https://www.gulfupp.com/do.php?img=92989

قائمة المستخدمين المشار إليهم

صفحة 5 من 7 الأولىالأولى ... 34567 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 67

الموضوع: ▅ ▄ ▃ ▂ ▁ سلسلة رجال حول الرسول ..▁ ▂ ▃ ▄ ▅

  1. #41
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    خبيب بن عديّ ( بطل.. فوق الصليب..!! )

    والآن..

    أفسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال..
    وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان..
    تعالوا, خفاقا وثقالا..
    تعالوا مسرعين, وخاشعين..
    وأقبلوا, لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!!
    تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟

    أجل كانت دروسا..
    وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..
    ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية..
    أستاذ لوفاتكم مشهده, فقد فاتكم خير كثير, جدّ كثير..
    إلينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..
    إلينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد..
    وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور, وظننتم بالأديان والإيمان ظنّ السّوء..
    تعالوا بغروركم..!
    تعالوا وانظروا أية عزة, وأية منعة, وأي ثبات, وأيّ مضاء.. وأي فداء, وأي ولاء..
    وبكلمة واحدة, أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الإيمان بالحق على ذويه المخلصين..!!
    أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟
    انه موضوع درسنا اليوم, يا كلّ بني الإنسان...!
    هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع, وهو الدرس, وهو الأستاذ..
    اسمه خبيب بن عديّ.
    احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا.
    واحفظوه وانشدوه, فانه شرف لكل إنسان.. من كل دين, ومن كل مذهب, ومن كل جنس, وفي كل زمان..!!

    انه من أوس المدينة وأنصارها.
    تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر إليهم, وآمن بالله رب العالمين.
    كان عذب الروح, شفاف النفس, وثيق الإيمان, ريّان الضمير.
    كان كما وصفه حسّان بن ثابت:
    صقرا توسّط في الأنصار منصبه سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب
    ولما رفعت غزوة بدر أعلامها, كان هناك جنديا باسلا, ومقاتلا مقداما.
    وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه إبّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.
    وبعد انتهاء المعركة, وعودة البقايا المهزومة من قريش إلى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم, وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!

    وعاد المسلمون من بدر إلى المدينة, يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..
    وكان خبيب عابدا, وناسكا, يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين, وشوق العابدين..
    هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل, ويصوم الناهر, ويقدّس لله رب العالمين..

    وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش, ويتبيّن ما ترامى إليه من تحرّكاتها, واستعدادها لغزو جديد.. فاختار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.
    وانطلق الركب إلى غايته حتى إذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة, نمي خبرهم إلى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا إليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم, وراحوا يتعقبونهم, ويقتفون آثارهم..
    وكادوا يزيغون عنهم, لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة, ثم صاح في الذين معه:
    " انه نوى يثرب, فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..
    وساروا مع النوى المبثوث على الأرض, حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..
    وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون, فدعا أصحابه إلى صعود قمة عالية على رأس جبل..
    واقترب الرماة المائة, وأحاطوا بهم عند سفح الجبل وأحكموا حولهم الحصار..
    ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.
    والتفت العشرة إلى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
    وانتظروا بما يأمر..
    فإذا هو يقول:" أما أنا, فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..
    اللهم أخبر عنا نبيك"..

    وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد, وأصيب معه سبعة واستشهدوا..
    ونادوا الباقين, أنّ لهم العهد والميثاق إذا هم نزلوا.
    فنزل الثلاثة: خبيب بن عديّ وصاحباه..
    واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم, وربطوهما بها..
    ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر, فقرر أن يموت حيث مات عاصم وإخوانه..
    واستشهد حيث أراد..
    وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين إيمانا, وأبرّهم عهدا, وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!
    وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما, ولكنه كان شديد الإحكام.
    وقادهما الرماة البغاة إلى مكة, حيث باعوهما لمشركيها..
    ودوّى في الآذان اسم خبيب..
    وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر, تذكّروا ذلك الاسم جيّدا, وحرّك في صدورهم الأحقاد.
    وسارعوا إلى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.
    وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم, ليس منه وحده, بل ومن جميع المسلمين..!!
    وضع قوم آخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..

