الفصل (٢)
من تمام الصحة.. للسرطان
طبيبة أنا... وأم لطفل ذي ثلاث سنوات... وحامل في الشهر الثالث..
وقبل أسابيع...كان يوم ميلادي الثلاثين...
بدأت القصة بكتلة صغيرة.. لاحظتها مع بداية حملي ولم أعرها بالاً في البداية.. ثم قررت أن أسأل عنها طبيبة الولادة فأحالتني لجراحة الثدي وهي ضاحكة تقول: "بالنظر لعمرك ولكونك حاملاً...فأنا متفائلة.. لكن....فقط...لنتأكد"
وعند جراحة الثدي لم تقل الطبيبة كلمة واحدة على عادة الجراحين.. كل ما قالته: "لنعمل أشعة صوتية"
كانت المخاوف تتزايد كل يوم وأنا أستعيذ بالله من الشيطان... لكن المخاوف ذات يوم أخذت منحىً آخر... تحولت من مجرد مخاوف إلى خيالات أليمة...
الرحيل عن زوجي وابني....من سأعهد للعناية بهما؟... كنت أفكر من من بين صديقاتي يمكن أن أزوجها لزوجي... لتعتني بابني بعد رحيلي.. من هذه التي أثق بها هذه الثقة؟... كان تفكيراً مؤلماً صاحبته الكثير من الدموع.. ولم أستطع أن أشارك به أحداً لأنه بدا لي سخيفاً وغير منطقي... ولكنني عشت ذلك الجو لفترة..
ذهبت لموعد الأشعة في يوم من أيام العمل وفي نفس المستشفى التي أعمل بها... ذهبت وتلقيت الخبر من طبيبة الأشعة: " هذه ليست مجرد حويصلة. هناك كتلة في أحد جوانب الحويصلة.. أنا لا أستطيع التكهن بما يمكن أن تكون. يجب أن نأخذ عينة ويحب أن نتعجل.. تعالي بعد غد لأخذ العينة"
في تلك اللحظة التي نزل علي فيها الخبر ثقيلاً ثقل الجبل...دق البيجر يخبرني أن حالةً في الطوارىء تنتظرني لأقيمها..
حبست دمعي .. وكبتت مخاوفي ..وأسرعت للطوارىء لمعاينة الحالة..
كان المريض يتكلم.. وأنا.. في عالم آخر..
لم أكن أفكر تحديداً في ما قاله الطبيب.. كنت فقط أتحسس ثقل الهم في قلبي وأتمتم: " إن شاءالله.. خير"..
سريعاً جاء موعد العينة... ومن يومها.. ولأني أعمل في نفس المستشفى كنت أبحث عن النتيجة في نظام المعلومات كل عدة ساعات.. مع العلم أن موعدي مع جراحة الثدي لمناقشة النتيجة بعد 5 أيام..
كان ينتابني إحساس غريب وأنا أترقب النتيجة..
كنت أشعر بعمق أن هذا سرطان...شكله في الأشعة...إحساسي به....الرسائل التي كانت تأتيني من غير مبرر.. كأن أفتح التويتر بعد انقطاع أشهر فلا أجد إلا رسائل الدكتورة سامية العمودي لمريض سرطان الثدي.. وكيف واجهت السرطان.. وكيف أخبرت عنه أولادها..
لكني كنت أكذب نفسي... وأحاول أن ألزم التفاؤل وأذكر قول الإمام علي" إني لأحسن الظن في الله فإن كان خيراً فبفضل الله وإن كان غير ذلك فقد عشت بالتفاؤل زمناً"
ثم جاء يوم الجمعة.. يوم موعدي مع طبيبة الجراحة.. بعد مرور الصباح على المرضى... والذي استمتعت به فعلاً مع حالات جديدة ومميزة..
ذهبت لغرفة المناوبة.. لأنظر للنتيجة.. و لوهلة قلت: " يارب.. تخرج".. ورأيتها..
