ماذا فقدنا عندما تخلفنا
للشيخ الدكتور سيف الهادي
قبل يوم من العيد قررت الأسرة أن تزيد على الأضحية مكملا آخر يتم ذبحه قبل العيد، وتلك رغبة ضرورية معنا في عمان، فطرائق طبح اللحوم متنوعة وجميلة، لا يفضل الناس أن تكون متكررة طوال العام، وإنما يحتفظون بذلك للعيد من أجل المزيد من البهجة والسعادة.
فاتجهت إلى مسلخ البلدية ببوشر، فأهدهشني وجود وفد استرالي نشيط، لا يبدو على أصحابه سأم ولا ملل، تذكرت معه تلك الوفود التي تحرس على رعاية الناس في وقت الأزمات، فتسألت لم هذا الوفد النشيط ؟!!، فأخبرني أصدقائي العاملين في المسلخ أن هذا الوفد جاء إلى عمان ليشرف على نقل الخروف الأسترالي من الحظيرة إلى المسلخ، لأنهم شاهدوا فيديو في العيد الماضي يظهر خروفا تم ذبحه بطريقة فجّه، ثم قام يركض والدماء تسيل من منحره، لقد كان الخروف استراليا، فتحركت جماعات حقوق الحيوان، ودقت الشركة المصدِّرة أجراس الخطر، إن الخروف الذي نشأ في مزارعها، لا يصح أن يهان أو أن يعذب بتلك الصورة، إن الله عندما خلق هذا الحيوان، ليس ليكون ذبحه متعة للناظرين، وليس لتكون طريقة الإفادة من لحمة غليظة بذلك المنظر، فاشترطت الشركة هذا العام أن يمنع خروج الخروف من حظائر المسلخ، وأن يتم نقله من الحظيرة إلى الذبح في عربة مهيئة ومريحة، وتحت إشراف الوفد الأسترالي الدقيقة، ويكون الوفد على قسمين: قسم يراقب طريقة الذبح السليم، وآخر يراقب طريقة النقل من الحظيرة. فقلت سبحان الله، إن تجسيد هذه المعاني الرحيمة يعبر عن أوامر شرعنا الحنيف، لقد ساق النبي صلى الله عليه وسلك عددا من التوجيهات للأمة أن تهيئ سكينها قبل الذبح" وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " على أن يتم ذلك قبل أن تضجع البهيمة للذبح فقد رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال : لقد أردت أن تميتها موتات هلا حددتها قبل أن تضجعها " وأن يتم قيادة الأضحية إلى الموت قيادة رقيقة لا ألم فيها ولا دفع ولا استصغار ليرى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلا يَسْحَبُ شَاةً بِرِجْلِهَا لِيَذْبَحَهَا ، فَقَالَ لَهُ : وَيْلَكَ ! قُدْهَا إِلَى الْمَوْتِ قَوْدًا جَمِيلا " وأن يكون الذبح بعيدا عن أنظار البهائم الأخرى "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحد الشفار ، وأن توارى عن البهائم"، إن هذه الرحمة الدافقة ليس لأنها رحمة بالحيوان وحده؛ وإنما أيضا أمر إلهي كريم جعل الإحسان طريقا في التعامل مع كائنات الكون، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته " ولذلك فإن الرجل الذي تغلب الرحمة قلبه، وتشفق نفسه من ذبح البهيمة لا يتم تعييره بالجبن أو البلادة كما يفعل الناس مع أبنائهم، أو إخوانهم، وإنما تبارك تلك الرحمة في قلبه، ويحصل على وعد برحمة الله لأن رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ ، وَأَنَا أَرْحَمُهَا - أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا - فَقَالَ: " وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ " وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ " .
إن الوفد الأسترالي ليس مسلما، ولكنه ينطلق في تصرفاته من تعاليم الإسلام وتوجيهات الديانات السماوية، ويعبر بتلك الصورة عن رغبة الإسلام في نشر الرحمة والإحسان. ولذلك لم أملك أمامه سوى أن أهز رأسي إعجابا بالصورة التي يريدها الله، وبالمشاهد التي تملأ الأرض رحمةً لو تيقظ الناس لأمر الله : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " لقد فقد العالم كثيرا من مظاهر الرحمة عندما تخلف المسلمون عن الإسلام وانتشرت صور تذكر الناس برحمة الله ولكنها على أيدي الذين لا يدينون دين الحق، ليس لأنهم على حق ولكن لأن أفعالهم تعبر عن إرادة الحق، بدأً بهذا المشهد في مسلخ البلدية، وانتهاء بالاستقبال الرحيم للاجئين في أروبا، ليس ليفكر المسلم في تخلفه من بوابة دينه كما يحلوا للملحدين أن يتحدثوا؛ ولكن ليعلم أنه يحمل أسفارا فوق ظهره ولا ينتفع بها، وليعلم أنه لو عاد إلى دينه لعم البشرية الخير والسلام والرحمة والمحبة .
إن المؤسف أن تنتشر في أيام العيد صور مسجلة لمناظر الذبح المشين، يتبادلها الناس نكتة وتسلية بألم الحيوان، ولا يعلمون أنها شهادة على تخلف يعيشه العالم الإسلامي حتى على مستوى ذبح الأضاحي، وأنها دليل إدانة على تخلفهم عن هداية الله.
وبينما كنت أسير - وقد استلمت ذبيحتي - شاهت آسيويا يقود ماعزا صوماليا قودا فضيعا، لا يراعي آلام الحبل التي تلف على عنقه، فقلت: سبحان الله إن الدول التي تعيش تخلفا عن ركب الحضارة لا يكفي أن يتضرر من مشكلاتها البشر وإنما حتى الحيوان والحجر .
ورغم تدخلنا في مشاهد عدة ننادي فيها أن يرحم هذا الحيوان، فإن ذلك وحده لا يكفي ما لم تستيقظ في الأمة نوازع الخير ويستلم العام والخاص الطريق المستقيم لتصبح الرحمة والمحبة والتسامح والقيم الإيمانية كلها ثقافة عامة يحاكم عليها المسلم من جانبين من الجانب الإيماني ومن الجانب الحضاري.
ففي سؤال أهل الذكر وعبر تغريدات عدة نادينا بوقف تناطح الثيران في الباطنة لكن القائمين على الأمر وبعض المعنيين في البلد لا تزال حجب غليظة تردهم عن المعاني الحضارية الرحيمة.