+تابع ديلمون :
×تأثر العهد القديم بفكرة الجنة الديلمونية :
إنّ هذه الاسطورة السومرية التي تدور أحداثها في ديلمون تعد أول أقدم نص بشري يتحدث عن فكرة وجود أرض مقدسة وارفة الظلال، جارية الأنهار، تمت فيها عملية خلق على نحو ما، وهي أرض مبرأة من كل سوء، لا يعرف فيها المرض أو الموت، ولا تفترس الحيوانات بعضها بعضاً. هذه السمات قوية الايحاء بفكرة الجنة التي ورد ذكرها في سفر التكوين من العهد القديم مما جعل بعض الباحثين يتجهون إلى افتراض أنّ كاتب سفر التكوين قد تأثّر بفكرة الجنة الديلمونية. وبالطبع فإنّ هذا التأثير -كما يقولون- لم يكن بالضرورة نتيجة نقل مباشر، أي بترجمة الاسطورة الديلمونية إلى اللغة العبرانية القديمة، وإنما يمكن القول بأنّه وجدها في تراث شعبه فأخذها واستفاد بها ونسج قصة عن معتقداته حول الجنة.
فإذا اضفنا إلى ذلك اشارة الأسطورة السومرية إلى خلق امرأة في هذه الأرض تتولى علاج ضلع رجل لأمكن القول أنّ التشابه بين الحكايتين لم يكن محض صدفة خاصة إذا كان اسم هذه المرأة واحداً في الحالتين، فهو مشتق من مادة الحياة، فالمرأة تدعى سيدة الحياة في القصة السومرية وحواء في سفر التكوين.
والواقع أنّه ليس وصف الجنة وعلاقة حواء بضلع الرجل هما الامران المتشابهان الوحيدان بين سمات الجنة في سفر التكوين وتلك الاساطير السومرية الأدم عهداً بألف عام على الأقل وإنما هناك عناصر كثيرة متشابهة بينهما، فمثلاً هناك النص في التراثين على أهمية اكتساب المعرفة، والتحدث عن سر الولادة والخلق، وسر الحياة والموت، وسبب الالم والمرض والشقاء، وخلق الانسان الأول من عنصرين ترابي والهي كما نجد ذكراً في الحالتين لرموز معينة مثل الشجرة المقدسة وألواح القدر، ودهاء الحية، ونعرف من أسطورة أدابا (آدم) السومرية وملحمة جلجامش مدى اهتمامها بالبحث عن الخلود، وكيف أصبحا قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليه، ثمّ فقداه نتيجة للضعف البشري، تماماً كما حدث لآدم في الجنة، بالرغم من اختلاف الوقائع المحددة في التراثين.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن يحدد سفر التكوين موقع الجنة في مكان ما من بلاد الرافدين أو بالقرب منها، وأن يذكر من بين أنهارها دجلة (حدقل) والفرات، فقد جاء في سفر التكوين : 14:12
"ولقد أثبت السيد الرب جنة في ناحية الشرق من عدن ووضع فيها الانسان بعد ما خلقه، ومن الأرض أخرج السيد الرب كل شجرة تسر النظر وتكون صالحة للغذاء... ونهراً يخرج من عدن يروي الجنة ومن ثمّ يتجزأ في اربعة رؤوس فاسم الأول منها بيسون واسم النهر الثاني جيحون واسم النهر الثالث حدقل وهو الذي يجري نحو شرق آشور، والنهر الرابع هو الفرات".
ويقول الدكتور فاضل عبد الواحد علي المتخصص في حضارات ما بين النهرين أنّ كلمة عدن ربما جاءت من الكلمة السومرية Adinu ومعناها السهل أو الأرض السهلة وبالإضافة إلى هذا المدلول العام للكلمة فقد ظهر من النصوص السومرية التي انحدرت الينا من فجر عصر السلالات الثالث (في حدود 2450 ق.م.) أنّ كلمة عدن كانت تطلق بالتحديد على المناطق السهلة الواقعة جنوبي مدينة أوما (خوجة الحالية) غربي مدينة لكش، وهي المنطقة التي كانت سبباً في نزاع طويل بين هاتين المدينتين أوما ولكش. ثمّ نجد التوراة تفترض ضمنياً أنّ جنة عدن كانت تقع في جنوب وادي الرافدين أي في سومر.
وعلى ذلك يمكن القول بأنّ العبرانيين قد أخذوا اسم عدن ومكان وجودها في بلاد الرافدين عن الحضارة السومرية وربطوها بتصور الجنة الديلمونية دون أن يدركوا أنّ السومريين كانوا يتصورون وجود الجنة في جزيرة ديلمون بالتحديد، ومع ذلك فإنّ كلمة الفردوس التي تطلق أحياناً على الجنة يمكن أن تشير إلى موقع ديلمون بالتحديد.
إذ يقول العلامة جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام جـ1 ص 563 ) هناك نص بابلي يرجع إلى سنة 317 ق.م. وردت فيه عبارة "أرض رعيت برديسو" وتقابل هذه الكلمة كلمة Pildash أو Pardes بالعبرانية وفردوس بالعربية وتقع هذه الأرض في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين ماجان (عمان الحالية) وبيت نبسانو (التي هي جزيرة ديلمون) وقد حملت هذه التسوية بعض العلماء على التفكير في أنّ ما ورد عن جنة عدن في التوراة إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج.
ويوجد في المتحف البريطاني خاتم سومري يرجع تاريخه إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد اشتهر منذ اكتشافه باسم "خاتم الاغراء" Seal of Temptation إذ إنه ينقل بصورة وافية جو الفردوس الذي ورد في التوراة فعناصر تصميمه تتألف من اله وشجرة وامرأة وحية جنباً إلى جنب، والشجرة محملة بالثمار، والحية تقف على ذنبها خلف المرأة وكأنها تهمس في أذنها. وقد اختلفت الآراء في هذا الخاتم فقال بعض المتحمسين من العلماء أنّه يمثل اشارة واضحة إلى قصة الاغواء التي تعرض لها آدم في الجنة، وقال آخرون أنّه لا ينبغي أن نحمّل الأثر أكثر مما يحتمل وإنّ التشابه بين محتوياته وعناصر قصة الاغواء الدينية ليس أكثر من مصادفة، ولكن ما يهم على أيّة حال هو أنّ هذا الخاتم يمثل مفهوم العراقي القديم للعصر الذهبي السحيق حيث كان يجتمع الآلهة والبشر تحت ظلال الأشجار وتشاركهم سعادتهم الطيور والوحوش دون عداء أو فزع، وهو نفس ما تمثله صورة ديلمون في اسطورة "انكي ونينخورساك" التي وردت في لوح امركار الذي أشرنا إليه فيما قبل، فهنا نجد أنّ الأسد لا يقتل، والذئب لا يفترس الحمل، والكلب لا يعقر، والخنزير لا يسطو على الغلة.
ونجد لهذه الصورة أيضاً انعكاساً في سفر أشعياء بالتوراة حيث نقرأ عن حالة السلم والطمأنينة بين الإنسان والحيوان ما يلي:
"فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمّن معاً، وصبي صغير يسوقها، والبقروالدابة ترعيان، تربض أولادهما معاً، والأسد كالبقر يأكل تيناً، ويلعب الرضيع على درب الصل، ويمد الفطيم يده على حجر الافعوان...". (أشعياء 1:6-10)