( الفصل 2 ) :
الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف.. وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ، وبالراحة للعمل الطيب.. ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى، ويدنا وهي تكتب خطاباً.. فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية، والحركة الثانية حرة اختيارية.. ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة
ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط.. فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها.. ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار، وأنه فطرها حرة
ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك، طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) آيه 106 سورة الاسراء
والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة ان بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة، وانفراد بالأمر، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره، ويحكمون كحكمه، وهذا ما فهمته أنت أيضاً.. فقلت بتعدد المشيئات.. وهو فهم خاطئ.. فالحرية الإنسانية لاتعلو على المشيئة الإلهية.. إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة.. الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه"، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته.. وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية
وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة.. وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره.. ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً
إن حريتنا كانت عين مشيئته.. ومن هنا معنى الآية: ( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ) 30 سورة الإنسان
لأن مشيئتنا ضمن مشيئته، ومنحة منه، وهبة من كرمه وفضله، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه.. والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره.. فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه
والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير.. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً.. وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة: ( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) ايه4 سورة الشعراء
***********
والمعنى واضح .. أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل .. لأنه ليس في سنتنا الإكراه..
(لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ايه 256 سورة البقرة
( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )ايه 99 سورة يونس
ليس في سُنة الله الإكراه .. والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم .. وإنما على العكس.. الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته .. ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية ... تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته ..
( مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا ) ايه 20 سورة الشورى
(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ) ايه 10 سورة البقرة
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ) ايه 17 سورة محمد
وهو يخاطب الأسرى في القرآن:
(إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُم ) ايه 70 سورة الأنفال
الله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب .. إن شراً فشر وإن خيراً فخير.. ومعنى هذا أنه لا ثنائية .. التسيير هو عين التخيير .. ولا ثنائية ولا تناقض..
الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا..
(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ,وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)ايه 5 سورة الليل
(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) ايه 17 سورة الأنفال
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.. والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة..
![]()