ومضى على هذه الحوادث سنة كاملة ..

وهمسة تكاد تعتكف على حالة بشار ..

والدكتور أسامة يشرف على العلاج ..

بشار بدا في حالة الإعياء التي تصيب مرضى السرطان في حالتهم المتأخرة ..

وصدقوا ..

بأنه ما من ألم في الأرض أجمع ..

مثل ذلك الذي تحسه وأنت ترى أحب مخلوق لك في الأرض يتلوى من الألم ..

ولا تستطيع أن تفعل له شيئاً ..

ليس هناك أبشع من أن تراه في أبشع صورة ..

وأنت لا تستطيع أن تقدم له حتى روحك ولا كيانك لتساعده ..

بكت همسة كثيراً على حال بشار ..

الذي بدا أن صحته تتدهور تدريجياً ..

وبتسارع مخيف ..

يبدو أن العلاج لم يجدي هذه المرة ..

كما لو أن قصة مايا تكتب هذه المرة بحبر الواقع لا الخيال ..

وعلى الرغم من هذا ..

كان بشار كما هو ..

تلك الشخصية التي نعرفها ..

ما زال يعيّر همسة بالنظارة أم خمسة ريال ..

وهمسة أحياناً تبتسم من خلف الدموع ..

وأحيانا تبتسم وهي تدعو الله ألا يفارقها بشار ..

سنة من المعاناة النفسية والبدنية ..

سنة من حروق الحب التي لا يتحملها البشر ..

وتتحملها رغماً عنها طبيبة مثل همسة ..

ليس إلا لأنها طبيبة ..

مهمتها مداوة المرضى مهما كان شعورها ..

مهما كان إحساسها ..

ومهما كان الثمن ..

كانت تحب بشار .. بشيء من الجنون ..

إنها لا تتخيل أن تمضي يوماً دون أن تراه ..

قررت أن تبقى طبيبة عادية على الرغم من أن الفرصة أتيحت لها أن تكمل دراستها في الخارج ..

لأنها تحبه ..





إلى أن أتى ذلك اليوم ..

بشار بحاجة إلى عملية عاجلة ..

يحتاج إلى تغير دم جسمه بالكامل ..

لقد انتشر السرطان إلى أماكن أخرى ..

وأصيب بسرطان الدم ..

وإلى انتزاع ورم وصل إلى القلب يسد الشرايين التاجية التي تغذي القلب ..

مشكلة الأورام الخبيثة .. أنها تنشئ أوراماً أخرى في الجسم ..

ولذلك يصعب التحكم فيها ..

كانت العملية خطيرة ..

وكانت ستتم في تمام الساعة العاشرة صباحاً..







دخلت همسة على بشار في التاسعة .. قبل العملية بساعة ..

قلبها لا يكاد يحتويها من الخوف ..

تحس أنها سوف تفقده ..

لا يا بشار أرجوك ..

حاولت أن تتصنع القوة بقدر ما تستطيع ..

حاولت أن تكون همسة القوية التي لا تكسرها مثل هذه الأمور ..



دخلت الغرفة ..

كان بشار موجوداً ..

على وجهه بعض سمات الألم والاصفرار واضح عليه ..

ورأسه على المخدة وقد تغطى بالملاءة ..

رغم ذلك تبسم لها وقال : أهلا بسيدتي الجميلة ..

ابتسمت همسة ..

كانت رائحة العطر التي يضعها في غاية الروعة ..

نظر لها وإلى نظارتها الشمسية ثم قالت : لازلت تشترين نظارة بخمسة ريالات ؟

نظرت همسة وقالت له في غيظ مبتسمة :

حرام عليك ..

لقد اشتريت هذه النظارة بـ600 ريال مخصوص حتى لا تقول لي هذه الكلمة ..

فقال بشار وهو يحامل على نفسه بقدر ما يستطيع حتى يخفي آلامه الواضحة :

لقد كذبوا عليك ..

ثم أخرج لها من تحت وسادته كيساً صغيراً وقال :

هذه لك حتى لا أسخر منك مرة أخرى ..

