https://www.gulfupp.com/do.php?img=92989

قائمة المستخدمين المشار إليهم

صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 67

الموضوع: ▅ ▄ ▃ ▂ ▁ سلسلة رجال حول الرسول ..▁ ▂ ▃ ▄ ▅

  1. #21
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    سعد بن أبي وقاص ( الأسد في براثنه )

    أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم, والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه ليقود جيوش المسلمين, في معركة فاصلة ضد الفرس.
    وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..
    ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود, وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه..

    وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف, معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والإسلام يعيش أيامه الفاصلة, عمل غير سديد..

    وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي:_الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب, فانتقل مع بعض أهل المدينة إلى حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي إلى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف, وقرر المجتمعون أن يعود عمر إلى المدينة, وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..
    ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي, وعاد يسأل أصحابه:
    فمن ترون أن نبعث إلى العراق..؟؟
    وصمتوا قليلا يفكرون..
    ثم صاح عبد الرحمن بن عوف: وجدته..!!
    قال عمر: فمن هو..؟
    قال عبد الرحمن: "الأسد في براثنه.. سعد بن مالك الزهري.."

    وأيّد المسلمون هذا الاختيار, وأرسل أمير المؤمنين إلى سعد بن مالك الزهري "سعد بن أبي وقاص" وولاه إمارة العراق, وقيادة الجيش..
    فمن هو الأسد في براثنه..؟
    من هذا الذي كان إذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:
    "هذا خالي.. فليرني امرؤ خاله"..!!

    إنه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف, عم السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    لقد عانق الإسلام وهو ابن سبع عشرة سنة, وكان إسلامه مبكرا, وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:
    " .. ولقد أتى عليّ يوم, واني لثلث الإسلام"..!!
    يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا إلى الإسلام..

    ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد, وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه, وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه إلى رسول الله مبايعا..
    وانّ كتب التاريخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا بإسلام أبي بكر وعلى يديه..
    ولعله يومئذ أعلن إسلامه مع الذين أعلنوه بإقناع أبي بكر ايّاهم, وهم عثمان ابن عفان, والزبير ابن العوّام, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة بن عبيد الله.
    ومع هذا لا يمنع سبقه بالإسلام سرا..
    وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..
    بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك, إلا بشيئين عظيمين..
    أولهما: أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله, وأول من رمي أيضا..
    وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:
    " ارم سعد فداك أبي وأمي"..

    أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين, ويلهج يشكر الله عليهما فيقول:
    " والله إني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله".
    ويقول علي ابن أبي طالب:
    " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه إلا سعدا, فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي وأمي"..
    كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين, وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..

    إذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. وإذا دعا الله دعاء أجابه..!!
    وكان, وأصحابه معه, يردّون ذلك إلى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما سرّه وقرّ عينه, دعا له هذه الدعوة المأثورة..
    " اللهم سدد رميته.. وأجب دعوته".

    وهكذا عرف بين إخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع, وعرف هو ذلك نفسه وأمره, فلم يكن يدعو على أحد إلا مفوّضا إلى الله أمره.

    من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:
    " رأى سعد رجلا يسب عليا, وطلحة والزبير فنهاه, فلم ينته, فقال له: إذن أدعو عليك, فقال الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!
    فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين, ثم رفع يديه وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى, وأنه قد أسخطك سبّه إيّاهم, فاجعله آية وعبرة..
    فلم يمض غير وقت قصير, حتى خرجت من إحدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس, كأنها تبحث عن شيء, ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..
    إن هذه الظاهرة, تنبئ أوّل ما تنبئ عن شفافية روحه, وصدق يقينه, وعمق إخلاصه.

    وكذلكم كان سعد, روحه حر.. ويقينه صلب.. وإخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال, فهو يرفض في إصرار عظيم كل درهم فيه أثارة من شبهة..
    ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم, ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فإذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان, فقد اجتمعا بين يدي سعد.. إذ آتاه الله الكثير, الحلال, الطيب..
    وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص, يضاهيها, قدرته في إنفاقه في سبيل الله..

    في حجة الوداع, كان هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصابه المرض, وذهب الرسول يعوده, فسأله سعد قائلا:
    "يا رسول الله, إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة, أفأتصدّق بثلثي مالي..؟
    قال النبي: لا.
    قلت: فبنصفه؟
    قال النبي: لا.
    قلت: فبثلثه..؟
    قال النبي: نعم, والثلث كثير.. انك إن تذر ورثتك أغنياء, خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس, وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها, حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"..
    ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..

    وكان سعد كثير البكاء من خشية الله.
    وكان إذا استمع للرسول يعظهم, ويخطبهم, فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملأ حجره..
    وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..

    ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه, رنا بصره إلى الأفق في إصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:
    " يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة"..
    وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..
    وبعد حين قريب, طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.
    ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا إياه في إلحاح أن يدله على ما يتقرّب إلى الله من عمل وعبادة, جعله أهل لهذه المثوبة, وهذه البشرى.. فقال له سعد:
    " لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..
    غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".

    هذا هو الأسد في براثنه, كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..
    وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..
    كانت كل مزاياه تتألق أمام بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الإسلام والمسلمين..
    انه مستجاب الدعوة.. إذا سأل الله النصر أعطاه إياه..
    زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..
    وانه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..
    وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    وأخرى, لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور, تلك هي صلابة الإيمان..

    إن عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..
    يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه إلى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله وذويه..

    لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب, حتى يعود سعد إلى دين آبائه وقومه, ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلاك..
    كل ذلك وسعد لا يبالي, ولا يبيع إيمانه ودينه بشيء, حتى ولو يكون هذا الشيء حياة أمه..
    وحين كانت تشرف على الموت, أخذه بعض أهله إليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..

    وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..
    بيد أن إيمانه بالله ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر, وعلى كل لاذ, فاقترب بوجهه من وجه أمه, وصاح بها لتسمعه:
    " تعلمين والله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس, فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء..
    فكلي إن شئت أو لا تأكلي"..!!
    وعدلت أمه عن عزمها.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد, ويؤيده فيقول:
    ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {15}لقمان)..
    أليس هو الأسد في براثنه حقا..؟؟

    إذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائة ألف من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ, وأدهى دهاتها..
    أجل إلى هؤلاء في فيالقهم الرهيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديهم رماح.. ولكن في قلوبهم إرادة الدين الجديد بكل ما تمثله من إيمان وعنفوان, وشوق نادر وباهر إلى الموت و إلى الشهادة..!!
    والتقى الجمعان.
    ولكن لا.. لم يلتق الجمعان بعد..
    وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته.. وها هو ذا كتاب عمر إليه يأمره فيه بالمبادرة إلى القادسية, فإنها باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:
    " يا سعد بن وهيب..
    لا يغرّنّك من الله, أن قيل: خال رسول الله وصاحبه, فان الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته.. والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سوء.. الله ربهم, وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية, ويدركون ما عند الله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه, فالزمه, فانه الأمر."
    ثم يقول له:
    " اكتب إليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟
    وأين يكون عدوّكم منكم..
    واجعلني بكتبك إليّ كأني أنظر إليكم"..!!