    أسلم خبيب قلبه, وأمره , ومصيره لله رب العالمين.
    وأقبل على نسكه ثابت النفس, رابط الجأش, معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر, ويلاشي الهول.
    كان الله معه.. وكان هو مع الله..
    كانت يد الله عليه, يكاد يجد برد أناملها في صدره..!
    دخلت عليه يوما إحدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره, فغادرت مكانه مسرعة إلى الناس تناديهم ليبصروا عجبا..
    " والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..
    وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..
    ما أظنه إلا رزقا رزقه الله خبيبا"..!!

    أجل آتاه الله عبده الصالح, كما آتى من قبل مريم بنت عمران, يوم كانت:
    (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {37} آل عمران)..

    وحمل المشركون إلى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.
    ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه, ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه, وأنزل عليه سكينته ورحمته.
    وراحوا يساومونه على إيمانه, ويلوحون له بالنجاة إذا ما هو كفر لمحمد, ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!
    أجل, كان ايمان خبيب كالشمس قوة, وبعدا, ونارا ونورا..
    كان يضيء كل من التمس منه الضوء, ويدفئ كل من التمس منه الدفء, أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..
    وإذا يئسوا مما يرجون, قادوا البطل إلى مصيره, وخرجوا به إلى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..
    وما إن بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين, وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه وإعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..
    وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام وإخبات...

    وتدفقت في روحه حلاوة الإيمان, فودّ لو يظل يصلي, ويصلي ويصلي..
    ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:
    " والله لا تحسبوا أن بي جزعا من الموت, لازددت صلاة"..!!
    ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:
    " اللهم أحصهم عددا.. واقتلهم بددا"..
    ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
    ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
    وذلك في ذات الإله وان يشــأ يبـــــــارك على أوصال شلو ممزّع

    ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..
    ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوا فوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.
    وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود أمام البطل المصلوب..!!
    لم يغمض عينيه, ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.
    وبدأت الرماح تنوشه, والسيوف تنهش لحمه.
    وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:
    " أتحب أن محمدا مكانك, وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟
    وهنا لا غير انتفض خبيب كالإعصار وصاح, في قاتليه:
    " والله ما أحبّ أني في أهلي وولدي, معي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة"..

    نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان, وكان لم يسلم بعد, يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!

    كانت كلمات خبيب هذه إيذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها, فتناوشه في جنون ووحشية..
    وقريبا من المشهد كانت تحوم طيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..
    ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت, وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.
    وفجأة طارت تشق الفضاء, وتمضي بعيدا.. بعيدا..

    لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب, فخذلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!
    مضت جماعة الطير إلى رحاب الفضاء متعففة منصفة.

    وعادت جماعة المشركين إلى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..
    وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسيوف..!!

    كان خبيب عندما رفعوه إلى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا, قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل إلى ربه العظيم قائلا:
    " اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..
    واستجاب الله دعاءه..
    فبينما الرسول في المدينة إذ غمره إحساس وثيق بأن أصحابه في محنة..
    وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..
    ومن فوره دعا المقداد بن عمرو, والزبير بن العوّام..
    فركبا فرسيهما, ومضيا يقطعان الأرض وثبا.
    وجمعهما الله بالمكان المنشود, وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب, حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.

    ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.
    ولعل ذلك أحرى به وأجدر, حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ, وفي ضمير الحياة, بطلا.. فوق الصليب..!!!

