قبل عدة سنوات كنت أمشي في إحدى شوارع مسقط وإذا بصوت صغير يناديني من خلفي: خالتي.. خالتي!
التفت إليه فإذا هو فتىً صغير قدّرت أنه ما بين الحادية عشرة أو الثانية عشرة، اقترب مني قائلاً: معذرة يا خالتي، فقد رأيتك تشبهين خالتي في العراق فأحببت أن أسلم عليكِ.. نظرت إلى عينيه متفاجأة، كانت تغشاهما غمامة حزن وفقد .. عينين جميلتين مكسورتين تركتاني في حيرة من أمر ردي،، فكلنا يعلم واقع العراق الحزين، العراق الذي كان بالأمس قوياً وثرياً وها هم أطفاله يكبرون بعيداً عنه يجتاحهم الحنين وصقيع الروح أينما يممت عائلاتهم لجؤاً في أقطاب هذا العالم.. ارتجفت شفتاي بالإجابة لأن قلبي أيضاً قد تلعثم، قلت له: وعليك السلام، أحقاً أشبهها؟ أجاب بغصة: نعم.. تشبهينها تشبهينها كثيراً ،، نحن لم نرى أهلنا في العراق بسبب الأوضاع فيها منذ زمن!
مضى إلى حاله ومضيت إلى حالي، أحتمل روحاً لم تعد كما كانت،، هناك شفقة وهناك انبهار، فكيف أننا نحن العرب وفي كل بلداننا العربية إلى هذا الحد تجمعنا الملامح ويجمعنا الحنين! .. ذلك الوجه البريء الذي قابلته في ذلك الشارع، استعدته قبل أيام وأنا أتابع نشرة الأخبار في إحدى المحطات العربية يتحدث عن الشعب العربي .. ذاك الذي خرج متظاهراً ومحتجاً يبحث عن حقوقه ويطالب بها حكومته فكان التنكيل والتقتيل فيه رداً عليه وجزاءً له من قبل العسكر الذي كان من المفترض به أن يحميه لا أن يبطش به.. هناك طفل في حوالي العاشرة من عمره ضرب حتى الموت بأعقاب البنادق الوطنية!
حقاً هي سنين عجاف عرتنا كثيراً أمام أنفسنا قبل العالم، كنا نغني في المدارس ونحن صغار بكل فخار أن بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.. ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطواني!
كنا مخدوعين جداً بقوميتنا العربية المشتركة، فإذا بنا نكتشف أن لا توجد قومية حقيقية حتى بين الشعب الواحد والعرق الواحد .. ها نحن أضحينا بلدان انكفأت تنهش في ذواتها وقد تبعثرت وتطاير غبارها في الشرق والغرب.. كنا نظن أن إسرائيل هي عدونا الأوحد، فإذا بنا نكتشف أن عداواتنا منطمرة في دواخلنا كجذوة نار .. ذات يوم كنت أقود سيارتي وأفتح المذياع على الإذاعة العامة، فإذا بي أسمعها تأتي صريحة وواضحة من قبل المؤرخ الذي صفعنا بمعلومة لم نقرأها في كتب المدارس ونحن صغار، إذ أننا نحن العمانيون أيضاً لم نسلم من غزو عسكري شرس وغاشم قام به بلد خليجي جار ومسلم -مثلنا تماماً- قبل ما لا يزيد عن المئة عام.. فقط!
كانت تحدثنا الجدة يرحمها الله، عن حروبنا الداخلية نحن العمانيين وكيف كنا نعتدي ونتقاتل مع بعضنا البعض، كيف لم يكن هناك أماناً حقيقياً أو انصهاراً قومياً فيما بيننا إلى أن تولى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس يحفظه الله ويرعاه مقاليد الحكم في البلاد فساد العدل وتحقق الأمان وخرجنا في الحقوق والواجبات من عباءة القبليات وأضغانها إلى سيادة قانون الدولة وحق المواطنة فيها. لذا وبعد كل هذه القراءات لما حدث ويحدث في مشرق الأرض لا بد من وقفة إمتنان إلى هكذا حاكم استطاع أن يلم الشتات بيده القوية وما فرط يوماً في دم مواطن وما استخدم القوة لتفرقة شغب وهو مستطيع لذلك بحكم السلطة. إذ أن السلطة في منظوره نبع حنان أبوي و رحمة لا محدودة.
إن ما يحدث اليوم، في بعض أكبر البلدان العربية و أكثرها مهابة ذات تاريخ، لمخزٍ جداً .. إذ تقف عاجزة شاهده بأم العيان على تحللها سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً وقد تهاوت إلى بلدان خانعة تتنازعها النزاعات الداخلية المتطرفة والعداوات الذاتية المبيتة والخيانات الكبرى المتلاحقة يشير ذلك في درسه البليغ على أنهيار مفهوم القومية وحلول مصطلح الفردية في فكر شعوبها قياداتها، رحم الله أوطاناً استحالت غابات وأحراش مخيفة تتمنى شعوبها أن تفر منها لو تقدر!