وقدم لها الكيس فتحته وفيها فضول عجيب ..

أخرجت منه ميدالية على شكل نظارة صغيرة ..

ضحكت همسة وقالت: ما هذا ؟

قال لها بشار : هذه هي النظارة الحقيقية ..

ليست كالتي تملكين ..

ثم مد لها يده من تحت الفراش بمفتاح صغير وقال علقي هذا المفتاح فيه ..

علقته همسة وهي تنظر له تسأله ما الخبر ؟

فقال لها بعد أن انتهت من وضعه في الميدالية :

هذا مفتاح هذه الحقيبة التي أمامك ..

وأشار لها على حقيبة متوسطة الحجم .. زرقاء اللون ..

فقالت : ما بها ؟

قال لها :افتحيها

فتحت همسة الحقيبة :

ولما رأت ما رأت ..

وضعت كفيها على فمها .. حتى تخفي شهقة كادت تخرج من حلقها ..

كانت هناك دفاتر كبيرة الحجم .. مرتبة باهتمام بالغ ..

وبعض الأوراق الأخرى الصغيرة ..وشهادة لكلية الطب فيها اسم بشار ..

والورود الحمراء من نوع الروز تملأ ما بين الأشياء ..

ورواية صغيرة ..

وقرآن ..

وقميص أبيض ..

وCDs

وظروف ورسائل .. وبعض الشموع الصغيرة ..

والكثير من الميداليات والمعدنيات ..



نظرت فيه وهي تقول مشيرة نحو الدفاتر ..

هذه الدفاتر هي .......... ؟

قال لها : نعم هي ..

ثم تنهد وقال : همسة ..

أريدك أن تأخذي هذه الحقيبة الآن ..

هذه الحقيبة ..

فيها كل شيء في حياتي ..

أهم الأشياء في حياتي كلها ..

أستطيع أن أذهب إلى آخر العالم ولا آخذ منها سوى هذه الحقيبة فقط ..

صدقيني فيها أغلى أشيائي في الدنيا كلها ..

أريد أن أعطيك إياها ..

فقالت : ولكن ..

قاطعها : أرجوك ..

ثم قال في خفوت : إن كنت تحبينني أرجوك افعلي من أجلي ..

أحست همسة بما يدور في رأس بشار ..

أحست أنها تقاوم نفسها ..

دموعها تخونها ..

سوف تبكي بالتأكيد ..

قعد بشار على الفراش .. ورفع الملاءة من على صدره ..

فقالت همسة : وااااااااو ..

وابتسمت بفرح ..

كان بشار يلبس القميص الأزرق الذي اشترته همسة له قبل أن تسافر ..

ابتسم بشار وقال : يبدو أنك لم تلاحظي العطر أيضاً ..

إنه عطرك الذي جلبت ..

لم تعرف همسة ما تقول ..

أحست أنها تدوخ ..

وأنها لا تمشي على الأرض بل إنها تطير فوق السحاب ..

مد بشار يده لها ..

فوضعت أناملها بحياء في يده ..

فأمسكها وقربها من شفتيه .. وقبلها بحب بالغ ..

أحست همسة بقشعريرة في جسمها كلها ..

وسحبت يدها ..

فقال لها مبتسماً :

ما فعلت هذا الأمر في حياتي أبداً ..

كنت أتمنى أن أقوم به لمرة واحدة فقط في هذه الدنيا ..

ابتسمت همسة من شدة الخجل ..

تلاقت العيون ..

وهذه المرة دار حديث عيون طويل ..

حديث حب ..

قال بشار : كم أنت حلوة ..

ابتسمت همسة بخجل وأشاحت بوجهها ولكنه قال : أرجوك .. دعيني أنظر إليك .. أرجوك ..

رفعت همسة عينيها إليه للحظات

ولكنها لم تتحمل نظراته ..

فأشاحت مرة أخرى .. وهي تبتسم ..



صمت بشار لثوان ثم قال :

همسة ..

