+ تابع ديلمون :
× زهرة الخلود :
عثرت البعثة الدنماركية الأثرية برئاسة جيوفري بيبي عند أقصى الطرف الجنوبي لجزيرة المنامة - كبرى جزر البحرين- على آثار قرية صغيرة تتميز بوجود أكوام كبيرة من المحار الفارغ فيها، ثبت أنها جميعاً من محارات اللؤلؤ. وتفصل المنطقة التي تقع فيها هذه القرية عن الصحراء الجنوبية للمنامة سبخة كبيرة يتعذر السير فيها مما يشير إلى أنّ المنطقة التي عثر فيها على محار اللؤلؤ الفارغ كانت في الأصل جزيرة منفصلة مجاورة للشاطئ، ثمّ حدث الاتصال بينهما لأسباب طبيعية.
ويرى جيوفري بيبي في كتابه "البحث عن ديلمون" أنّ هذا المكان لا بدّ أنّه كان في الأصل مستعمرة للغواصين القدامى، وأنّهم ينشرون فيه صيدهم من المحار حتى يجف في الشمس ويموت الحيوان بداخله ويفتح المحار فيجمعونه ويبحثون بداخله عن حبات اللؤلؤ الثمينة.
وهذه طريقة قديمة في صيد اللؤلؤ وهي معروفة في أماكن مختلفة من العالم ولكنها ليست متبعة في الخليج الحديث، إذ أنّ الغواصين العرب في العصور الحديثة كانوا لا يبرحون ظهر مراكبهم، وبعد أن يحصلوا على اللؤلؤ يلقون بالمحارات الفارغة في البحر مرّة أخرى.
ولذا فإنّ هذه المستعمرة لصيادي اللؤلؤ لا بدّ أن تكون أقدّم عهداً من الأسلوب امتبع حديثاً، مما يدل على أنّ صيد اللؤلؤ في البحرين كان حرفة قديمة جداً. وقد تبين لبيبي بالفعل أنّ هذه المستعمرة يعود زمنها إلى الألف الثالث قبل الميلاد نظراً لتماثل الفخار الذي عُثر عليه فيها مع الفخار الذ عُثر عليه في معبد باربار، وهكذا يمكن القول باطمئنان أنّ البحث عن الؤلؤ كان معروفاً في البحرين خلال عصور اسومريين والبابليين السحيقة.
والمعروف أنّه وردت في النصوص المسمارية التي عُثر عليها في أور اشارات إلى استيراد "عين السمكة" من دلمون، وهو تعبير يفسره العلماء بأنّه يعني اللؤلؤ.
وهذا يذكرنا مرّة أخرى بملحمة جلجاميش...
ففي النص البابلي لملحمة جلجاميش نرى أنّه بعد أن يصل البطل جلجاميش في بحثه عن الخلود إلى المكان الذي يعيش فيه أوتنابيشتيم- والذي تبين لنا أنّه ديلمون من النص السومري الناقص- وبعد أن يقص عليه أوتنابيشتيم قصة الطوفان يبلغه بأنّ ليس في إمكانه تحقيق الخلود، ولكن باستطاعته أن يجد تعويضاً جزئياً عن بغيته في "زهرة الشباب"، فهذه الزهرة يمكنها أن تجدد الشباب ولكن المشكلة تكمن في صعوبة الحصول عليها. وفي اللوح الثاني عشر والأخير من الملحمة يسر أوتنابيشتيم لجلجاميش بسر زهرة الخلود هذه، فيبلغه أنها موجودة في قاع البحر أو ربما على وجه التحديد في المياه العذبة "الابسو" الذي تحت سطح الماء المالح، وكان على جلجاميش كي يصل إليها أن يربط أحجاراً في قدميه ويغوص إلى قاع البحر حيث يقطف الزهرة السحرية. ثمً يتخلص من الأحجار المربوطة بقدميه فيطفو مرة أخرى إلى السطح.
هذا النص يثير اهتماماً خاصاً لأنّ الطريقة التي اتبعها جلجاميش للحصول على هذه الزهرة السحرية هي نفس الطريقة التي كان يستخدمها غواصو اللؤلؤ المعاصرون أي بربط الأثقال في أقدامهم، وعلى ذلك فالشكّ يكاد يكون معدوماً في أن يكون المقصود بزهرة الخلود إنما هو اللؤلؤ.
ومن المثير أن نلاحظ أنّ ثمة تقليداً كان شائعاً في مصر القديمة يعتبر اللؤلؤ اكسيراً للشباب والحياة الدائمة، إذ يقال أنّ الملكة البطلمية كليوبترا كانت تشرب اللؤلؤ مذاباً في النبيذ لتحافظ على ما تتمتع به من شباب وسحر وجاذبية.
وهكذا يبدو أنّ جلجاميش قد كوفئ في النهاية بما يعوضه عن مغامراته الشاقة ورحلاته المهولة، ففي دلمون أرض الخلود عثر على الزهرة السحرية التي تمد العمر وتجدد الشباب، وإذا كان الخلود نفسه من حق الآلهة ووقفاً عليهم دون غيرهم من بني البشر فإنّ تجديد الشباب يبدو على الأقل أقصى ما يمكن لانسان أن يطمح إليه. ولكن قصة جلجاميش لا تنتهي للأسف بهذه النهاية المنطقية السعيدة. فنرى أنّ جلجاميش بعد أن يفعل كل ما أوصاه به أوتنابيشتيم ويحصل على الزهرة يتردد في أكلها ويقرر أن يستبقيها ويأخذها معه إلى وطنه كي يقتسمها مع كبار أهل مدينته أورك (الوركاء) حتّى يتمتعوا جميعاً بالحياة الشابة المتجددة. ولكنه إذ يغفو إلى جانب غدير ليحصل على شيء من الاحة تخرج الحية من ثغرة في الماء وتأكل زهرة الخلود وبذلك تحرم الإنسان من فرصة الشباب الدائم وتحصل هي عليه، ألسنا نرى الحية تتخلص من جلدها القديم كلّها هرمت وتستبدل به جلداً جديداً وشباباً دائماً؟
وهذا يذكرنا مرة أخرى بالعهد القديم حين حرمت الحية الجنس البشري من فرصة الخلود والشباب الدائم في جنة عدن. وكانت سبباً في طرد الجنس البشري إلى حيث الشقاء والفناء.
وهنا تنتهي جلجاميش، والعبرة فيها واضحة: إذا كان الانسان لا يستطيع حتى أن يقاوم مجرد النوم فكيف به يأم أن يقاوم الموت؟