    ويكتب سعد إلى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.
    وينزل سعد القادسية, ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا, كما لم يتجمعوا من قبل, ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"..

    ويكتب سعد إلى عمر, فيكتب إليه أمير المؤمنين:
    " لا يكربنّك ما تسمع منهم, ولا ما يأتونك به, واستعن بالله, وتوكل عليه, وابعث إليه رجالا من أهل لنظر والرأي والجلد, يدعونه إلى الله.. واكتب إليّفي كل يوم.."
    ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين قائلا:
    " إن رستم قد عسكر بساباط وجرّ الخيول والفيلة وزحف علينا".
    ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..
    إن سعد الفارس الذكي المقدام, خال رسول الله, والسابق إلى الإسلام, بطل المعارك والغزوات, والذي لا ينبو له سيف, ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في إحدى معارك التاريخ الكبرى, ويقف وكأنه جندي عادي.. لا غرور القوة, ولا صلف الزعامة, يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل هو يلجأ إلى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد, فيرسل له كل يوم كتابا, ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب, المشورة والرأي...

    ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده, ولا يقرر وحجه.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول الله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب, أن يحرم نفسه, ولا أن يحرم جيشه, من بركة الشورى وجدواها, لا سيّما حين يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..

    وينفذ سعد وصية عمر, فيرسل إلى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه إلى الله وإلى الإسلام..
    ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس, وأخيرا ينهون الحديث معه إذ يقول قائلهم:
    " إن الله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية إلى التوحيد... ومن ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام..
    فمن قبل ذلك منا, قبلنا منه, ورجعنا عنه, ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي إلى وعد الله.."
    ويسأل رستم: وما وعد الله الذي وعدكم إياه..؟؟
    فيجيبه الصحابي:
    " الجنة لشهدائنا, والظفر لأحيائنا".
    ويعود ليوفد إلى قائد المسلمين سعد, ليخبروه أنها الحرب..
    وتمتلئ عينا سعد بالدموع..

    لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا, أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس, فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!
    فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم, أو لو أنها استأخرت حتى يبلى ويشفى, إذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما الآن.. ولكن, لا, فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو هذه تعني العجز, والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة, ولا يعجز أبدا..

    عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا, مستهلا خطابه بالآية الكريمة:
    ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{105}الحج)..
    وبعد فراغه من خطبته, صلى بالجيش صلاة الظهر, ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
    ودوّى الكل وأوّب مع المكبرين, ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا إلى العدو, وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..

    وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه إلى شرفة الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته..وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..
    دمامله تنبح وتنزف, ولكنه عنها في شغل, فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!
    وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل, يجعل من كل جندي فردا, جيشا بأسره..
    وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح. وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!
    وطارت فلولهم المهزومة بعد أن رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم, وطاردهم الجيش المسلم حتى نهاوند.. ثم المدائن فدخلوها ليحملوا إيوان كسرى وتاجه, غنيمة وفيئا..!!

    وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..
    وكانت موقعة المدائن, بعد موقعة القادسية بقرابة عامين, جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين, حتى تجمعن كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها, متأهبة لموقف أخير وفاصل..
    وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه..
    هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!

    إن إيمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر, ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!
    وهكذا أصدر سعد أمره إلى جيشه بعبور نهر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..

    وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عملية المرور فطن القائد سعد إلى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العدو حولها.. وعندئذ جهز كتيبتين..
    الأولى: واسمها كتيبة الأهوال وأمّر سعد عليها عاصم بن عمرو والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع بن عمرو..

    وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد أدوا العمل بمهارة مذهلة..
    ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون..
    نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه..
    وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة, ويقول:
    " إن الإسلام جديد..
    ذلّلت والله لهم البحار, كما ذلّل لهم البرّ..
    والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا, كما دخلوه أفواحا"..!!
    ولقد كان .. وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا, خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا, بل لم تضع منهم شكيمة فرس..

    ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه, فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء, فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله, ودفعته موجة عالية إلى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!

    وتصف لنا إحدى الروايات التاريخية, روعة المشهد وهم يعبرون دجلة, فتقول:
    [أمر سعد المسلمين أن يقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة, واقتحم الناس وراءه, لم يتخلف عنه أحد, فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين, ولم يعد وجه الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة, وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه الماء كأنهم يتحدون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن, والوثوق بأمر الله ونصره ووعيده وتأييده]..!!

    ويوم ولى عمر سعدا إمارة العراق, راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة, وأرسى قواعد الإسلام في البلاد العريضة الواسعة..
    وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين.. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد, فزعموا زعمهم الضاحك, قالوا:" إن سعدا لا يحسن يصلي"..!!
    ويضحك سعد من ملء فاه, ويقول:
    "والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله.. أطيل في الركعتين الأوليين, وأقصر في الأخريين"..
    ويستدعيه عمر إلى المدينة, فلا يغضب, بل يلبي نداءه من فوره..
    وبعد حين يعتزم عمر إرجاعه إلى الكوفة, فيجيب سعد ضاحكا:
    " أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟
    ويؤثر البقاء في المدينة..

    وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه, اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام, ستة رجال, ليكون إليهم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض.. وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.
    بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة, أنه لو كان مختارا لخلافة واحد من الصحابة لاختار سعدا..
    فقد قال لأصحابه وهو يودعهم ويوصيهم:
    " إن وليها سعد فذاك..
    وإن وليه غيره فليستعن بسعد".

    ويمتد العمر بسعد.. وتجيء الفتنة الكبرى, فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا إليه شيئا من أخبارها..
    وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه, ويذهب إليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص, ويقول له:
    يا عم, ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر.