إن مت .. أرجـــ

قاطعته همسة وقالت وهي تحس أن قلبها يهوي بين يديها :

أرجوك يا بشار لا تقل هذه الكلمات يا حبيبي ..

أرجوك .. سألتك بالله ..

فقال لها وهو يضم شفتيه :

همسة الموت حق ..

أريد أن أخبرك بعدة أمور ..

صمتت همسة وهي تحس بغصة خانقة ..

قال بشار :

الحياة لا تتوقف عندي يا همسة ..

الحياة طويلة .. وتستمر ..

إن كرهت نفسك .. وجلست في حالة الحزن التي تملأ كيانك ..

صدقيني لن تستفيدي شيئاً ..

قالت له : ولكن يا بشـــ ..

قاطعها وقال : هل تحبيني ؟

صمتت وقالت بصوت مختنق : أجل .. أ .. أحبك ..

فقال لها : والله لن أكون سعيداً إن لم تكوني سعيدة ..

صدقيني إن أعظم هدية تهدينها لي أن تكوني سعيدة ..

وأن تتذكرينني بكل خير ..

ابتسمت همسة وطرفت من عيناها دمعة وقالت :

وكأني أشاهد يوم وفاة مايا ونفس الوصايا ..

فقال لها بشار : ولكن هذه المرة سيكون حقيقياً ..

ولن تكون مجرد قصة ..

سأموت يا همسة ..

نظرت له همسة ولم تحتمل ..

وضاقت عيناها وصارت تبكي ..

وهي تنظر فيه بحزن يقطع القلوب إرباً ..

فقال لها بنظرات قوية :

همسة ..

هكذا الحياة .. يوم سعيد وآخر حزين ..

لا نحتاج أن نمضي نجتر آلامنا وذكرى أحزاننا ..

لا بد أن نمضي وإلا جلسنا نتحسر على كل لحظة من عمرنا ..

همسة ..

كما كنت أتخيل أن مايا ستقول لي ..

اهتمي بالصلاة ..

دينك يا همسة ..

هو أهم شيء في الوجود

والله لن يفيدك حبي هذا بشيء ..

أقول لك هذه الكلمات ..

وأنا على عتبات الموت ..

ما ينفعني الآن من شهادتي ؟

ومن خيالي ..

لن يبقى لي إلا عملي .. وما فعلت من شيء طيب في الدنيا ..

همسة ..

أريدك أن تعيشي الحياة وأن تفرحي فيها ..

صدقيني فيها الكثير من الأشياء الحلوة..

وفي نفس الوقت لا تنسي الله أبداً ..

هو من سيوفقك في حياتك ..

همسة انفجرت وصارت تقول في صوت يصعب تفسيره من اختلاطه بالبكاء :

ولما تتصرف كأنك ستموت حرام عليك؟

وجلست في المقعد وصارت تبكي ..

بحرقة ..

وتضع وجهها على يد المقعد ..

وهي تنتحب ..

فقال بشار وصوته واضح فيه التأثر :

المفروض أنك أنت التي تمنحينني القوة ..

وأن تعطيني الأمل .. لا أنا ..

مسحت همسة دموعها مستحضرة قوة جبارة ..

قوة الحب وسط الألم وحاولت أن تبدو بقدر ما تستطيع مبتسمة وهي تقول :

احم .. نظارتك أرخص من نظارتي ..

إنها بريالين ..

ههههههههههههه

فضحك بشار على همسة ..

نظرا إلى بعض قليلاً ..

لم تستطع همسة أن تمسك دموعها قالت : لا أقدر على هذا لا أقدر ..

وخرجت من الغرفة ..







وحانت ساعة الصفر ..

الساعة الآن العاشرة صباحاً ..

لم تستطع همسة أن تدخل غرفة العمليات ..

لم تستطع أن تتحمل أن تفقد بشار ..

كانت في الخارج ..

وعيونها محمرة من البكاء ..

كانت تنتظر ..

وتطالع الساعة ..