    •   Alt 

       

  2. #42
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أسامة بن زيد ( الحبّ بن الحبّ )

    جلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقسّم أموال بيت المال على المسلمين..
    وجاء دور عبدالله بن عمر, فأعطاه عمر نصيبه.
    ثم جاء دور أسامة بن زيد, فأعطاه عمر ضعف ما أعطى ولده عبدالله..
    وإذا كان عمر يعطي الناس وفق فضلهم, وبلائهم في الإسلام, فقد خشي عبدالله بن عمر إن يكون مكانه في الإسلام آخرا, وهو الذي يرجو بطاعته, وبجهاده, وبزهده, وبورعه,إن يكون عند الله من السابقين..
    هنالك سأل أباه قائلا:" لقد فضّلت عليّ أسامة, وقد شهدت مع رسول الله ما لم يشهد"..؟
    فأجابه عمر:
    " إن أسامة كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك..
    وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك"..!
    فمن هذا الذي بلغ هو وأبوه من قلب الرسول وحبه ما لم يبلغه ابن عمر, وما لم يبلغه عمر بذاته..؟؟
    إنه أسامة بن زيد.
    كان لقبه بين الصحابة: الحبّ بن الحبّ..
    أبوه زيد بن حارثة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آثر الرسول على أبيه وأمه وأهله, والذي وقف به النبي على جموع أصحابه يقول:
    " أشهدكم إن زيدا هذا ابني, يرثني وأرثه"..
    وظل اسمه بين المسلمين زيد بن محمد حتى أبطل القرآن الكريم عادة التبنّي..
    أسامة هذا ابنه..
    وأمه هي أم أيمن, مولاة رسول الله وحاضنته,
    لم يكن شكله الخارجي يؤهله لشيء.. أي شيء..
    فهو كما يصفه الرواة والمؤرخون: أسود, أفطس..
    أجل.. بهاتين الكلمتين, لا أكثر يلخص التاريخ حديثه عن شكل أسامة..!!
    ولكن, متى كان الإسلام يعبأ بالأشكال الظاهرة للناس..؟
    متى.. ورسوله هو الذي يقول:
    " ألا ربّ أشعث, أعبر, ذي طمرين لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبرّه"..
    فلندع الشكل الخارجي لأسامة إذن..
    لندع بشرته السوداء, وأنفه الأفطس, فما هذا كله في ميزان الإسلام مكان..
    ولننظر ماذا كان في ولائه..؟ ماذا كان في افتدائه..؟ في عظمة نفسه, وامتلاء حياته..؟!
    لقد بلغ من ذلك كله المدى الذي هيأه لهذا الفيض من حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقديره:
    " إن أسامة بن زيد لمن أحبّ الناس إليّ, وإني لأرجو إن يكون من صالحيكم, فاستوصوا به خيرا".

    كان أسامة رضي الله عنه مالكا لكل الصفات العظيمة التي تجعله قريبا من قلب الرسول.. وكبيرا في عينيه..
    فهو ابن مسلمين كريمين من أوائل المسلمين سبقا إلى الإسلام, ومن أكثرهم ولاء للرسول وقربا منه.
    وهو من أبناء الإسلام الحنفاء الذين ولدوا فيه, وتلقوا رضعاتهم الأولى من فطرته النقية, دون إن يدركهم من غبار الجاهلية المظلمة شيء..

    وهو رضي الله عنه على حداثة سنه, مؤمن, صلب, ومسلم قوي, يحمل كل تبعات إيمانه ودينه, في ولاء مكين, وعزيمة قاهرة..
    وهو مفرط في ذكائه, مفرط في تواضعه, ليس لتفانيه في سبيل الله ورسوله حدود..
    ثم هو بعد هذا, يمثل في الدين الجديد, ضحايا الألوان الذين جاء الإسلام ليضع عنهم أوزار التفرقة وأوضارها..
    فهذا الأسود الأفطس يأخذ في قلب النبي, وفي صفوف المسلمين مكانا عليّا, لأن الدين الذي ارتضاه الله لعباده قد صحح معايير الآدمية والأفضلية بين الناس فقال:
    ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}الحجرات)..
    وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة يوم الفتح العظيم ورديفه هذا الأسود الأفطس أسامة بن زيد..
    ثم رأيناه يدخل الكعبة في أكثر ساعات الإسلام روعة, وفوزا, وعن يمينه ويساره بلال, وأسامة.. رجلان تكسوهما البشرة السوداء الداكنة, ولكن كلمة الله التي يحملانها في قلبيهما الكبيرين قد أسبغت عليهما كل الشرف وكل الرفعة..

