& في المستشفى وكما في الغربة والحياة حين ترقد على سرير العلاج في جناح المرضى تكتشف نفسك أنك تتقاطع جسديا ونفسيا وذهنيا وروحيا وزمانيا ومكانيا مع بقية المرضى الذين في الجوار ـــ تتقاطع وتلتقي معهم في شيء واحد إسمه ( الألم ) . نقطة الألم هذه هي التي تتلاقى عندها وفيها كل خطوط الراقدين بهذه الأســرَّة لكن بدرجات مختلفة وبظروف وأشكال عديدة مختلفة أيضا .. ومن هنا لا غرابة أن يسألك الذي بجوارك هذا الســؤال :
لـقـطـات للحـيـاة من رحـلـة الألـم
ـــ سلامات أخي . ما عندك ؟! لماذا أنت هنا ؟!
وقد يُغني مرآك المرضي عن طرح أي سؤال مهتم .. لكن الطبيعة البشرية بما جبلت عليه من فضول ورغبة تجدها تطرح هذه الأسئلة وقد تطرحها بهذه الطريقة :
ـــ سلامات . كيف صار لك هذا ؟!
وإن كنت تجد أنسا وارتياحا مع هذا الذي يجاورك بسريره فحتما ستفتح له قلبك وتفضفض له بما حصل عندك أو بما قادك إلى المشفى .. في المستشفى تولد جسور أخرى جديدة للتعارف وللتواصل مع العالم .
&& في ليل المشفى .. بعض الآلام لا تنام ولا تهدأ أبدا .. تسمع فجأة آهة أو صرخة أو أنينا فيطير النوم من عينيك ،وتتسرب إلى قلبك أحاسيس شتى متأثرة ترافقها أدعية قلبية تخرج من أعماق نبضك وقد تبكي في صمت بدون أن يرى أحد دموعك .. الله يكون في عونك أخي .. شفاك الله وعافاك .. في إنسانية الألم تذوب كل الفوارق بيننا كبشر رغم أننا لا نعرف بعضنا بعضا ومن أوطان وأصقاع شتى .
&&& طوال فترة " ترقيدي " بالمستشفى كانت ثمة ممرضة من الهند مسيحية الديانة وذات ملامح ساحرة كانت تأتي إليَّ في فترة نوبة دوامها .. تجلس بجواري .. كانت تستغرب من الكتب التي لا تفارق سريري والتي يحضرها لي إخوتي وأصدقائي .. تدهش من سهري اليومي ليلا .. كنت أسحب نحوي طاولة الطعام الصغيرة الفارغة السطح وأضع عليها أوراقي كمن يزرع ورودا وشتلات زهور وأبدأ بعرس الكتابة .. تطلب مني هذه الممرضة الجميلة وبابتسامة حلوة أن أقرأ لها جديد ما كتبت .. وأضطر أن أترجم لها بعضا مما أحس أنني أستطيع أن أترجمه إلى اللغة الإنجليزية .. كانت تصغي باهتمام وتبدي إنبهارها وإعجابها وتهتف بفرح : أنت شاعر جميل يا سعيد وقد اكتشفت هنا أمرك !!
ونضحك معا .. بعد يوم وفي نوبتها التالية جاءتني ومعها هذه المرة دفتر يوميات صغير حليبي اللون .. وقالت معترفة وهي تبتسم : أنا مثلك في الجنون .. ممرضة نعم لكني أحب الشعر حبا جما بل يكاد الشعر هو حياتي الحقيقية التي أجد فيها نفسي ..
وراحت تطلعني بفخر ببعض أعلام شعراء وشاعرات بلادها الذين أعرفهم أدبيا وأحب شعر بعضهم : شاعر الهند الأعظم طاغور .. آنال فاجباي .. محمد إقبال .. سوهاج كاك .. أمير خسرو .. وغيرهم ..
سألتها إن كانت قد أصدرت ديوانا شعريا فأخبرتني بأن النية موجودة لتحقيق هذا الأمل الكبير إن شاء الله . مع علمي أن المواهب الأدبية في الهند تلقى دعما وتشجيعا كبيرين على المستوى الرسمي والشعبي وهناك مجلات وجرائد ونوادٍ وجمعيات وصالونات ومقاهٍ أدبية تهتم صدقا بهذا الشأن وتسعى جاهدة لدعم الشباب المبدعين من الجنسين .. وعكست هي ذات السؤال عليَّ فأخبرتها أني لم أصدر حتى الآن أي ديوان وقد لا أصدر في حياتي أي شيء .. كنت أتكلم بنبرة حزن عميق لم أشأ أن أفصح بما وراءه وإن كانت بحكم حسها كشاعرة قد رأته في عيني وفي نبرة صوتي .. كان شعاع ابتسامتها البيضاء كافيا بزرع الأمل في نفسي وفي روحي المحطمة حين قالت بثقة : يوما ستصدر ديوانا وسأقرأه لك .. لا تخف .. الرب مع الصادقين دوما وسأصلي لأجلك ..
ما أجمل صدف الأقدار حين تتلاقى فيها جسور ثقافات الأرض في نهر الروح الانساني وبنفس التشابه الجميل للحروف والأحلام .
&&&& فجأة والجناح يغمره الهدوء والسكون طب علينا نحن المرضى رجلا مصابا ملطخا بالدماء .. كان بدينا بعض الشيء وفي أوائل الخمسينيات من العمر .. أدخل العنبر .. كان فقط بإزار وفانيلا تـي شــيـرت بيضاء ملطخة بالدم .. كانت حالته سيئة ويئن .. حين دخل العنبر تم ترقيده بجوار سريري وطوال الوقت منذ دخل وهو يهذي سائلا إبنه المرافق :
ـــ طمني أرجوك . هل الـ f16 بخير ؟!
وشدني السؤال .. فالذي أعرفه أن الـ f16 طائرة حربية أمريكية .. خطر ببالي أنه يقصد بهذه الـ f16 سيارته التي أصيب فيها في الحادث .. ولا أدري كيف تصورتها سيارة بيكاب ذات مقعدين وجاء حدسي في محله .. كانت أعز ما يملك من أشياء وسمعته لاحقا يقول بحسرة : هذه رفيقة عمري .. آااه يا الـ f16 أتمنى أن تكوني بخير ..
في عــز آلامنا يظل تعلقنا بالأشياء القريبة جدا من حياتنا يفوق التصور !!
بقلمي / ســـــعـيد مصــبـح الـغـافـري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