من فرط الخوف.. تشابكت الأسطر أمامي.. لم أعرف من أين أبدأ قراءة التقرير.. قرأت في المنتصف.. لم أفهم شيئاً...فطرت بعيني للأسفل.. ورأيت ما فاق توقعي
" Invasive ductal carcinoma Stage 3/3"
سرطان متعدي.. من الدرجة الثالثة (أسوأ درجة واسرعها انتشارا)
تزغللت الكلمات أمام عيني... وسمعت صوتاً.. تبين لي أنه صوتي...
كنت أقول بصوت عالٍ " شكراً يارب.. الحمد لله.. الحمد لله ...الحمد لله"...
بعد دقائق من الترديد بلا تفكير.. وأنفاسي تتسارع.. وقلبي ينبض بجنون.. بدأت عيناي تذرفان.. لماذا؟ لست أعرف.. فيم كنت أفكر؟ لا أعرف..
كل ما أتذكره من تلك اللحظة هو صوتي يردد: "الحمد لله".. ممتزجة بشهقات بكاء ٍ عالية.. ونفسي المتسارع...
بدأت أفكر.. هذه نهاية زمن "نور" الصحيحة السليمة القوية.. هذه بداية حقبة أخرى... لا أعرف كم ستستمر ولا متى ستنتهي...
اتصلت بزوجي.. فلما رد قلت بهدوء: "كيف حالك حبيبي؟"... "النتيجة طلعت".. "أحتاجك"..
لم أقل أكثر... ولم يطلب هو مني أن أقول أكثر... قال لي :"سآتي الآن" وأغلق الخط.. وأشكر له ذلك.. فلم أكن لأقدر أن أنطق بالتشخيص...
كانت الساعة عندها 12 ظهراً... ومن فضل الله ومن غير المعتاد أن تكون غرفة المناوبة فارغة ً في مثل هذا الوقت... وقد استغللتها أحسن استغلال... استمريت في الحمد.. ثم تذكرت الدعاء: " اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها" ... وعدت للبكاء والحمد..
أذكر تلك اللحظة الآن وأشكر الله عليها بعمق.. أشكره أن أنطق لساني بالحمد بغير إحساس مني.. فأنا لم أفعل.. بل هو الذي فعل... أشكره أن أعطاني هذه الفرصة لأتلقى الخبر وحيدة.. في غرفة مغلقة.. حيث أستطيع البكاء و"النحيب" بغير أن يراني أحد.. ولو تأخرت النتيجة ساعة واحدة لاضطررت أن أتلقاها في عيادة الطبيبة.. في وجود الطبيبة أمامي تقول لي "أي كلام".. لتخفيف الموقف..
جاء زوجي.. فتلقيته من باب المستشفى.. ابتسمت وقلت الحمدلله وسرنا بضع خطوات.. وبعد ثوانٍ سمع نحيباً واحتضنني.. وبقيت أنتحب وأنتحب..
من تلك اللحظة وحتى جاء الموعد.. أفرغت خزانة دموعي.. فذهبت للموعد وليس لدي المزيد من الدموع..
دخلت الطبيبة مبتسمة: "كيفك؟".. "كيف الحمل؟"..."كيف الغثيان؟"..."كيف كان استئصال العينة؟".. مقدمات تلطيفية..
"حسناً.. لدينا الآن جواب واضح"...فبادرت بالرد: "أعرف.. قرأت التقرير"
فأجابت مندهشة: "تعرفين؟" فرددت مبتسمة:" وفرت عليك عملية نقل الخبر السيء" (breaking the bad news)
فقالت: " أوه كم أرحتني.. كنت قلقة ولم أدر كيف سأخبرك!" .. "حسناً يجب أن نتحرك بسرعة.. لدينا الآن هدف عاجل أن نقضي على هذا الورم.. ولدينا الكثير من القرارات لنعمل عليها"
وبدأت بإخباري كل التفاصيل والعلاجات وكل الخيارات المريرة.. التي سقطت علي كقذائف متتالية..