    وفي سن مبكرة, لم تجاوز العشرين, أمر رسول الله أسامة بن زيد على جيش, بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر..!!
    وسرت همهمة بين نفر من المسلمين تعاظمهم الأمر, واستكثروا على الفتى الشاب, أسامة بن زيد, إمارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين..
    وبلغ همسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصعد المنبر, وحمد الله وأثنى عليه, ثم قال:
    " إن بعض الناس يطعنون في إمارة أسامة بن زيد..
    ولقد طعنوا في إمارة أبيه من قبل..
    وإن كان أبوه لخليقا للإمارة..
    وإن أسامة لخليق لها..
    وإنه لمن أحبّ الناس إليّ بعد أبيه..
    وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم..
    فاستوصوا به خيرا"..
    وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إن يتحرّك الجيش إلى غايته ولكنه كان قد ترك وصيته الحكيمة لأصحابه:
    " أنفذوا بعث أسامة..
    أنفذوا بعث أسامة.."

    وهكذا قدّس الخليفة أبو بكر هذه الوصاة, وعلى الرغم من الظروف الجديدة التي خلفتها وفاة الرسول, فإن الصدّيق أصرّ على إنجاز وصيته وأمره, فتحرّك جيش أسامة إلى غايته, بعد إن استأذنه الخليفة في إن يدع عمر ليبقى إلى جواره في المدينة.
    وبينما كان إمبراطور الروم هرقل, يتلقى خبر وفاة الرسول, تلقى في نفس الوقت خبر الجيش الذي يغير على تخوم الشام بقيادة أسامة بن زيد, فحيّره إن يكون المسلمون من القوة بحيث لا يؤثر موت رسولهم في خططهم ومقدرتهم.
    وهكذا انكمش الروم, ولم يعودوا يتخذون من حدود الشام نقط وثوب على مهد الإسلام في الجزيرة العربية.
    وعاد الجيش بلا ضحايا.. وقال عنه المسلمون يومئذ:
    " ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة"..!!

    وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله درس حياته.. درسا بليغا, عاشه أسامة, وعاشته حياته كلها منذ غادرهم الرسول إلى الرفيق الأعلى إلى أن لقي أسامة ربه في أواخر خلافة معاوية.

    قبل وفاة الرسول بعامين بعثه عليه السلام أميرا على سريّة خرجت للقاء بعض المشركين الذين يناوئون الإسلام والمسلمين.
    وكانت تلك أول إمارة يتولاها أسامة..
    ولقد أحرز في مهمته النجاح والفوز, وسبقته إنباء فوزه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح بها وسر.

    ولنستمع إلى أسامة يروي لنا بقية النبأ:
    ".. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, وقد أتاه البشير بالفتح, فإذا هو متهلل وجهه.. فأدناني منه ثم قال:
    حدّثني..
    فجعلت أحدّثه.. وذكرت إنه لما انهزم القوم أدركت رجلا وأهويت إليه بالرمح, فقال لا اله إلا الله فطعنته وقتلته.
    فتغيّر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:
    ويحك يا أسامة..!
    فكيف لك بلا اله إلا الله..؟
    ويحك يا أسامة..
    فكيف لك بلا اله إلا الله..؟
    فلم يزل يرددها عليّ حتى لوددت إني انسلخت من كل عمل عملته. واستقبلت الإسلام يومئذ من جديد.
    فلا والله لا أقاتل أحدا قال لا اله إلا الله بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم".

