...الموت بداية الحياة..
في عمر الزهور..لم تكمل ربيعها الخامس والعشرون..حتى انقلبت حياتها الى صيف شديد الحراره..يملأه غبار الرذيله..ووحل الكبائر..وقفت في زنزانة السجن..ترقب السجينات من حولها..وقد اصطففن لاداء الصلاه..
منظر غريب..ماعهدته قبل اليوم..
جلست ترقبهن بدهشه..ماذا عساها هذه الحركات تكون.؟؟.
يكاد قلبها يقفز فضولا لتعرف ما نهاية هذه الطقوس..
وعند انتهاء الصلاه..اقتربت من احداهن تسألها ماذا كنتن تفعلن؟؟
اجابتها السجينه بدهشه..أولستي مسلمه؟؟
اجابت :بلى .. انا كذلك..
باستغراب ملأ عيني السجينه وبدهشه ظهرت معالمها على كل ملامح وجهها..
مسلمه ولا تعرفين الصلاه؟!!!!
الصلاه..لا ..لا اعرفها..ولم ارها من قبل..
تبلغين هذا العمر ولا تعرفين الصلاه..؟!
موقف لن يفسره الا سرد حكايتها..
اجتمعن السجينات حولها..
كل واحده منهن..تريد تعليمها شيء من الدين..منهن من تتبرع لتعلمها الصلاه..واخرى من تسابق لتحفظها بعض آي القران..واخرى تفسر لها بعض امور العقيده..وتشرح لها كيفية الغسل والوضوء...
ويبقى السؤال...
من اي جئتي؟ كيف نشأتي..وانت لا تدركين شيئا من امور دينك؟
اين اهلك وذويك؟
واسئلة شتى لا تطرح عنها غبار الدهشه الا بداية الحكايه...
سيل من الدموع رافق حشرجة الحناجر..
وتمتمات القصه..
انا وحيده ابواي..ولكن للأسف ..مارأيت ابي يوما الا نائما او غائب الوعي..لا يدرك من الدنيا الا الطعام والشراب..فهو لا يفيق من سكرته الا نادرا..لا تجمعنا مائده..ولا ينشأ بيننا حوار..اظنه حتى لا يذكر اسمي..
اما امي ..فهي بين رجل وآخر..دائمة الخروج..وان كانت في المنزل..فهي في غرفتها المغلقه..التي غالبا ماكنت اقف على بابها شوقا لصوت امي..الذي كان يصلني وهي تتحدث في الهاتف مع هذا وذاك..
فكل ما تسترقه اذني هو كلمات حب وغرام وتأوهات غريبه ..لم اكن اعيها الا لاحقا..
لم ادخل المدرسه..فوالداي مشغولان عني بلهوهما..كل واحد منهما غارق حتى الثماله في معاصيه..
كنت ارى الرجال يدخول الى البيت ..وبالاحرى الى غرفة امي ..
لم اكن على يقين بما يحدث..ولم يكن عقلي الصغير يسعفني لتخيل ما يحدث وراء تلك الاصوات التي تغمر اذناي..
كبرت وانا على هذه الحال..وفهمت حينها ما كنت اجهله..
ليس لي صديقات..وبدا الطريق جليا امامي..فقد كانت خطى امي اثرا اقتفيه..ومرت الايام وانا اتنقل بين هذا الرجل وذاك..وكأنها وظيفه شاغره..اجني منها ما ارغب من المال..وقبل سنتين تعرفت على خمس اصدقاء ..وكنت انا ملهاهم المتنقل..كان لهم استراحه منعزله في طرف المدينه..نقضي فيها ليالي الانس والمرح..الليالي الحمراء كما كانوا يحبون ان يطلقوا عليها..
كنت اعرف كل غرف الاستراحه وزواياها وماتحويه..
وفي تلك الليله التي لا اظن ان ذاكرتي تمحو ادق تفاصيلها..
بدأو بالشرب..وثمل الجميع الا انا التي كنت اخدمهم..وامرح بينهم..
وقبل ان اسكب كأسي الاول ..وقف واحد منهم يترنح امامي..وبيده كأسه المنتصف..وقال بعلو الصوت..
تعالي الي فأمك لم تشبع رغبتي ليلة البارحه..
هنا دارت بي الدنيا..ولم ارى امامي الا ذئب متوحش..اقسم على موته..
لم اتوقع يوما ان يجمع رجلا واحد بيني وبين امي..رغم اني على علم بماء المستنقع الذي تسبح فيه والدتي ..الا ان سماعي لهذا..بدا كرصاص اخترق صدري..
فمضيت مسرعة الى غرفه في الاستراحه كان يحتفظ فيها الشباب بعده الصيد..واتيت بالبندقيه..لأفرغ ما تحويه من رصاص في رأس ذاك الوغد..ولم افق من صدمتي وانا اراه مجندل امامي ..غارق في دمه..الا على صوت الشرطه وسياره الاسعاف..التي كان ضجيجها يملأ المكان..وها انا ذا بينكن .. انتظر موتي..ولكن استحلفكن بالله..ان تعلمنني امور ديني..عسى ان القى الله على توبه..فوالله ليس لي من الامر شيء..مشيت على الدرب مغمضه العينين..ولم ادرك النور الا هنا..فوالله اني لأحمد الله على جريمتي..فلولاها لما عرفت الله...ولغرقت حتى الموت في معصيته...
واختلطت دموع توبتها..بدموع الاسى..والندم..ودموع انتظار السيف..
وتمر الايام وهي تتنقل بين هذه وتلك ..تتعلم امور الدين والصلاة ..ادمنت القران..الذي كانت تحفظه من السمع مرتين او ثلاث..رفضت ان تتعلم القراءه والكتابه ..مخافة ان يدركها الموت قبل حفظ كتاب الله...لم تفطر يوما واحدا منذ تلك اللحظه..
وجاء اليوم الموعود..وحُملت الى ساحة القصاص..وبسمتها لا تفارقها..ولسان حالها يقول..اليوم القى الله على طهارة وصفاء..تائبه منيبه اليه...
رحلت وخلفّت ورائها قصة الموت بدايه الحياة..
رد مع اقتباس