    فيجيبه سعد:
    " أريد من مائة ألف سيف, سيفا واحدا.. إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا, وإذا ضربت به الكافر قطع"..!!
    ويدرك ابن أخيه غرضه, ويتركه في عزلته وسلامه..
    وحين انتهى الأمر لمعاوية, واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:
    مالك لم تقاتل معنا..؟؟
    فأجابه:
    " اني مررت بريح مظلمة, فقلت: أخ .. أخ..
    واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."
    فقال معاوية: ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى:
    (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9}الحجرات).
    وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة, ولا مع العادلة على الباغية.
    أجابه سعد قائلا:
    " ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله: أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".

    وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة, وقد جاوز سعد الثمانين, كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء الله.
    ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول:
    [ كان رأس أبي في حجري, وهو يقضي, فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ..؟؟
    إن الله لا يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]..!!
    إن صلابة إيمانه لا يوهنها حتى رهبة الموت وزلزاله.
    ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق إيمان.. وإذن ففيم الخوف..؟
    [ إن الله لا يعذبني أبدا, وإني من أهل الجنة].

    بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار إلى خزانته ففتوحها, ثم أخرجوا منها رداء قديما قد بلي وأخلق, ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا:
    [ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر, ولقد ادخرته لهذا اليوم]..!!

    اجل, إن ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. إنه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا, صادقا شجاعا!!
    وفوق أعناق الرجال حمل إلى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة, ليأخذ مكانه في سلام إلى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه إلى الله, ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه.

    وداعا يا سعد..!!
    وداعا يا بطل القادسية, وفاتح المدائن, ومطفئ النار المعبودة في فارس إلى الأبد..!!



    •   Alt 

       

  2. #22
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبّاد بن بشر ( معه من الله نور )


    عندما نزل مصعب بن عمير المدينة موفدا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليعلم الأنصار الذين بايعوا الرسول على الإسلام, وليقيم بهم الصلاة, كان عباد بن بشر رضي الله عنه واحدا من الأبرار الذين فتح الله قلوبهم للخير, فأقبل على مجلس مصعب وأصغى إليه ثم بسط يمينه يبايعه على الإسلام, ومن يومئذ أخذ مكانه بين الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه..
    وانتقل النبي إلى المدينة مهاجرا, بعد أن سبقه إليها المؤمنون بمكة.
    وبدأت الغزوات التي اصطدمت فيها قوى الخير والنور مع قوى الظلام والشر.
    وفي تلك المغازي كان عباد بن بشر في الصفوف الأولى يجاهد في سبيل الله متفانيا بشكل يبهر الألباب.
    ولعل هذه الواقعة التي نرويها الآن تكشف عن شيء من بطولة هذا المؤمن العظيم..
    بعد أن فرغ رسول الله والمسلمين من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه, واختار الرسول للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة.
    ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا, فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذ صاحبه من الراحة حظا يمكنه من استئناف الحراسة بعد أن يصحو.
    ورأى عباد أن المكان من حوله آمن, فلم لا يملأ وقته إذن بالصلاة, فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة..؟!
    وقام يصلي..
    وإذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سور من القرآن, احترم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته..!
    ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثان نزعه وأنهى تلاوته..
    ثم ركع, وسجد.. وكانت قواه قد بددها الإعياء والألم, فمدّ يمينه وهو ساجد الى صاحبه النائم جواره, وظل يهزه حتى استيقظ..
    ثم قام من سجوده وتلا التشهد.. وأتم صلاته.
    وصحا عمار على كلماته المتهدجة المتعبة تقول له:
    " قم للحراسة مكاني فقد أصبت".
    ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين, ففرّوا ثم التفت إلى عباد وقال له:
    " سبحان الله..
    هلا أيقظتني أوّل ما رميت"؟؟
    فأجابه عباد:
    " كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها.
    ووالله, لولا أن أضيع ثغرا أمرني الرسول بحفظه, لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها"..!!

    كان عباد شديد الولاء والحب لله, ولرسوله ولدينه..
    وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله.
    ومنذ سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطبا الأنصار الذين هو منهم:
    " يا معشر الأنصار..
    أنتم الشعار, والناس الدثار..
    فلا أوتيّن من قبلكم".

    نقول منذ سمع عباد هذه الكلمات من رسوله, ومعلمه, وهاديه الى الله, وهو يبذل روحه وماله وحياته في سبيل الله وفي سبيل رسوله..
    في مواطن التضحية والموت, يجيء دوما أولا..
    وفي مواطن الغنيمة والأخذ, يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدوه..!
    وهو دائما: عابد, تستغرقه العبادة..
    بطل, تستغرقه البطولة..
    جواد, يستغرقه الجود..
    مؤمن قوي نذر حياته لقضية الإيمان..!!
    وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
    " ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد:
    " سعد بن معاذ..
    وأسيد بن خضير..
    وعبّاد بن بشر...

    وعرف المسلمون الأوائل عبادا بأنه الرجل الذي معه نور من الله..
    فقد كانت بصيرته المجلوّة المضاءة تهتدي إلى مواطن الخير واليقين في غير بحث أو عناء..
    بل ذهب إيمان إخوانه بنوره إلى الحد الذي أسبغوا عليه في صورة الحس والمادة, فأجمعوا على ان عبادا كان اذا مشى في الظلام انبعثت منه أطياف نور وضوء, تضيء له الطريق..

    وفي حروب الردة, بعد وفاة الرسول عليه السلام, حمل عباد مسؤولياته في استبسال منقطع النظير..
    وفي موقعة اليمامة التي واجه المسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر الجيوش تحت قيادة مسيلمة الكذاب أحسّ عبّاد بالخطر الذي يتهدد الإسلام..
    وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكلان وفق المهام التي يلقيها عليه إيمانه, ويرتفعان إلى مستوى إحساسه بالخطر ارتفاعا يجعل منه فدائيا لا يحرص على غير الموت والشهادة..

    وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم, رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن فسرت مع شمس النهار, وفوق أرض المعركة الهائلة الضارية التي خاضها المسلمون..
    ولندع صحابيا جليلا هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقص علينا الرؤيا التي رآها عبّاد وتفسيره لها, ثم موقفه الباهر في القتال الذي انتهى باستشهاده..
    يقول أبو سعيد:
    " قال لي عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة, كأن السماء قد فرجت لي, ثم أطبقت عليّ..
    واني لأراها إن شاء الله الشهادة..!!
    فقلت له: خيرا والله رأيت..
    واني لأنظر إليه يوم اليمامة, وانه ليصيح بالأنصار:
    احطموا جفون السيوف, وتميزوا من الناس..
    فسارع إليه أربعمائة رجل, كلهم من الأنصار, حتى انتهوا إلى باب الحديقة, فقاتلوا أشد القتال..
    واستشهد عباد بن بشر رحمه الله..
    ورأيت في وجهه ضربا كثيرا, وما عرفته إلا بعلامة كانت في جسده..