    هذا هو الدرس العظيم الذي وجّه حياة أسامة الحبيب بن الحبيب منذ سمعه من رسول الله إلى أن رحل عن الدنيا راضيا مرضيّا.
    وإنه لدرس بليغ.
    درس يكشف عن إنسانية الرسول, وعدله, وسموّ مبادئه, وعظمة دينه وخلقه..
    فهذا الرجل الذي أسف النبي لمقتله, وأنكر على أسامة قتله, كان مشركا ومحاربا..
    وهو حين قال: لا اله إلا الله.. قالها والسيف في يمينه, تتعلق به مزغ اللحم التي نهشها من أجساد المسلمين.. قالها لينجو بها من ضربة قاتلة, أو ليهيئ لنفسه فرصة يغير فيها اتجاهه ثم يعاود القتال من جديد..
    ومع هذا, فلأنه قالها, وتحرّك بها لسانه, يصير دمه حراما وحياته آمنة, في نفس اللحظة, ولنفس السبب..!
    ووعى أسامة الدرس إلى منتهاه..
    فإذا كان هذا الرجل, في هذا الموقف, ينهى الرسول عن قتله لمجرّد إنه قل: لا اله إلا الله.. فكيف بالذين هم مؤمنون حقا, ومسلمون حقا..؟
    وهكذا رأيناه عندما نشبت الفتنة الكبرى بين الإمام علي وأنصاره من جانب, ومعاوية وأنصاره من جانب آخر, يلتزم حيادا مطلقا.
    كان يحبّ عليّا أكثر الحب, وكان يبصر الحق إلى جانبه.. ولكن كيف يقتل بسيفه مسلما يؤمن بالله وبرسله, وهو لذي لامه الرسول لقتله مشركا محاربا قال في لحظة انكساره وهروبه: لا اله إلا الله..؟؟!!
    هنالك أرسل إلى الإمام علي رسالة قال فيها:
    " إنك لو كنت في شدق الأسد,
    لأحببت أن أدخل معك فيه.
    ولكن هذا أمر لم أره"..!!
    ولزم داره طوال هذا النزاع وتلك الحروب..
    وحين حاءه بعض أصحابه يناقشونه في موقفه قال لهم:
    " لا أقاتل أحدا يقول لا اله إلا الله أبدا".
    قال أحدهم له: ألم بقل الله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ {193}البقرة)..؟؟
    فأجابهم أسامة قائلا:
    " أولئك هم المشركون, ولقد قاتلناهم حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله"..

    وفي العام الرابع والخمسين من الهجرة.. اشتاق أسامة للقاء الله, وتلملمت روحه بين جوانحه, تريد إن ترجع إلى وطنها الأول..
    وتفتحت أبواب الجنان, لتستقبل واحدا من الأبرار المتقين.

  3. #43
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    طلحة بن عبيد الله ( صقر يوم أحد )

    ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا {23}الأحزاب)...
    تلا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة, ثم استقبل وجوه أصحابه, وقال وهو يشير إلى طلحة:
    " من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض, وقد قضى نحبه, فلينظر إلى طلحة"..!!
    ولم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله, وتطير قلوبهم شوقا إليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله..
    لقد اطمأن إذن إلى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا, ويموت, وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة, ولن يدركه لغوب..
    ولقد بشّره الرسول بالجنة, فماذا كانت حياة هذا المبشّر الكريم..؟؟

    لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهبا من خيار رهبانها, وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم, والذي تنبأ به الأنبياء الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه..
    وحّر طلحة أن يفوته موكبه, فانه موكب الهدى والرحمة والخلاص..
    وحين عاد طلحة إلى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر, ألفى بين أهلها ضجيجا.. وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم, أو بجماعة منهم عن محمد الأمين.. وعن الوحي الذي يأتيه.. وعن الرسالة التي يحملها إلى العرب خاصة, وإلى الناس كافة..
    وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير بعيد, وأنه يقف إلى جوار محمد مؤمنا منافحا, أوّابا..
    وحدّث طلحة نفسه: محمد, وأبو بكر..؟؟
    تالله لا يجتمع الاثنان على ضلالة أبدا.!!
    ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره, وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة.. أفيكذب اليوم على الله, ويقول: أنه أرسلني وأرسل إليّ وحيا..؟؟

    وهذا هو الذي يصعب تصديقه..
    وأسرع طلحة الخطى ميمما وجهه شطر دار أبي بكر..
    ولم يطل الحديث بينهما, فقد كان شوقه إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات قلبه..
    فصحبه أبو بكر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام, حيث أسلم وأخذ مكانه في القافلة المباركة..
    وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين.

