج صامت..وضجيج نوارس سكنت دفء شاطيء حزين ..تناثرت شبه نائمه.. أين أنت من هذا البحر..أتعبت هذا البحر .. كما أتعبك من قبل كثيرا ..لم يكسرعزمه وهمته.. عرفته أمواج الزمن البعيد .. أكتفى في أيامه الاخيرة تأمل شواطئه من نافذة المنزل الضيقة.. ترمق طواف اشرعة ملهوفة.. يحثها حنين خليج حزين.. وتحدها امواج غريبة.. جاءت عابرة من وراء البحار والمحيطات... تصدح باناشيد البحارة الغائبين ..لم يتبق منهم الا هياكل.. طمرت في قاع المحيط .. غارقون في لجة هذا البحر الغاضب..منذ زمن بعيد.. يتلاعب التيار ببقايا عظامهم المتناثرة .. نتذكر يوم الاعصار ..تلاشت شجاعته.. تكسرت شيئا فشيئا..نتذكر ايام الصبر.. والأساطير المدفونة في تلك الاعماق .. والطوفان.. رغم قلق المرض.... تماهت قصص بطولاته بين صفحات البحار .. ربان يعبر محيطات زمن غابر .. اجهد كثيرا بسبب مغامراته في صقيع هذا المحيط .. ومجاديف صبر حطمتها اعاصير امام صخور عزمه .. لا تعرف الكلل .. مثل اعلى بين اقرانه .. تقف كالصواري امام عين الريح والاعصار ..كشراع تتلاعب به عواصف البحار .. تتقن فنون الصبر والملاحة .. واساليب التحدي .. عرفوه احفاده وذريته كان قدوة حسنة .. سطر اسمه على جبين هذا الزمن.. تذكار لا يتكرر..حملوا لواءه خفاقا بسماء تاريخه .. حملوا عصاته البالية .. جوانبها متآكلة بفعل انامله البيضاء السخية .. اكتحلوا بنور جبينه المسافر الى السماء .. لم يفارق ابراجا وصروحا في قلوبنا .. لم يبرح عنا طرفة عين .. نحفظ ابجديات اسمه.. ودموعه الغالية ..لفقد توأم روحه ..فلذة كبده .. ورفيق سفره في ظلمات الليل.. كرحيل آخر ربابنة هذا الزمن الممل .. آخر رجال هذا البحر الاسطوري.. تتساقط أمام صفحة وجهه الشامخ .. زاخر بالجود والعطاء.. احتسى فنجان قهوته قبل الغروب ..نسمع صدى حكاياته مع هذا البحر ..لا تزال تتذكر انها يوما ما جلست بالقرب منه.. وحيدة بصبرها .. مكابرة على الم الفراق .. شقية زمان بربري.. ضحية أنواء لم ترحم ..كما نتذكر نحن أنه هي كانت قريبا منه..كساعده الأيمن .. كنور بصره ومقلتا عينيه ..سبقه قرة عينيه.. رحل مع القدر سريعا .. لم يبق الا حلما يراوده في بعض الاحيان .. يرمق بعينيه تختزل سؤالا .. لايزال صغيرا .. سيلقاه حتما يوما ما ... لا يزال يدور في حلقة ذاكرة ابدية .. كاسمه الازلي .. رغم مرضه السريع .. وسفره السريع ..تكوم في شرنقة صبره.. لم ترحم الوحدة سنوات عمره..يتاملنا بعيون مكلومة .. منهكة بجحيم الانتظار والتأمل في عيون الغرباء ..يبحث عن شيء ..عن ملاك سماه "عبيد".. صمت يحمل كلمات وحروفا ليس لها حدود .. تركنا احفادا تائهون ..نبحث.. نسأل.. يتردد صداه في المسامع كل صباح .. مرسومة ابتسامته على صفحة الشمس كلما أشرقت على مياه خليج دافيء.. نعشق الجلوس بين يديه .. علق في ذاكرتنا ..أحتوته لجة هذا البحر الهائج .. ها نحن اليوم بعيدون عنه.. لم نهنأ بعد .. لم ترو ضمأنا بعد .. سرقنا الزمان والمكان .. اخذتنا الاسوار العالية والقمم البعيدة .. تتلاطم امواج الليل على جدران الوحدة .. ورياح الغياب .. تعرفنا نجوم السماء .. لانك علمتنا صبر الرجال .. وعزم الاحرار .. لن نرضى بغير ذلك .. لن نقنع..لن نساوم أبدا.. هذا قدر مكتوب.. سنبقى أبناءك و أحفادك الاوفياء لوصيتك الخالدة .. لقدرك وشموخك..نعدك نبقى يد واحدة ..لن تخذلنا السنين .. خالد أسمك في أعماق الروح .. كهذه القمم الشامخة .. منذ الازل .. لن تبهرنا بريق النجوم.. لن تغوينا نرجسية مقيتة .. أندحر الظلام .. أنبلج نور في الافق البعيد.. لا تأبه كثيرا..رغم الصمت .. منذ عرفناك .. اينعت بذورك في أرواحنا سنابل حب وحرية.. رغم طول الانتظار.. وسنوات الأمل.. ومواسم الاحزان .. نقبل رأسك الطاهر..بنفس موجوعه.... ليس بقريب .. كما أنه ليس ببعيد ....لك البشرى والمجد .. لك الحب والسلام .. جدي العزيز.. لم تغب عن قلوبنا بعد .. رغم النزق من صرخة تلك الوحيدة ..(غاب أبي.. سعيد بن عبيد)..رحمك الله واسكنك فسيح جناته.. مع الخالدين والابرار...لا زال صداها في الاذن ..يتردد ..كترنيمة سلام..كهدير هذا البحر المتلاطم ..نام بسلام .. سيبقى أسمك خفاقا كسارية علم .. كنجم المجهاة في سماء هذا البحر ...
بدموع قلمي/ ناصر الضامري