مضت إلى الآن ساعتين ..

ولم يخرج أحد ..

وراحت تدعو الله أن ينهض بالسلامة ..

كانت في حالة يرثى لها ..

إنما لم تنم من يومين ..

إنها مرهقة جداااااااااااااااااااااااااااااااااا ..

كم كانت تتمنى في تلك اللحظات ..

أنها لو لم تولد أصلاً ..

الكثير من المشاعر المختلطة في عقلها ..

كيف مرت أحداث حياتها الأخيرة سريعة بهذه الطريقة ..

راحت تتذكر كل حياتها مع بشار ..

كل اللحظات التي قضتها سعيدة معه ..

كانت تمسك في يديها الدب الأبيض ..

أول هدية أهداها إياها بشار ..

وتستند بيدها الأخرى على حقيبته ..

بشار الذي باح لها بسره الأعظم ..

بشار .. الذي أخفى الحب في كيانه من أجل ألا ترتبط بمن حُكم عليه بالموت ..

بشار الذي أعطاها بصدق .. لمسة من الحب ..

قد تمر أجيال دون أن تكون خلاصة الحب فيها كذلك الحب الذي منحها إياها بشار ..

ليس من السهل والله ..

أن تجد شخصاً تحبه وتراه يقول لك : أحبك ..

ثم تقف مكتوف الأيدي ..

لأنك لست أهلا لهذا الحب ..

لن يستطيع أن يعمل ذلك إلا إنسان يحب من قلبه ..







خرج الدكتور علي من غرفة العمليات .. والدكتور ياسر .. ومعهم الدكتور أسامة ..

نظرات الدكتور علي كعادتها قوية قاسية تطل من تحت القناع الطبي ..

نظرت فيه همسة مستفهمة ..

خلع القناع ..

وظهر من تحته وجه محمر من طول استخدامه القناع ..

وقال لها بلهجة قاطعة وبلكنة مصرية :

إنا لله وإنا إليه راجعون ..

لم نستطع إنقاذه ..





تجمدت همسة في مكانها ..

ثم راحت تصرخ بعلو صوتها في المستشفى ..

لم تعد تستطيع أن ترتدي قناع القوة ..

لقد انهارت بكل وحشية ..

وكأنما تندفع بسرعة الصاروخ نحو منابت الألم ..

جرت نحو الدكتور علي وراحت تطالع فيه بعيون تفجرت منها الدموع حمماً وصارت تصرخ في وجهه وهي تقول :

كذاب ..

أنت كذاب .. بشار لم يمت ..

بشار كان يمزح معي كعادته ..

نظر لها الدكتور علي وهو مشفق على حالتها ..

صارت تضرب على صدره بيديها وهي تقول :

قل الحقيقية ..

قل إنه بخير ..

أمسك الدكتور علي بيديها ..

ونظر في عينيها بأسى .. وكأنما يقول لها :

حقاً يا همسة لم نستطع أن نعمل له شيئاً ..

راحت الدموع تنزل أكثر فأكثر ..

تركته وتملصت من يديه وهي تذهب للدكتور ياسر وتقول :

دكتور ياسر ..

أرجوك قل شيئاً ..

أرجوك ..

قل بأنكم استطعتم إنقاذه ..

لم يتكلم الدكتور ياسر بأي كلمة ..

كانت في عينيه نظرات حزينة ..

قالت له : أنا سأعطيه من دمي ..

أرجوك اجعلني أجرب ..

قد ينفع ..

دكتور ياسر لم لا ترد علي ..

الله يخليك ..

لا تتركه هكذا ..

هنا جاء الدكتور أسامة ..

والدموع في عينيه قليلة .. وهو يمسكها من كتفها وهو يقول :

همسة تعالي معي ..

صارت تبكي بين يديه .. وهي في حالة لا يفرح لها بها حتى من يكرهونها ..

ولكنها فتحت عينيها المحمرة وقالت وهي تصرخ: أنتم لا تعرفون ..

أقول لكم بأنه لم يمت ..