    هكذا ارتفع عباد إلى مستوى واجباته كمؤمن من الأنصار, بايع رسول الله على الحياة لله, والموت في سبيله..
    وعندما رأى المعركة الضارية تتجه في بدايتها لصالح الأعداء, تذكر كلمات رسول الله لقومه الأنصار:
    " أنتم الشعار..
    فلا أوتيّن من قبلكم"..
    وملأ الصوت روعه وضميره..
    حتى لكأن الرسول عليه الصلاة والسلام قائم الآن يردده كلماته هذه..
    وأحس عباد أن مسؤولية المعركة كلها إنما تقع على كاهل الأنصار وحدهم.. أو على كاهلهم قبل سواهم..
    هنالك اعتلى ربوة وراح يصيح:
    " يا معشر الأنصار..
    احطموا جفون السيوف..
    وتميزوا من الناس..
    وحين لبّى نداءه أربعمائة منهم قادهم هو وأبو دجانة والبراء ابن مالك إلى حديقة الموت حيث كان جيش مسيلمة يتحصّن.. وقاتل البطل القتال اللائق به كرجل.. وكمؤمن.. وكأنصاري..

    وفي ذلك اليوم المجيد استشهد عباد..
    لقد صدقت رؤياه التي رآها في منامه بالأمس..
    ألم يكن قد رأى السماء تفتح, حتى إذا دخل من تلك الفرجة المفتوحة, عادت السماء فطويت عليه, وأغلقت؟؟
    وفسرّها هو بأن روحه ستصعد في المعركة المنتظرة إلى بارئها وخالقها..؟؟
    لقد صدقت الرؤيا, وصدق تعبيره لها.
    ولقد تفتحت أبواب السماء لتستقبل في حبور, روح عبّاد بن بشر..
    الرجل الذي كان معه من الله نور..!!

  3. #23
    إدارة السبلة العُمانية
    كاتبة خواطر والخبيرة الإدارية بالسبلة الإسلامية
    الصورة الرمزية تباشيرالأمل
    تاريخ التسجيل
    Oct 2013
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    63,029
    Mentioned
    161 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    صباح الخير



    ميران لله درك ما أروع طرحك وما اعطره

    رجال عطرة سيرتهم المكان رضوان الله عليهم أجمعين

    وجمعنا بهم في عليين



    سير عطره لنا فيهم أسوة


    طرح يستحق النجوم الخمس بجداره


    بورك فيك

    .
    يارب ..
    واجعلنا من الذين يُبقون أثرًا طيباً في قلوب الناس بعد الرحيل 🌿🕊



  4. #24
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة تباشيرالأمل مشاهدة المشاركة
    صباح الخير



    ميران لله درك ما أروع طرحك وما اعطره

    رجال عطرة سيرتهم المكان رضوان الله عليهم أجمعين

    وجمعنا بهم في عليين



    سير عطره لنا فيهم أسوة


    طرح يستحق النجوم الخمس بجداره


    بورك فيك

    صبآح الخير عزيزتي تباشير الأمل ... سرني تواجدك
    أشكرك على المرور الأكثر من رائع .. وشكرآ جزيلآ على التقييم
    الله يسعدك ....,,

  5. #25
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبو أيوب الأنصاري ( انفروا خفافا وثقالا )

    كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة, ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..
    وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة, ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..
    وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف, فاعترضوا طريق الناقة قائلين:
    " يا رسول الله, أقم عندنا, فلدينا العدد والعدة والمنعة"..
    ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:
    " خلوا سبيلها فإنها مأمورة".
    ويبلغ الموكب دور بني بياضة, فحيّ بني ساعدة, فحي بني الحارث بن الخزرج, فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة, وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:
    " خلوا سبيلها فإنها مأمورة..

    لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه إلى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. وإلى جواره ستقوم حجرة أو حجرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف, أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم, ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم لله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
    أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..
    من اجل هذا, ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله, فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه إلى الله بقلبه, وابتهل إليه بلسانه:
    " اللهم خر لي, واختر لي"..
    وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان, ثم عادت إلى مبركها الأول, وألقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..
    أتدرون من كان هذا السعيد الموعود الذي بركت الناقة أمام داره, وصار الرسول ضيفه, ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟
    انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد, حفيد مالك بن النجار..
    لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..
    فمن قبل, وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـبيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين, مناصرين.

    والآن رسول الله يشرف المدينة, ويتخذها عاصمة لدين الله, فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم, والرسول الكريم.
    ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد إلى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة, ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما, وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!
    وراح يلح على النبي ويرجوه إن ينتقل إلى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..
    ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد, وبناء حجرة له بجواره..
    ومنذ بدأت قريش تتنمّر للإسلام وتشن غاراتها على دار الهجرة بالمدينة, وتؤلب القبائل, وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..
    منذ تلك البداية, واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.
    ففي بدر, وأحد والخندق, وفي كل المشاهد والمغازي, كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..
    وبعد وفاة الرسول, لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها, مهما يكن بعد الشقة, وفداحة المشقة..!
    وكان شعاره الذي يردده دائما, في ليله ونهاره.. في جهره وإسراره.. قول الله تعالى:
    ( انفروا خفافا وثقالا)..
    مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين, ولم يقتنع أبو أيوب بإمارته.
    مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه, ويقول:
    " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟
    ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!

    كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الإسلام, يقاتل تحت رايته, ويذود عن حرمته..
    ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية, وقف مع علي في غير تردد, لأنه الإمام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة لمعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة, الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يجد له مكان فوق أرض الوغى, وبين صفوف المجاهدين..
    وهكذا, لم يكد يبصر جيش الإسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه, وحمل سيفه, وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ إليه واشتاق..!!

    وفي هذه المعركة أصيب.
    وذهب قائد جيشه ليعوده, وكانت أنفاسه تسابق أشواقه إلى لقاء الله..
    فسأله القائد, وكان يزيد بن معاوية:
    " ما حاجتك أبا أيوب"؟
    ترى, هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟
    كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر, وكل تخيّل لبني الإنسان..!!
    لقد طلب من يزيد, إذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به إلى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو, وهنالك يدفنه, ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق, حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره, فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!
    أتحسبون هذا شعرا..؟
    لا.. ولا هو بخيال, بل واقع, وحق شهدته الدنيا ذات يوم, ووقفت تحدق بعينيها, وبأذنيها, لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!
    ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..
    وفي قلب القسطنطينية, وهي اليوم استانبول, ثوى جثمان رجل عظيم, جدّ عظيم..!!

