باب فضله وبيان من فرض عليه
664- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » .
هذا الخبر متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحـمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن سُمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الإمام مسلم رحـمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن سُمي به ، ورواه الإمام أحـمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والبغوي في شرح السنة والبيهقي في السنن الكبرى .
قوله : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما » :
المراد بذلك الصغائر عند جمهور أهل العلم فإن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة .
والحديث دليل على مـشـروعية الاستكثار من العمرة لأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والله يـقـول : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} . ويقول : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } . ويقول جل وعلا : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} .
وجاء في جامع الترمذي من حديث عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والحديد والفضة » . وقد حسن هذا الحديث أبو عيسى رحـمه الله .
وقوله : « تابعوا بين الحج والعمرة » :
فيه مشروعية تكرار العمرة في السنة أكثر من مرة ، خلافاً لبعض الفقهاء المالكية فإنهم يكرهون في السنة أكثر من مرة ، ويقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم لـم يعتمر في السنة أكثر من مرة ، والحديث حُجة عليهم ، وأما كونه لم يعتمر في السنة أكثر من مرة فهذا لا يعني عدم مشروعية الاعتمار في السنة أكثر من مرة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم رغب أمته في العمرة وحـثهم عليها وندبـهم وبين لـهم فضلها ورغبهم بالاستكثار منها ، وفعله لا ينافي قوله فهـوكان مشغولاً بأمـور المسلمين الخاصة والعامة ، وما هو فيه أفضل من العمرة فكذلك المرء المسلم إذا كان له عـمـل من تعلم وتعليم ونحو ذلك فإن هـذا يـقدم على العمرة . والمسلم الحاذق الذكي يقدم الفاضل على المفضول .
وقوله في حديث عبد الله بن مسعود : « فإنـهما ينفيان الفقر » :
في هذا دليل على أن الاستكثار من الحج والعمرة من أسباب جلب الرزق والغنى ودفع الفقر ، وهناك عبادات كـثيرة تـجلب للـعبد الـرزق وتـدفـع عنه الفقر فمن ذلك الاستغفار قال تعالى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُـمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَـجْعَلْ لَـكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)} .
ومن ذلك أيضاً صلة الأرحام وبر الوالدين فقد جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحـمه » .
قوله في حـديث الـباب : « والـحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة » :
قال الإمام ابن عبد البر رحـمه الله : " الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق وخرج بمال حلال " . وهذا تعريف جامع لخصال وأفعال الحج المبرور ، فمن حج رياءً وسمعة فهذا حجه مأزور غير مبرور وهو إلى الإثم أقرب إليه من الـتـقوى ، وهـذا العبد المسكين قد تزود من الآثام وارتدى شعار أهل الرياء والنـفـاق والسمعة ، فليس له من حجة سوى إنهاك البدن وإذهاب المال ، نسأل الله العافية والسلامة .
* ومن شــروط الـحــج الـمـبــــرور :
أن لا يكون في حجـه رفـث ( وهـو الجماع ) ولا فسوق : لقول الله جل وعلا : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } .
أن يكون المال حلالاً : فإن الحج بالمال الحرام كالربوي والمكتسب عن طريق بيع المحرمات من دخان ونحوه فإن هذا المال وبال على صاحبه ، وهو من أسباب منع قبول الحج ، كما إنه أيضاً من أسباب منع إجابة الدعاء ومنع القطر من السماء ، وفي صحيح الإمام مسلم من حديث ابن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث وفيه : « ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له » .
وفي الحديث دليل أيضاً على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان كما هو قول أهل السنة قاطبة .
وفيه دليـل على أن الأعمــال من أسبــاب دخــول الجنـــان فقد قــال تعـالى : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} .
665- وعن عـائشـة رضي الله عنهـا قـالت : يا رسول الله ، على النساء جهاد ؟ .
قال : « نعم ، عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة » .
هذا الخبر رواه الإمام أحـمد في مسنده وابن ماجه في سننه من حديث محمد بن فضيل عـن حبيب ابن أبي عمرة عن عائشة بنت أبي طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها .
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه حدثنا عبدالرحمن بن المبارك قال أخبرنا خالد بن عبدالله الواسطى عن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت أبي طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهـا قـالت : قـلت للنبي : نـرى الـجهـاد أفضل العمل ، أفــلا نجاهد ؟ قال : « لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور » .
وقد تقدم شروط الحج المبرور بكلام ابن عبد البر رحـمه الله .
والحج المبرور أحد أنواع الجهاد فإن الجهاد ليس مقصوراً على جهاد السنان، فطلب العلم من الجهاد ، والحج المبرور من الجهاد ، وقمع النفس عن ملذاتها المحرمة نوع من أنواع الجهاد ، والاصطبار على الطاعات نوع من أنواع الجهاد ، فإن تعطل جهاد السنان فإن جهاد اللسان لم يتعطل من الأمر بالمعروف والنهي عـن المـنكر والـدعوة إلى الله بالتي هي أقوم .
قولها : [ هل على النساء جهاد ؟ ] :
تريد بهذا : جهاد السنان ، فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء لا يجاهدن بالسيف والسنان ، فإن هذا من خصائص الرجال ، فإن الـمرأة قد جبلت على الضعف ، فلذلك لا تجاهد بسيفها ولا بسنانها ولكن لا مانع أن تخرج مع المجاهدين لمداواة الجرحى وبذل ما يمكن بذله لـهم .
وقد اختلف العلماء رحـمهم الله في حكم الـمرأة لو جاهدت ، فقال بعض أهل العلم : لا مانع من هذا فقد جاهدت عائشة وأم سلمة وام سُليم وأسماء بنت يزيد حتى قيل إنها قتلت تسعةً من الروم . واصحاب هذا القول حملوا حديث الباب على عدم وجوب الجهاد لا على منعه .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الـمرأة تمنع من الجهاد في السنان ما لم تضطر إلى ذلك ، لأن جهادها يؤدي إلى كشف عورتها وإلى مزاحمتها الرجال وأصحــاب هذا القول قـالــوا : جهاد الـمرأة الاستكـثــار من الحج والعمرة لقوله : « عليكن جهاد لا قتال فيه » . الرواية الأخرى : « ولكن أفضل الجهاد ، حج مبرور » .
وقوله : « عليهن جهاد لا قتال فيه » :
احتج بهذه الرواية جماعة من الفقهاء على وجوب العمرة وبه قال الإمام أحـمد وجماعة من أهل العلم .
وذهب آخرون إلى أن العمرة مستحبة غير واجبة وإنما الواجب الحج ، وقد دخـلت العمرة بالحج إلى يوم القيامة . وهذا قول الجمهور .
وقد استدل كل فريق من هؤلاء الأئمة بثلة من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب ، ولكن لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب حديث صريح .
وقد روى الترمذي رحـمه الله في جامعه عـن أبي رزين وصـحـحـه أنـه قـال للنبي ( : يا رسـول الله ، إن أبـي شيـخ كـبـيـر لا يستـطيع الحـج ولا العـمـرة ، فقال له الـنبي صلى الله عـليه وسلم :« حج عن أبيك واعتمر » .
وقد احتج بهذا الإمام أحـمد وطائفة من فقهاء الشافعية كما هو مذهب ابن عمر وابن عباس على وجوب العمرة ، وفي هذا نظر ، لأن قوله ( : « حج عن أبيك واعتمر » يريد بذلك الترخيص بالحج والاعتمار عن العاجز وليس المعنى إيجاب العمرة ابتداءً على من لم يعتمر ، ومن تأمل سياق الحديث تبين له ما ذكرنا وأن الحديث إنما سيق لبيان جواز الاعتمار عن العاجز لا غير ، ثم إنه ليس بصريح في وجوب الاعتمـار عن العاجز والله يقول :{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . فالاعتمار إذاً عن الغير من المستحبات لا من الواجبات .
وفيه دليل على فضيلة الاستكثار من الحج والعمرة ، وفيه دليل أيضاً على أن الجهاد من أفضل الأعمال ، لأن الرسول ( أقــر عائشــة بقولها : نـرى الجهاد أفضل الأعمال .
وفيه دليل أيضاً على فضل عائشة حيث سألت عن أفضل الأعمال تريد بذلك العمل والتطبيق ، فإن العبد لا ينجو من عذاب يوم القيامة إلا إذا عمل بـما علم ، وأما علم بلا عمل فكالشجرة بلا ثمر لا ينفع صاحبه ولا يغني عنه شيئاً .
يتبع