كان الناس ينظرون لها بإشفاق ..

وحزن ..

دفعت الدكتور أسامة بقامته الفارعة ..

ودخلت غرفة العمليات ..

كان وجه بشار مغطىً بالملاءات البيضاء ..

اقتربت منه وهي تقول بصوت مرتجف :

حبيبي .. بشار ..

بشار .. رد علي ..

لا أنت لست بشار صحيح ؟

ثم فتحت الملاءة ..

وجدت وجه بشار جامداً ..

بارداً ..

خالياً من كل معاني الحياة ..

صارت تمرر يدها على وجهه بارتجاف .. وهي تقول :

ههههههههه

حبيبي بشار .. رد علي أرجوك ..

هيا .. سوف أعوضك عن مايا ..

والله سوف أعوضك ..

بشار ..

الله يخليك قل كلمة ..

بشار ..

سوف نذهب إلى اليابان ..

ونبحث عن مايا ..

خذ مايا ..

كن معها ..

لا مشكلة ..

ولكن فقط قل كلمة ..

أي كلمة ..

بشااااااااااااااار ..

رد يا بشار ..

ثم راحت تضرب في صدره ..

وتضرب وتضرب ..

اقتربت منها ندى من الخلف ..

وراحت تحتضنها ..

مايا سقطت على الأرض ..

وراحت ندى تحتضنها وهي تقول لها :

حبيبي همسة ..

قولي لا إله إلا الله ..

قولي إنا لله وإنا إليه راجعون ..

أما همسة .. فكانت لا تريد أن تسمع ..

طالعت فيها وصارت تقول :

ألا تفهمين أيتها الغبية .. إنه لم يمت بعد ..

إنه حي ..

نهضت وتوجهت نحو بشار ..

وصارت تعمل له تنفس اصطناعي ..

وهي تلهث ..

وفتحت طرحتها ..

وطار شعرها وتناثر على وجهها ..

وراحت توصل الأجهزة باليدين ..

وتحاول تشغليها ..

أمسكتها ندى مرة أخرى ..

ومعها ممرضتان ..

وهي ثائرة .. تقول لهم : دعوني ..

اتركوني ..

بشار ..

لن أتركك ..

بشار ..

أنت حي .. أنت حي ..

بشار لا تتركني وحدي ..

بشااااااااااااااااااااااااااااار ..

ثم عادت إلى نوبة البكاء من جديد ..

كانوا يخرجونها من الغرفة ..

وفي لحظة .. أحست أنها ضائعة ..

لا تعرف شيئاً ..

صمت مدوي في كيان همسة ..

وكأنها ترى نفسها من الخارج ..

وهي تصرخ ..

وتسقط على الأرض ..

هذه ندى .. تلك التي تكرهها .. تمسك بها وتحتضنها .. وتربت على رأسها ..

ما هذه السخافة ؟

إنها تبكي بدموع غزيرة ..

والناس يتحركون ببطيء شديد ..

والصورة باهتة ..

وكلام الناس له صوت ضخم ..

الدكتور ياسر ما زال واقفاً ينظر مشفقاً ..

الدكتور علي والدكتور أسامة غير موجودين ..

رجل يقف هناك ..

وتمسك في ثوبه بشدة فتاة صغيرة ..

وتختبئ خلفه ..

ذات ضفائر مجدولة ..

وعيونها مملؤة بالدموع ..

ما هذا الشعور الغريب؟

إنها لا تريد أن تعي أو تدرك شيئاً ..

لا إنها لا تريد أن تحس بشيء ..



أحست بنفسها فوق السرير ..

وأحدهم يدفع سائلاً شفافاً في وريدها ..

إنهم يريدون أن يقتلوها مثلما قتلوا بشار ..

لا بد أنهم قتلوه ..

لا بشار لم يمت بعد ..

لم يمت حبيبي بعد ..

بشار حي ..

إنه نائم ..

لم يفق من المخدر بعد ..

الصورة راحت تضيع حدودها ..

إنها لا تحس بالناس ..

