+ تابع ديلمون :
ملحمة جلجاميش:
إنّ قصة الطوفان البابلية هي جزء من ملحمة جلجاميش الشهيرة وقد عُثر على هذه الملحمة في 12 لوحاً وجدت مطمورة في أطلال مكتبة آشور بانيبال في نينوى. وفي عام 1872 حلت رموز أحد هذه الألواح، وهو اللوح رقم 11، فوجد أنّه يحتوي على قصة طوفان عظيم تعرضت له البشرية بأسرارها ونجا منه فرد واحد وعائلته وما أخذه معه من نباتات وحيوانات وأدّى هذا الاكتشاف إلى إثارة اهتمام بالغ في العالم وفي الدوائر الدينية والأكاديمية على وجه الخصوص نظراً للتشابه الكبير بين هذه الأسطورة وقصة الطوفان التي وردت في الكتب المقدسة.
ولحسن الحظ فإنّ اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش كان أحسن الواح الملحمة الاثني عشر حفظاً مما أعطانا تفاصيل كثيرة عن قصة الطوفان كما حكاها أوتنابيشتيم والطريق الذي سلكه جلجامش كي يلتقي به. وتصور الأسطورة جلجاميش ملك اريك (الوركاء) على أنّه حفيد أوتنابيشتيم الناجي من الطوفان، وبعد أن تقص الأسطورة حياة جلجاميش ومغامراته وتصور مدى انزعاجه لوفاة صديقه انكيدو وادراكه أنّ الموت لا محالة طائله هو أيضاً، تحكي لنا القصة أنّ جلجاميش قرر الانطلاق للبحث عن جده اوتنابيشتيم الرجل الوحيد الذي كافأته الآلهة بالخلود جزاء تقواه وانقاذ بذرة البشرية من الطوفان، وذلك على أمل أن يعرف منه سرّ الخلود.
وفي بداية رحلة البحث عن أوتنابيشتيم يصل جلجامش إلى سفح سلسلة جبلية هي جبال ماشو. وكان يحرس مدخل هذه السلسلة من الجبال "رجل –عقرب" وزوجته. ويحذره الرجل العقرب بأنّ أي انسان حي لم يستطع أن يجتاز هذه الجبال ويقاوم أخطارها، ولكن أمام اصرار جلجاميش على مغامرته يسمح له الحارس بالمرور، ويتبع جلجاميش في رحلته الطريق الذي تسلكه الشمس، وبعد أخطار مخيفة يصل إلى شاطئ بحر الموت، وهناك يجد حارساً آخر في شكل امرأة صاحبة حانة جعة تدعى الربة سيدوري، وتحاول بدورها أن تثنيه عن محاولة عبور بحر الموت، وتخبره أنّ أحداً غير الإله شمس لا يمكنه عبور ذلك النهر، وتنصحه بأن يتمتع بالحياة طالما أنّه لا يزال على قيدها، فالموت مقدّر من الآلهة على البشر ولا يستطيع أحد أن ينجو من هذا المصير، وتقول له ألاّ يحاول البحث عن المستحيل وأن يقنع بأن يملأ معدته بأشهى الطعام وأن يبهج نفسه ليلاً ونهاراً:
عليك أن تجعل من كل يوم حفلاً للابتهاج
عليك أن ترقص وتلعب ليلاً ونهاراً
فلترتدي أجمل الثياب وأنظفها
فلتغتسل وتستحم في الماء
ولتبحث عن امرأة تحبها وتحبك
فتمنحها حمايتك وتجعلها تبتهج تحت جناحك
فهذا هو الممكن لابناء البشر
ولكن البطل جلجاميش يرفض أن يأخذ بنصيحة سيدوري حاملة جرة النبيذ، فيتركها ويمضي في طريقه، ولدى الشاطئ يلتقي مع أورشانبي الملاح الذي كان يقود سفينة أوتنابيشتيم ويأمره أن يعبر به مياه الموت، ويحاول أورشانبي بدوره أن ينصحه ويثنيه، ثمّ أمام اصراره يخبره عن الطريقة التي يمكن أن ينجو بها من المياه القاتلة، وهي أن يصنع طوفاً من خشب الأشجار ينقله إلى وجهته في المرحلة الأخيرة من رحلته تلك المحفوفة بالمخاطر والهلاك.
