تابع ديلمون :
+ أسطورة الفردوس:
لم تكن دلمون مجرد مملكة صغيرة إلى الجنوب من بابل، ولم تكن مجرد محطة بحرية تجارية في الطريق من الهند إلى بلاد الرافدين ولا تقتصر أهميتها على مجرد معرفتنا بحضارة مفقودة أخرى أو مكان أثري آخر كما هو الحال مع ماجان وميلوخا وعيلام وبيت ياكين وغيرها من نقاط الحضارة المتناثرة حول بلاد الرافدين. وإنّما تكمن أهمية دلمون على وجه التحديد في أنّها تحتل مكاناً فريداً في الميثولوجيا السومرية والبابلية باعتبارها مكاناً مقدساً له مواصفات الجنة أو الفردوس.
وتحدثنا أسطورة سومرية شهيرة عن دلمون كأرض طاهرة نظيفة مشرقة، لا موت فيها ولا مرض ولا عدوان، على نحو يفيد وجود فكرة سومرية عن جنة مقدسة في هذا المكان تصفها الأسطورة في أبياتها الافتتاحية كما يلي:
أرض يلمون مطهرة... أرض دلمون نقية
أرض دلمون نظيفة... أرض دلمون مشرقة
في دلمون لا ينعق الغراب
ولا تصيح الحدأة
ولا يقتل الأسد
ولا يفترس الذئب الحمل
لا يوجد فيها كلب يقتل جدياً
أو خنزير يسطو على غلة
لا أحد يقول عيني تؤلمني
ولا أحد يقول رأسي تصدعني
فيها لا تقول المرأة العجوز: أنا عجوز
ولا يقول الشيخ: أنا طاعن في العمر
فيها الغادة لا تستحم (أي لا تتسخ)
والماء المتلألئ لا يراق
من يعبر النهر (الموت؟) لا تندو عنه.. (صيحة؟)
ولا يمشي إليه الكهنة النائحون
والمغنى لا ينطق بالبائيات
ولا يقف إلى جانب سور المدينة (الجبانة؟) ويرفع عقيرته بالرثاء...
هذه الأسطورة وردت في نص سومري اكتشف في نيبور عبارة عن لوح طيني كبير يضم 278 سطراً من الكتابة المسمارية في ستة أعمدة وهو محفوظ حالياً في متحف جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وقد نشر النص لأول مرّة في عام 1915 ولكن ترجمته حينئذ كانت غامضة وغير مفهومة إلى حد كبير. وفي عام 1945 ظهرت ترجمته الدقيقة الواضحة على يد البروفيسور كريمر الثقة العالمي في الحضارة السومرية وأمين قسم الشرق الأدنى بمتحف جامعة بنسلفانيا.
وكان كريمر نفسه هو أول من أطلق على هذه الاسطورة في كتابه "نصوص الشرق الأدنى القديم) أسطورة الفردوس، كما أنّه أسمى اللوح المكتوبة عليه الأسطورة "لوح امرمار" نسبة إلى السيدة امركار التي حملته من العراق إلى أمريكا.
ولحسن الحظ فإنّ لوح امركار هذا الذي يحوي "أسطورة الفردوس" من أحسن الألواح السومرية حفظاً وسلامة، ليست به فراغات أو انقطاعات أو غموض مما أتاح للعلماء معلومات متصلة قيمة عن صسمات الفردوس لدى السومريين التي ربما تكون قد نفذت إلى التصور العبراني للفردوس.
تجري أحداث الأسطورة في ديلمون التي توصف بأنّها "بلاد ومدينة" والتي رأينا وصفاً لها فيما سبق، أما أشخاصها الرئيسيون فهم (انكي) إله الماء و (نينخورساك) ربة الأرض وعدة آلهة أخرى من آلهة النباتات.
وتمضي أحداث الأسطورة بعد الوصف الافتتاحي لجنة ديلمون فتقول أن الشيء الوحيد الذي كان ينقص ديلمون هو الماء العذب، ولذلك طلبت الربة نينخورساك (الأرض) من الإله انكي (اله الماء العذب) أن يوفر المياه العذبة التي تنقص هذه الجنة الأرضية، وهو ما فعله انكي بسعادة، ثمّ يتزوج انكي من نينخورساك وينجبان الإلهة نينسان أو نينمو (إلهة النباتات) ومما له دلالة أنّ الأسطورة تذكر أنّ فترة حمل نينخورساك لنينمو كانت تسعة أيام، أي أنّ اليوم يقابل شهراً بالنسبة للحمل البشري، ووضعت نينخورساك حملها بدون ألم... إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الأحداث تدور في الجنة، ولا ألم في الجنة.