لم أصبحت الدنيا مظلمة ؟

















بعد خمس سنوات :





دخلت الدكتور همسة جامعة الملك عبد العزيز ..

مرقت بالسيارة نحو المستشفى ..

نزلت منها .. وترجل من نفس السيارة ..

شاب وسيم ..

أنيق ..

قالت له همسة : فراس .. لا تتأخر علي .. سوف أنتهي من محاضراتي الساعة الواحدة اليوم ..

التفت لها فراس وقال : لا عليك .. إن انتهيت .. اتصلي علي يا حبيبتي .. ok ?

ابتسمت همسة ..





وهي تعبر المستشفى .. من بين الممرات حتى تصل إلى المباني الأكاديمية لكلية الطب ..

وصلت إلى قاعة محاضرة البنات للمستوى الثالث من الطب البشري ..

دخلت القاعة التي كان يسودها شيء من الهمهمات والأصوات المكتومة .. والضحكات القصيرة ..

دخلت همسة .. بكل هدوء ..

وقالت : السلام عليكم ..

رد البعض والبعض تجاهل ..

قالت : أنا الدكتورة : همسة سعود ..

سوف أقوم بتدريسكم الفصل الخاص بالدورة الدموية من الناحية الفسيولوجية ..

تحت مسمى مادتنا hysiology





ثم قالت للفتيات : ما كان آخر فصل درستموه مع الدكتورة فاطمة ؟

فقالت فتاة في الصف الأول :

الأورام السرطانية ..

صمتت همسة قليلاً ..

ثم عقدت ساعديها وقالت :

من منكم يود أن يتخصص في الأورام السرطانية ؟

رفعت عدة بنات أيديهن ..

ابتسمت همسة ..

ثم نظرت على الأرض وعضت على شفاهها وقالت بأسى:

أتمنى أن تستمروا في رغبتكم هذه ..



وبدأت الشرح ..










قد يظن البعض أن الطب هي تلك المهنة الخالصة التي توصل الإنسان إلى السعادة والراحة الأبدية ..

وقد يظنها البعض أنها الوظيفة التي تضمن لك مكاناً مرموقاً في الحياة .. ودخلاً يكفي أن تعيش في بذخ .. واحتراماً عالياً في الأوساط الاجتماعية .. وراحة في البال ..

ولكن من ظن ذلك أخطأ ..

الطب هي أصعب مهنة في هذه الدنيا بدون مبالغة ..

إنك تحتاج أن تكون بارد القلب ..

ترى كل يوم مريضاً لك يموت بين يديك .. وأنت لا تستطيع إلا أن تنظر له بإشفاق العاجز ..

رغم أنك الوحيد القادر على إنقاذه .. بعد الله ..

تحتاج إلى أن تقتل نفسك بالعلم .. حتى تلم بالأمراض التي لا حصر لها والتي تصيب مختلف الناس ..

تحتاج إلى دبلوماسية ولباقة كافية ..

حتى تواجه آلاف الناس كل يوم بابتسامة عذبة وتمنحهم الأمل ..

تحتاج إلى قدرة على أن تستيقظ من أحلى نوم .. لأن شاباً متهوراً غبياً كان يسير بسيارته الجديدة السريعة .. واصطدم بعائلة فمات الأطفال ..

وبقي هو ممن بقي على قيد الحياة يصارع الموت ..

ولا بد أنت أن تكون أنت من ينقذ هذا المتهور ..

تحتاج إلى أن تكون ملماً بكل جديد ..

تحتاج أن تحتمل عصبية الكبار ..

وسخافة وصراخ الصغار ..

تحتاج إلى أن يشيب شعرك .. وأن تبقى في المستشفى لأيام لا ترى فيها أبناءك ..

حتى تحصل في النهاية على مقدار من المال ..

يستطيع بعض التجار أن يتحصلوا عليه بطرق أبسط بكثير ..



هذا هو الطب ..

وهؤلاء هم الأطباء ..
" تمــــــــــــــــــــــــت "