    وحتى قبل أن يغمر الإسلام تلك البقاع, كان أهل القسطنطينية من الروم, ينظرون إلى أبي أيوب في قبره نظرتهم إلى قدّيس...
    وانك لتعجب إذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:
    " وكان الروم يتعاهدون قبره, ويزورونه.. ويستسقون به إذا قحطوا"..!!

    وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول, والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح, على الرغم من ذلك, فان حياته كانت هادئة, نديّة كنسيم الفجر..

    ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:
    " وإذا صليت فصل صلاة مودّع..
    ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..
    والزم اليأس مما في أيدي الناس"...
    وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..
    ولم تهف نفسه إلى مطمع..
    وقضى حياته في أشواق عابد, وعزوف مودّع..
    فلما جاء أجله, لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:
    " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...
    كان يؤمن بالنصر, وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع, وقد أخذت مكانها بين واحات الإسلام, ودخلت مجال نوره وضيائه..
    ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك, في عاصمة تلك البلاد, حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة, وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب, أن يتابع جيوش الإسلام في زحفها, فيسمع خفق أعلامها, وصهيل خيلها, ووقع أقدامها, وصصلة سيوفها..!!
    وانه اليوم لثاو هناك..
    لا يسمع صلصلة السيوف, ولا صهيل الخيول..
    قد قضي الأمر, واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..
    لكنه يسمع كل يوم من صبحه إلى مسائه, روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..
    أن:
    الله أكبر..
    الله أكبر..
    وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها, وسنا مجدها:
    هذا ما وعدنا الله ورسوله
    وصدق الله ورسوله....

  6. #26
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عمرو بن العاص ( محرّر مصر من الرومان )

    كانوا ثلاثة في قريش, اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وإيذائهم أصحابه..
    وراح الرسول يدعو عليهم, ويبتهل إلى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه..
    وإذ هو يدعو ويدعو, تنزل الوحي على قلبه بهذه الآية الكريمة..
    ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم, فإنهم ظالمون)..
    وفهم الرسول من الآية أنها أمر له بالكف عن الدعاء عليهم, وترك أمرهم إلى الله وحده..
    فإمّا أن يظلوا على ظلمهم, فيحلّ بهم عذابه..
    أو يتوب عليهم فيتوبوا, وتدركهم رحمته..
    كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء الثلاثة..
    ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم إلى الإسلام..
    وتحول عمرو بن العاص إلى مسلم مناضل. وإلى قائد من قادة الإسلام البواسل..
    وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو التي لا نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها, فان دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى, ونافح وكافح, سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا..
    وهنا في مصر بالذات, سيظل الذين يرون الإسلام دينا قيما مجيدا..
    ويرون في رسوله رحمة مهداة, ونعمة مزجاة, ورسول صدق عظيم, دعا إلى الله على بصيرة, وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها..
    سيظل الذين يحملون هذا الإيمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا, وأي سبب, لإهداء الإسلام إلى مصر, وإهداء مصر إلى الإسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها..
    ذلكم هو: عمرو بن العاص رضي الله عنه..
    ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوا عمرا بفاتح مصر..
    بيد أنا نرى في هذا الوصف تجوزا وتجاوزا, ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بمحرر مصر..
    فالإسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح, إنما كان يحررها من تسلط إمبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب, تانك هما:
    إمبراطورية الفرس.ز وإمبراطورية الروم..
    ومصر بالذات, يوم أهلت عليها طلائع الإسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى..
    ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة أن:
    " الله أكبر..
    الله أكبر"..
    سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه, واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..
    فعمرو بن العاص ورجاله, لم يفتحوا مصر إذن.. إنما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصايرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله, ومبادئ الإسلام..
    ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة, ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها..
    من أجل ذلك نجده يتحدث إلى زعماء النصارى يومئذ وكبار أساقفتهم, فيقول:
    "... إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به..
    وانه عليه الصلاة والسلام, قد أدّى رسالته, ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم..
    وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس, فنحن ندعوكم إلى الإسلام..
    فمن أجابنا, فهو منا, له ما لنا وعليه ما علينا..
    ومن لم يجبنا إلى الإسلام, عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة..
    ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا, وأوصانا بأهلها خيرا فقال:" ستفتح عليكم بعدي مصر, فاستوصوا بقبطها خيرا, فإن لهم ذمّة ورحما"..
    فان أجبتمونا إلى ما ندعوكم إليه كانت لكم ذمة إلى ذمة"...
    وفرغ عمرو من كلماته, فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:
    " إن الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم, لهي قرابة بعيدة, لا يصل مثلها إلا الأنبياء"..!!
    وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان يكن قادة الرومان قد حاولوا العمل لإحباطها..

    وعمرو بن العاص لم يكن من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل..
    ومن عجب أن إسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا ويحترمه بسبب تردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب..
    وسأل عاهل الحبشة عمرا, كيف لم يؤمن به ويتبعه, وهو رسول من الله حقا..؟؟
    وسأل عمرو النجاشي قائلا:
    " أهو كذلك؟؟"
    وأجابه النجاشي:
    " نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه, فانه والله لعلى الحق, وليظهرنّ على من خالفه"..؟!
    وركب عمرو ثلج البحر من فوره, عائدا إلى بلاده، وميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين..
    وفي الطريق المؤدية إلى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا إلى الرسول ليبايعه على الإسلام..
    ولك يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:
    " لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها"..
    وتقدم خالد فبايع..
    ثم تقدم عمرو فقال:
    " إني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي"..
    فأجابه الرسول عليه السلام قائلا:
    " يا عمرو..
    بايع، فان الإسلام يجبّ ما كان قبله"..
    وبايع عمرو ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.
    وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى, كان عمرو واليا على عمان..
    وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام, ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.

    وياليت عمرو بن العاص كان قد قاوم نفسه في حب الإمارة..
    إذن لكان قد تفوّق كثيرا على بعض المواقف التي ورّطه فيها الحب.
    على أن حب عمرو الإمارة, كان إلى حد ما, تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب..
    بل إن شكله الخارجي, وطريقته في المشي وفي الحديث, كانت تومئ إلى أنه خلق للإمارة..!! حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:
    " ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض إلا أميرا"..!
    والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق..
    وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين.. كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!
    ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...
    حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس..
    نقول: لو علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، إنما أرسل إليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه إلى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.
    ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للإمارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد إبقاءه في الولاية لحظة.

    وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء, قوي البديهة عميق الرؤية..
    حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى إنسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:
    " سبحان الله..!!
    إن خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!
    كما كان بالغ الجرأة مقداما
    ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن, فيظن به الجبن أو الهلع.. بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!
    ولقد كان أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله إلى الشام قبل مجيئه إلى مصر, قيل لأمير المؤمنين: إن على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:
    " لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!
    ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا إلى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الإسلام.

    وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.
    وان كنا لا نحسب منها بحال موقفه من أبي موسى الأشعري في واقعة التحكيم حين اتفقا على أن يخلع كل منهما عليا ومعاوية, ليرجع الأمر شورى بين المسلمين، فأنفذ أبو موسى الاتفاق، وقعد عن إنفاذه عمرو.
    وإذا أردنا أن نشهد صورة لدهائه, وحذق بديهته, ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..
    إذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بإلقاء صخرة فوقه إثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..
    ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق إلى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.
    وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.
    لقد عاد إلى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة, كأن لم يفزعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!
    ودخل على القائد وقال له:
    لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين إلى الإسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دون مشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..
    وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!
    فليوافقه إذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..
    وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بإرجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..
    ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،
    وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..

    وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه إلى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.
    أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!

    وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..
    وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:
    ".. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله, فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..
    ثم بايعت رسول الله, فما كان في الناس أحد أحب إليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه إجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..
    ثم بليت بعد ذلك بالسلطان, وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ"..

    ثم رفع بصره إلى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:
    " اللهم لا بريء فأعتذر, ولا عزيز فأنتصر،
    وإلا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!
    وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت إلى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله إلا الله..

    وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الإسلام، ثوى رفاته..
    وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول مسجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الإسلام.

  7. #27
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    قيس بن سعد بن عبادة ( أدهى العرب لولا الإسلام )

    كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم..
    وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..
    ذلك أنه كان أجرد, ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم.
    فمن هذا الفتى الذي ودّ قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه, وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية, وزعامته المتفوقة..؟؟
    انه قيس بن سعد بن عبادة.
    من أجود بيوت العرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:
    " إن الجود شيمة أهل هذا البيت"..
    وانه الداهية الذي يتفجر حيلة, ومهارة, وذكاء, والذي قال عن نفسه وهو صادق:
    " لولا الإسلام, لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!!
    ذلك أنه حادّ الذكاء, واسع الحيلة, متوقّد الذهن.

    ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم, بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكرالسَّيِّئُ الخطر, ثم يذكر قول الله سبحانه:
    ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ)..
    فيهبّ من فوره مستنكرا, ومستغفرا, ولسان حاله يقول:
    " والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا, فلن يغلبنا بذكائه, بل بورعنا وتقوانا"..!!
    إن هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم, ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة, زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..
    وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه إلى الرسول قائلا:
    " هذا خادمك يا رسول الله"..
    ورأى لرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمارات الصلاح..
    فأدناه منه وقرّبه إليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما..
    يقول أنس صاحب رسول الله r:
    " كان قيس بن سعد من النبي, بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..
    وحين كان قيس, قبل الإسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن, ولم يكن في المدينة وما حولها إلا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم, علّمه الإسلام أن يعامل الناس بإخلاصه, لا بدهائه, ولقد كان ابنا بارّا للإسلام, ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا, ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا, يأخذه الحنين إلى دهائه المقيد, فيقول عبارته المأثورة:
    " لولا الإسلام, لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!!

    ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس, فهو من بيت عريق في الجود والسخاء, كان لأسرة قيس, على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ, مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان إلى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم, واللحم, فليأت أطم دليم بن حارثة"...
    ودليم بن حارثة, هو الجد الثاني لقيس..
    ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح..
    تحّدث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقالا:
    " لو تركنا هذا الفتى لسخائه, لأهلك مال أبيه"..
    وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس, فصاح قائلا:
    " من يعذرني من أبي قحافة, وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!!
    وأقرض أحد إخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا..
    وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ إلى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:
    " إنا لا نعود في شيء أعطيناه"..!!

    وللفطرة الإنسانية نهج لا يتخلف, وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة..
    أجل إن الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان, لا يتخلف أحدهما عن الآخر أبدا.. وإذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وإنما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الإدّعاء... وإذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود, فاعلم أنها ليست شجاعة, إنما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش...
    ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والإقدام..

    لكأنه المعنيّ بقول الشاعر:
    إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
    تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ..
    وواصلت تألقها, في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى..
    والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والمواجهة, لا بالمناورة والمراوغة, تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..
    ومنذ ألقى قيس وراء ظهره, قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة, وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة, وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات...
    إن الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده..
    هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة, إنما يكوّنه الصدق مع النفس, والإخلاص للحق...

    وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية, نرى قيسا يخلو بنفسه, ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه, حتى إذا ما رآه مع عليّ ينهض إلى جواره شامخا, قويا مستبسلا..
    وفي معارك صفّين, والجمل, ونهروان, كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..
    كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح:
    هذا اللواء الذي كنـــــا نخفّ به مع النبي وجبريــل لنا مدد
    ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته ألا يكون له من غيرهم أحد
    ولقد ولاه الإمام عليّ حكم مصر..
    وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر إليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر...

    من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى إمارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر إلى الأبد, حتى لو انتصر هو على الإمام عليّ انتصارا حاسما..
    وهكذا راح بكل وسائله الماكرة, وحيله التي لا تحجم عن أمر, يدسّ عند علي ضدّ قيس, حتى استدعاه الإمام من مصر..

    وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا, فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته إلى جانبه, لكي يوغر صدره ضدّ الإمام علي, ولكي يضائل من ولائه له.. وإذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ, والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..
    وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية, وما الإمارة, وما المناصب كلها عند قيس إلا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت إمارته على مصر وسيلة لخدمة الحق, فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة..

    وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها, بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن..
    لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه, هو الوارث الشرعي للإمامة فبايعه ووقف إلى جانبه غير ملق إلى الأخطار وبالا..
    وحين يضطرّهم معاوية لامتشاق السيوف, ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الإمام علي..
    ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها, ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه..

    هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد, فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب, فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير, وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:
    " إن شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا, وان شئتم أخذت لكم أمانا:..
    واختار جنوده الأمر الثاني, فأخذ لهم الإمام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة...
    وفي المدينة المنوّرة, عام تسع وخمسين, مات الداهية الذي روّض الإسلام دهاءه..
    مات الرجل الذي كان يقول:
    لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول:
    " المكر والخديعة في النار, لكنت من أمكر هذه الأمة"..
    أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للإسلام عنده من ذمّة, وعهد وميثاق...