وما أن يلتقي جلجاميش مع أوتنابيشتيم حتى يطلب منه فوراً أن يبلغه بسر الخلود، وماذا فعل كي ينال هذا الامتياز الفريد، فيشرع الشيخ الطاعن في السن أوتنابيشتيم يقص على مسامع جلجاميش قصة الطوفان، وكيف أنّ الىلهة قررت تدمير البشرية لأنها تصدر ضوضاء مزعجة. ولكن انكي اله المياه الجوفية (الذي راينا صلته بدلمون) يحذر أوتنابيشتيم بما أضمرته الىلهة ويبلغه بأن يبني فلكاً بأوصاف ومقاسات معينة وأن يصطحب معه أسرته وحيواناته، وعلى حين غرّة بدأ الطوفان بالفعل بمياه تسقط من السماء وتنبثق من الأرض، ولمدة ستة ايام وليال هبت العاصفة، وعلا الموج، وفي اليوم السابع أطلق أوتنا بيشتيم حمامة وعصفوراً تباعاً ولكنهما عادا إلى الفلك فعلم أنهما لم يعثرا على ارض صلبة، وبعد ذلك أطلق غراباً فلم يعد، فعلم أنّ الماء قد غاص، ورسى الفلك على قمة جبل نيسير (في شمال كردستان) عندئذ فتح أوتنابيشتيم نوافذ الفلك وقدّم الاضحيات للىلهة، وتدخل انكي لدى انليل كبير الآلهة طالباً منه ألاّ يعاقب كل البشر بخطايا البعض منهم، فلا تذر وازرة وزر أخرى، فوافق انليل على ذلك وتعهد به، ثمّ دخل انليل الفلك ولمس أوتنابيشتيم وزوجته في جبهتهما، وقال:
منذ الآن سيكون أوتنابيشتيم خالداً
منذ الآن هو وزوجته سيكونان مثل الآلهة
ويعيشان هناك بعيداً عند فم الأنهار
ولا يذكر النص البابلي كما أسلفنا مكان التقاء جلجاميش وأوتنابيشتيم بالتحديد، وهو المكان الذي اتخذ مقراً للرجل الخالد، واكتفى بأن أشار اليه بعبارة "هناك بعيداً عند فم الأنهار". ولكن كان واضحاً لدى العلماء ان هذا النص البابلي لابد أن يكون كغيره من النصوص البابلية والآشورية التي عثر عليها في مكتبة آشور بانيبال منقولاً عن نص أقدم عهداً لم يكتشف بعد. ومرت أربعون سنة اخرى قبل أن يكتشف هذا النص الاصلي، وعندئذ اتضحت العلاقة الوثيقة بين قصة الطوفان ودلمون.
ففيما بين عامي 1899 و 1900 كانت بعثة اثرية من جامعة بنسلفانيا الأمريكية تجري تنقيبات في نيبور، وهي من أشهر المراكز الحضارية القديمة بأسفل بلاد ما بين النهرين وكانت في زمن السومريين وعهد سرجون الاكادي فيما بعد مركزاً لعبادة الإله انليل كبير الآلهة أو الأول بين الآلهة وهو بالتحديد الاله الذي دبّر الطوفان ومنح الخلود لأوتنابيشتيم في النهاية، وكشفت التنقيبات عن أول زاقورة مدرجة يعثر عليها في بلاد ما بين النهرين، والمعروف أنّه كان لكل مدينة سومرية زاقورة واحدة فحسب، وعثر بأعلى الزاقورة على معبد صغير، وفي أسفلها على أطلال المعبد الرئيسي لانليل، وبين هذه الأطلال عثر هيليريخت رئيس البعثة وكان حجة في الكتابة السومرية على أرشيف المعبد ويحوي حوالي 35 ألف لوح سومري وهي كمية تفوق ما عثر عليه من موجودات في مكتبة الملك الىشوري آشور بانيبال من القرن السابع قبل الميلاد.