    وعلى الرغم من جاهه في قومه, وثرائه العريض, وتجارته الناجحة فقد حمل حظه من اضطهاد قريش, إذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد, وكان يدعى أسد قريش, بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه, إذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها, وخافت عاقبة أمرها..
    وهاجر طلحة إلى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة, ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, عدا غزوة بدر, فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة..
    ولما أنجزاها ورجعا قافلين إلى المدينة, كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر, فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته..
    بيد أن الرسول أهدى إليهما طمأنينة سابغة, حين أنبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما, بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها..
    وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بإنزال هزيمة نهائية بالمسلمين, هزيمة حسبتها قريش أمرا ميسورا, وقدرا مقدورا..!!
    ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم.. ودارت الدائرة على المشركين..

    ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم, ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم..
    وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة, فامتلك ناصية الحرب زمام المعركة..
    واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه, وكان للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين..
    وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك والوثنية, فسارع نحو الرسول..
    وراح رضي الله عنه يجتاز طريقا ما أطوله على قصره..! طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف المسعورة وعشرات من الرماح المجنونة!!
    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدم ويتحامل على نفسه, فجنّ جنونه, وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه, وتحيط به تريد أن تناله بسوء..

    ووقف طلحة كالجيش اللجب, يضرب بسيفه البتار يمينا وشمالا..
    ورأى دم الرسول الكريم ينزف, وآلامه تئن, فسانده وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه..
    كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره, متأخرا به إلى مكان آمن, بينما بيمينه, بارك الله يمينه, تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين أحاطوا بالرسول, وملؤوا دائرة القتال مثل الجراد..!!
    ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه يصف لنا المشهد..
    تقول عائشة رضي الله عنها:
    " كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم طلحة.. كنت أول من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم أخاكم.. ونظرنا وإذا به بضع وسبعون بين طعنة.. وضربة ورمية.. وإذا أصبعه مقطوع. فأصلحنا من شانه" .

    وفي جميع المشاهد والغزوات, كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله, ويفتدي راية رسوله.
    ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة, يعبد الله مع العابدين, ويجاهد في سبيله مع المجاهدين, ويرسي بساعديه مع سواعد إخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور..
    فإذا قضى حق ربه, راح يضرب في الأرض, ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة, وأعماله الناجحة.
    فقد كان طلحة رضي الله عته من أكثر المسلمين ثراء, وأنماهم ثروة..
    وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته...
    كان ينفق منها بغير حساب..
    وكان اله ينمّيها له بغير حساب!

    لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـطلحة الخير, وطلحة الجود, وطلحة الفيّاض إطراء لجوده المفيض.
    وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة, فإذا الله الكريم يردها إليه مضاعفة.

    تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول:
    " دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما, فسألته ما شانك..؟
    فقال المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني..
    وقلت له ما عليك.. اقسمه..
    فقام ودعا الناس, واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم"...
    ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع, ونظر إلى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال:
    " إن رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر, لمغرور بالله"...
    ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه, ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها, حتى أسحر وما عنده منها درهم..!!
    ويصف جابر بن عبدالله جود طلحة فيقول:
    " ما رأيت أحد أعطى لجزيل مال من غير مسألة, من طلحة بن عبيد الله".وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه, فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..
    وقد قيل عنه في ذلك:
    ".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤنته, ومؤنة عياله..
    وكان يزوج أيامهم, ويخدم عائلهم, ويقضي دين غارمهم"..

    ويقول السائب بن زيد:
    " صحبت طلحة بن عبيدالله في السفر والحضر فما وجدت أحدا, أعمّ سخاء على الدرهم, والثوب والطعام من طلحة"..!!

    وتنشب الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه..
    ويؤيد طلحة حجة المعارضين لعثمان, ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير وإصلاح..
    أكان بموقفه هذا, يدعو إلى قتل عثمان, أو يرضى به..؟؟ كلا...
    ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقدا مخبولا, ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله عنه..
    نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى إلى هذا المأزق والمنتهى لقاومها, ولقاومها معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير, لا أكثر..