إلى هنا يبدو منطق الأسطورة مفهوماً... التزاوج بين الأرض والماء العذب ينتج النبات، فنحن إذن ازاء أسطورة تفسيرية أي أسطورة تفسر أصل الأشياء لا أسطورة طقوسية أي تستخدم للتلاوة في امراسم الدينية، غير أنّ الأسطورة التي نحن بصددها لا تلبث أن تدخل في مجالات لا يحيط بها ادراكنا الحديث، فتقول أنّ انكي واقع ابنته نينسان فولدت الربة نينكورا وهذه بدورها يوقعها انكي فتلد الربة أوتو التي توصف أيضاً بأنها من آلهة النباتات، وعندئذ تحذر الربة الأم نينخورساك حفيدتها أوتو من انكي وتنصحها كيف تتصرف لتدفع عن نفسها غائلته، ولكن انكي وقد شاهد أوتو على حافة الغدير فتاة يانعة ناضجة يحن إلى مضاجعتها ويتقرب إليها، فتطلب أوتو -ربما نتيجة لنصيحة نينخورساك- أن يأتيها انكي بهدية من الخيار والتفاح والعنب (مما يدل على أن عادة هدية العرس كانت معروفة منذ أقدم العصور) ويحضر انكي الهدية المطلوبة إلى كوخ أوتو وتستقبله هذه بابتهاج، ونتيجة لاتحادهما تولد ثماني مولودات جديدات، ولكن قبل أن تتمكن نينخورساك من اعطاء هذه المولودات أسماءها وخصائصها يبعث انكي رسوله إسيمود لاحضارها له حيث يأكلها جميعاً واحدة وراء الأخرى.
هذه التفاصيل يغمض تفسيرها كما هو واضح، ولكن ربما كانت تشير إلى تفسير بعض الظواهر النباتية نتيجة لاتحاد الماء بالنباتات المختلفة، فتنشأ مثلاً الطحالب ومواد الصباغة... إلخ.
وعلى أية حال تمضي الأسطورة فتقول أنّ نينخورساك تغضب غضباً شديداً من انكي وتصب عليه لعنات رهيبة وتنصرف عنه، كما تستاء الآلهة الأخرى أيضاً من أفعاله، ونتيجة لذلك يسقط انكي مريضاً مصاباً في ثمانية أجزاء مختلفة من جسمه.
ولنا أن نتصور كيف تتدهور الأشياء نتيجة للخصام بين انكي ونينخورساك، أي نتيجة لانحسار الماء العذب عن الأرض الخصبة، فلا بدّ أن تكون النباتات قد ذبلت ووحوش جنة ديلمون وطيورها قد تضررت، إنّ شيئاً غير مقدس (الخصام والغضب) قد حدث في هذه الأرض المقدسة، ولكن الوضع لا يستمر على ذلك طويلاً، إذ يتصدى ثعلب الجنة للمصالحة بينهما، ونتيجة لدهاء الثعلب تعود نينخورساك وتقرر معالجة انكي بأن تخلق ثماني آلهات تتولى كل منها شفاء جزء من أجزاء انكي المريض. وهكذا تخرج ثماني آلهات جدد كان آخرها الاله انشاج المقابل السومري للاله انزاك اله ديلمون الذي عُثر على اسمه مكتوباً على الحجر الأسود الذي اكتشفه الكابتن ديوراند في البحرين.
ويشير الباحثون إلى وجود علاقة لغوية بين أسماء كل من هذه الآلهة الثماني وبين أسماء الأعضاء المصابة في جسد انكي وتبرز منها بصفة خاصة إلهة تدعى نينتي تتولى علاج ضلع انكي، إذ إنّ كلمة "نن" بالسومرية معناها سيدة، وكلمة "تي" تعني ضلعاً، فيكون اسم هذه الربة "سيدة الضلع" ومن العجيب أيضاً في اللغة السومرية أنّ كلمة "تي" تعني ايضاً في اللغة السومرية (الحياة) أي أنّ اسم هذه الربة يمكن أيضاً أن يكون "سيدة الحياة" ... أو "حواء".
وهنا نجد تشابهاً قوياً ملفتاً للنظر بين الاسطورة السومرية وقصة التوراة عن خلق حواء من ضلع آدم. إذ يقول سفر التكوين : "فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام فأخذ واحداً من أضلاعه وملأ مكانها لحماً وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم".
والسطور الختامية في القصيدة السومرية ممحوة بعض الشيء ولكن يبدو أنها توحي بأنّ الىلهة الثماني اعتبرت بنات انكي وابنائه وقامت نينخورساك بتحديد مصائرها، ومن المهم أن نلاحظ أنّ هذه الأسطورة الغريبة لا مقابل لها في أساطير الشرق الأدنى القديم إلا فيما يتعلق بفكرة وجود عصر ذهبي في الماضي السحيق وهي فكرة الانتشار في كل أساطير البشرية.