وكانت معظم هذه الألواح مكتوبة بالقلم السومري الذي سبق الكتابة البابلية السامية في بلاد ما بين النهرين، ويرجع إلى هذا الاكتشاف الفضل في تحسين معرفة العلماء باللغة السومرية. وقد ظلّ العلماء عاكفين على حلّ رموز هذا الكنز من الكتابات المسمارية سنين طويلة، وفي عام 1914 فكت طلاسم أحد الألواح فغذا به يحتوي على جزء من نص قصة الطوفان التي سبقت معرفتها من اللوح البابلي.
ولكن اللوح كان مطموساً في معظمه للأسف، فلم يكن سليماً منه سوى ثلثه الأسفل وثمّة ثغرات في هذا الثلث أيضاً، غير أنّ ما تبقى من النص كان كافياً كي يوضح أننا بصدد نفس القصة التي قصها أوتنابيشتيم على جلجاميش فيما عدا أنّ الراوي في النص السومري يدعى زيوسودرا، ولحسن الحظ فإنّ الجزء الباقي الواضح من النص يحمل معلومات جديدة في غاية الأهمية، إذ بينما نجد أنّ النص الآشوري البابلي لا يحدد مكان إقامة أوتنابشتيم حيث التقى به جلجاميش نجد أنّ النص السومري يقول:
وعندئذ زيوسودرا الملك
الذي حفظ أسماء النباتات وبذرة البشرية
جعلته الآلهة يعيش
في أرض دلمون
أرض العبور
المكان الذي تشرق منه الشمس
والعبارتان الأخيرتان اللتان تصفان دلمون بأنّها "أرض العبور" و "المكان الذي تشرق منه الشمس" تستحقان وقفة تأمل، فإنّ تعبير "أرض العبور" غير واضح وهي ترجمة حرفية عن الأصل السومري "كور- بالا" وكلمة "كور" معناها في السومرية "أرض" أو "بلاد"، أمّا كلمة "بالا" فهو اسم فعل مشتق من فعل "يعبر" ويستخدم بصفة خاصة للدلالة على عبور الأنهار، وهذا يذكرنا على الفور بالتعبير الذي ورد في النص البابلي عن مكان اقامة أوتنابيشتيم "هناك بعيداً عند فم الأنهار".
أمّا تعبير "المكان الذي تشرق منه الشمس" فهو لا يقل غموضاً، وكثيراً ما استخدم -كما يقول جيوفري بيبي- كحجة لنفي أنّ ديلمون هي البحرين، إذ أنّ البحرين تقع إلى الجنوب من نيبور بينما "المكان الذي تشرق من الشمس" لا بدّ بالضرورة أن يكون في اتجاه الشرق. غير أنّ هذه الحجة كما يقول بيبي لا تصمد كثيراً إذا عرفنا أنّ البابليين ومن قبلهم السومريين كانوا يطلقون على الخليج العربي ثلاثة مسميات هي "البحر الأسفل" و "البحر المر" و "بحر الشمس المشرقة"، ومن الطبيعي تماماً بالنسبة لهم أن يسموا أي مكان فيه بالمكان الذي تشرق منه الشمس.
وباكتشاف هذا النص اكتسبت ديلمون أهمية بالغة لم تكن لها بمقتفى النص الآشوري البابلي إذ أنها اصبحت المكان الذي يعيش فيه خالداً الرجل الذي نجا من الطوفان، وإليها لا بدّ أن يكون قد سعى جلجاميش للقاء هذا الرجل.
ولكن لماذا جعلت الآلهة زيوسودرا بالسومرية، أو سرخاكيس بالأكاديّة، أو أوتنابيشتيم بالبابلية والىشورية يعيش في دلمون؟ إنّ الفلك لم يرس فيها بالتأكيد بل رسا حسب الاسطورة في الجبال الواقعة إلى الشمال من بلاد ما بين النهرين فما الذي أتى به جنوباً إلى ديلمون؟
الرد على ذلك واضح وسهل تماماً... إنّ الناجي من الطوفان الممنوح حياة خالدة لا بدّ أن يعيش في أرض الخلود التي لا يعرف فيها موت ولا مرض، أي ديلمون حسب ما عرفنا من أسطورة انكي ونينخورساك.