  8. #28
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبادة بن الصامت ( نقيب في حزب الله )

    إنه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا, لسلكت وادي الأنصار وشعبهم, ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار".. وعبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار, فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم...
    وحينما جاء وفد الأنصار الأول إلى مكة ليبايع الرسول عليه السلام, تلك البيعة المشهورة بـبيعة العقبة الأولى, كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا, الذين سارعوا إلى الإسلام, وبسطوا أيمانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين, وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين...

    وحينما كان موعد الحج في العام التالي, يشهد بيعة العقبة الثانية يبايعها وفد الأنصار الثاني, مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة, كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار..

    وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل, والفداء تتابع, كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...
    ومنذ اختار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار..
    كل ولائه لله, وكل طاعته لله, وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه إنما يشكلها إيمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الإيمان..
    كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..

    ومنذ هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة, ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد, فشرع يهود المدينة يتنمّرون..
    وافتعلت إحدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..
    ولا يكاد عبادة يرى موقفهم هذا, حتى ينبذ إلى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا:
    " إنما أتولى الله, ورسوله, والمؤمنين...
    فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه, قائلا في آياته:
    ( وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )المائدة{56}

    لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله..
    وحزب الله, هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق, والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم, مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم..

    ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة, والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها, ضمّا إلى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله..

    وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وإيمانه, لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة, بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا.
    أجل لقد أصبح عبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج, رائدا من روّاد الإسلام, وإمام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل, ولا في جبلين, أو ثلاثة بل إلى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!!

    سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤولية الأمراء والولاة..
    سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام, عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق, أو تعبث ذمته بمال, فزلزل زلزالا, وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..
    ولقد برّ بقسمه..
    وفي خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه, لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما, إلا تعليم الإنس وتفقيههم في الدين.
    أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة, مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى, المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء, والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه
    وهكذا سافر إلى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤوا البلاد علما وفقها ونورا...
    وسافر عبادة إلى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك, معاوية..

    كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره إلى ما وراء الحدود.. إلى المدينة المنورة عاصمة الإسلام ودار الخلافة, فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!!
    ثم يرتد بصره إلى حيث يقيم, في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا, ويعشق السلطان...
    وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية, وعانق الإسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله...
    عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه, وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته..
    وإذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة, وقلبه ثقة, فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب..
    فإذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس, فستكون الشقة بين الاثنين واسعة, وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!!

    يقول عبادة رضي الله عنه:
    " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم"..
    وعبادة خير من يفي بالبيعة. وإذن فهو لن يخشى معاوية بكل سلطانه, وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه..
    ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية إلى أقطار كثيرة من بلاد الإسلام فكانت قدوة ونبراسا..
    وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه..
    ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع, فقال لمعاوية:" والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا".. وغادر فلسطين إلى المدينة..

    كان أمير المؤمنين عمر, عظيم الفطنة, بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين, كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة, وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..

    من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد إلى المدينة حتى سأله:" ما الذي جاء بك يا عبادة"...؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:
    " ارجع إلى مكانك, فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!!
    ثم أرسل عمر إلى معاوية كتابا يقول فيه:
    " لا امرة لك على عبادة"..!!
    أجل إن عبادة أمير نفسه..
    وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم, فانه يكون عظيما..
    وقد كان عبادة عظيما في إيمانه, وفي استقامة ضميره وحياته...

    وفي تمام عام الهجري الرابع والثلاثين, توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والإسلام, تاركا في الحياة عبيره وشذاه....

  9. #29
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    صهيب بن سنان ( ربح البيع يا أبا يحيى!! )

    ولد في أحضان النعيم..
    فقد كان أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا إلى العراق قبل الإسلام بعهد طويل, وفي قصره القائم على شاطئ الفرات, مما يلي الجزيرة والموصل, عاش الطفل ناعما سعيدا..
    وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..
    ويقتنصه تجار الرقيق, وينتهي طوافه إلى مكة, حيث بيع لعبد الله بن جدعان, بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم, حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.
    ويعجب سيده بذكائه ونشاطه وإخلاصه, فيعتقه ويحرره, ويهيئ له فرصة الاتجار معه.
    وذات يوم.. ولندع صديقه عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:
    " لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..
    فقلت له: ماذا تريد..؟
    فأجابني وما تريد أنت..؟
    قلت له: أريد أن أدخل على محمد, فأسمع ما يقول.
    قال: وأنا أريد ذلك..
    فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم, فعرض علينا الإسلام فأسلمنا.
    ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..
    ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!

    عرف صهيب طريقه إذن إلى دار الأرقم..
    عرف طريقه إلى الهدى والنور, وأيضا إلى التضحية الشاقة والفداء العظيم..
    فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!
    عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق, ونظام وحياة..
    وتخطي عتبة دار الأرقم, التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال, واسع, وعريض..
    واقتحام تلك العتبة, كان إيذانا بعهد زاخر بالمسؤوليات الجسام..!
    وبالنسبة للفقراء, والغرباء, والرقيق, كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.

    وإن صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار, عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟
    إنه نداء الإيمان الذي لا يقاوم..
    وإنها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام, الذي يملأ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..
    وإنها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم, وضلاله وإفلاسه..
    وإنها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي إليه من ينيب...
    أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..
    وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!
    ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..
    وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول, وسار تحت راية الإسلام فيقول:
    " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره..
    ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها..
    ولا يسر سرية قط. إلا كنت حاضرها..
    ولا غزا غزاة قط, أوّل الزمان وآخره, إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله..
    وما خاف المسلمون أمامهم قط, إلا كنت أمامهم..
    ولا خافوا وراءهم إلا كنت وراءهم..
    وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!
    هذه صورة باهرة, لإيمان فذ وولاء عظيم..
    ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن إخوانه أجمعين, أهلا لهذا الإيمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله, ووضع يمينه في يمين الرسول..
    يومئذ أخذت علاقاته بالناس, وبالدنيا, بل وبنفسه, طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة, زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.
    ولقد مضى يواجه تبعاته في إقدام وجسور.ز فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم إلى المغارم.. وعن شهوة الحياة, إلى عشق الخطر وحب الموت..

    ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته, ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جلالها تردد ولا نكوص.
    فعندما همّ الرسول بالهجرة, علم صهيب بها, وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة, هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..
    بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..
    ووقع صهيب في بعض فخاخهم, فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..
    وحاور صهيب وداور, حتى استطاع أن يفلت من شانئيه, وامتطى ظهر ناقته, وانطلق بها الصحراء وثبا..
    بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوه.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:
    " يا معشر قريش..
    لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء, فأقدموا إن شئتم..
    وإن شئتم دللتكم على مالي, وتتركوني وشاني"..

    ولقد استاموا لأنفسهم, وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:
    أتيتنا صعلوكا فقيرا, فكثر مالك عندنا, وبلغت بيننا ما بلغت, والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟
    فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته, وتركوه وشأنه, وقفلوا إلى مكة راجعين..

    والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك, وفي غير حذر, فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!
    واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا, حتى أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..

    كان الرسول جالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللا:
    " ربح البيع أبا يحيى..!!
    ربح البيع أبا يحيى..!!
    وآنئذ نزلت الآية الكريمة:
    ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ{207}البقرة)..

    أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها, ولم يحس قط أنه المغبون..
    فمال المال, وما الذهب وما الدنيا كلها, إذا بقي له إيمانه, وإذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره إرادته..؟؟
    كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب إلى جانب ورعه وتقواه, خفيف الروح, حاضر النكتة..
    رآه الرسول يأكل رطبا, وكان بإحدى عينيه رمد..
    فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟
    فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ إني آكله بعيني الأخرى"..!!
    وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله, يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".
    حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى إنك لتسرف..؟
    فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:
    " خياركم من أطعم الطعام".

    ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم, فان اختيار عمر بن الخطاب إياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..
    فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..
    وعندما أحس نهاية الأجل, فراح يلقي على أصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:
    " وليصلّ بالناس صهيب"..
    لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة, ووكل إليهم أمر الخليفة الجديد..

    وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة, ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين, واختيار الخليفة الجديد, من يؤم المسلمين في الصلاة..؟
    إن عمر وخاصة في تلك اللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها إلى الله ليسألني ألف مرة قبل أن يختار.. فإذا اختار, فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..
    ولقد اختار عمر صهيبا..
    اختاره ليكون إمام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..
    اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة, فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..

  10. #30
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبدالله بن رواحة ( يا نفس, إلا تقتلي تموتي )

    عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشارف مكة, يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى, كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء, حملة الإسلام إلى المدينة, والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله, والإسلام..
    وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية, كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...
    وبعد هجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة واستقرارهم بها, كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه, وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الإسلام إليها, والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة, فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للإسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرة منيرة, أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته, وشلّت حركة دهائه..!!
    وكان ابن رواحة رضي الله عنه, كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة إلا يسيرا..
    وكان شاعرا, ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا..
    ومنذ أسلم, وضع مقدرته الشعرية في خدمة الإسلام..
    وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه..

    جلس عليه السلام يوما مع أصحابه, وأقبل عبدالله بن رواحة, فسأله النبي:
    " كيف تقول الشعر إذا أردت أن نقول"..؟؟
    فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم أقول"..
    ومضى على البديهة ينشد:
    يا هاشم الخير إن الله فضّلكـــــــم على البريّــــــــــــــة فضلا ما له غير
    إني تفرّست فيك الخير أعرفـــــــه فراســــــــة خالفتهم في الذي نظروا
    ولو سألت أو استنصرت بعضهمو في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصــــــروا
    فثّبت الله ما آتــــــــــاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا

    فسرّ الرسول ورضي وقال له:
    " وإياك, فثّبت الله"..
    وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء
    كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه:
    يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنــــــــــــا ولا صلينا
    فأنزلن سكينــــــــــة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينـــــــــــا

    وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة..
    وحزن الشاعر المكثر, حين تنزل الآية الكريمة:
    (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ)..الشعراء (224)
    ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:
    ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)الشعراء (227)

    وحين يضطر الإسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه, يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده:
    " يا نفس إلا تقتلي تموتي"..
    وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة:
    خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا, فكل الخير في رسوله

    وجاءت غزوة مؤتة..
    وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء, كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..
    ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..
    وقف ينشد ويقول:
    لكنني أســـــأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا
    أو طعنـــة بيدي حرّان مجهرة بحربــــــة تنفد الأحشاء والكبدا
    حتى يقال إذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز, وقد رشدا

    أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أو طعنة رمح, تنقله إلى عالم الشهداء والظافرين..!!

    وتحرّك الجيش إلى مؤتة, وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل, إذ رأوا صفوفا لا آخر لها, وأعداد تفوق الحصر والحساب..!!
    ونظر المسلمون إلى عددهم القليل, فوجموا.. وقال بعضهم:
    " فلنبعث إلى رسول الله, نخبره بعدد عدوّنا, فإما أن يمدّنا بالرجال, وإمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع"..
    بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار, وقال لهم:
    " يا قوم..
    إنا والله, ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..
    فانطلقوا.. فإنما هي إحدى الحسنيين, النصر أو الشهادة"...
    وهتف المسلمون الأقلون عددا, الأكثرون إيمانا,..
    هتفوا قائلين:
    "قد والله صدق ابن رواحة"..
    ومضى الجيش إلى غايته, يلاقي بعدده القليل مائتي ألف, حشدهم الروم للقتال الضاري الرهيب...

    والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..
    وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا..
    وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..
    وتلاه ثالث الأمراء عبدالله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته, وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب, الذي حشده هرقل..
    وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي, كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..
    أما الآن, وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته, فقد بدا أمام ضراوة الروم, وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب, لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..

    أقسمت يا نفس لتنزلنّــه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟
    يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
    وما تمنّت فقد أعطيــــت إن تفعلي فعلهما هديــــــت
    يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه إلى الشهادة: زيدا وجعفر..
    "إن تفعلي فعلهما هديت.
    انطلق يعصف بالروم عصفا..
    ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة, لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة إلى الله, فصعد شهيدا..
    هوى جسده, فصعدت إلى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..
    وتحققت أغلى أمانيه:
    حتى يقال إذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غار, وقد رشدا
    نعم يا ابن رواحة..
    يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!!

    وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة, يحادثهم ويحادثونه..
    وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة, صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!
    وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال:
    "أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
    ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..
    وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا:
    " ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..
    ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل, مطمئن, مشتاق. ثم قال:
    " لقد رفعوا إلى الجنة"..!!
    أيّة رحلة مجيدة كانت..
    وأي اتفاق سعيد كان..
    لقد خرجوا إلى الغزو معا..
    وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة, كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " لقد رفعوا إلى الجنة"..!!

صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة للسبلة العمانية 2020
  • أستضافة وتصميم الشروق للأستضافة ش.م.م