    على أن موقف طلحة هذا, تحوّل إلى عقدة حياته بعد الطريقة البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل, فلم يكد الإمام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة ومنهم طلحة والزبير, حتى استأذن الاثنان في الخروج إلى مكة للعمرة..
    ومن مكة توجها إلى البصرة, حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان..
    وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان, والفريق الذي يناصر عليّا..
    وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه الإسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة, تنتفض همومه, وتهطل دموعه, ويعلو نشيجه..!!

    لقد اضطر إلى المأزق الوعر..
    فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع, وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة, أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة..
    وحين ينهض لقمع تمرّد من هذا النوع, فان عليه أن يواجه إخوانه وأصحابه وأصدقاءه, وأتباع رسوله ودينه, أولئك الذين طالما قاتل معهم جيوش الشرك, وخاضوا معا تحت راية التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم, وجعلت منهم إخوانا بل إخوة متعاضدين..
    فأي مأزق هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟
    وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق, وصون دماء المسلمين لم يترك الإمام علي وسيلة إلا توسّل بها, ولا رجاء إلا تعلق به.
    ولكن العناصر التي كانت تعمل ضدّ الإسلام, وما أكثرها, والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة المسلمة, أيام عاهلها العظيم عمر, هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة, وراحت تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها...

    بكى عليّ بكاء غزيرا, عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله..
    وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير, حوراييّ رسول الله..
    فنادى طلحة والزبير ليخرجا إليه, فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم..
    فقال لطلحة:
    " يا طلحة, أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها. وخبأت عرسك في البيت"..؟؟
    ثم قال للزبير:
    " يا زبير, نشدتك الله, أتذكر يوم مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا, فقال لك: يا زبير, ألا تحبّ عليّا..؟
    فقلت: ألا أحب ابن خالي, وابن عمي, ومن هو على ديني..؟؟
    فقال لك: يا زبير, أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم"..!!
    قال الزبير رضي الله عنه: نعم أذكر الآن, وكنت قد نسيته, والله لا أقاتلك..
    وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية..
    أقلعا فور تبيّنهما الأمر, وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في صف عليّ, تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار:

    " تقتلك الفئة الباغية"..
    فان قتل عمّار إذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة, فسيكون طلحة باغيا...

    انسحب طلحة والزبير من القتال, ودفعا ثمن ذلك الانسحاب حياتهما, ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى..
    أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي..!!
    وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته..

    كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة, حتى صار عقدة حياته..
    كل هذا, مع أنه لم يشترك بالقتل, ولم يحرّض عليه, وإنما ناصر المعارضة ضدّه, يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول إلى تلك الجريمة البشعة..

    وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب بدم عثمان, كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره..
    وكان قبل بدء المعركة يدعو ويتضرع بصوت تخنقه الدموع, ويقول:
    " اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى"..

    فلما واجهه عليّ هو والزبير, أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما, فرأيا الصواب وتركا أرض القتال..
    بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون..
    ألم يقل الرسول عنه:
    " هذا ممن قضى نحبه, ومن سرّه أن يرى شهيدا يمشي على الأرض, فلينظر إلى طلحة"..؟؟
    لقي الشهيد إذن مصيره المقدور والكبير, وانتهت وقعة الجمل.
    وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة إلى البيت الحرام فالمدينة, نافضة يديها من هذا الصراع, وزوّدها الإمام علي في رحلتها بكل وسائل الراحة والتكريم..
    وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا, الذين كانوا معه, والذين كانوا ضدّه..
    ولما فرغ من دفن طلحة, والزبير, وقف يودعهما بكلمات جليلة, اختتمها قائلا:
    " إني لأرجو أن أكون أنا, وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {47}الحجر )"..
    ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال:
    " سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    " طلحة والزبير, جاراي في الجنّة"...

  4. #44
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبدالرحمن بن عوف ( ما يبكيك يا أبا محمد )

    ذات يوم, والمدينة ساكنة هادئة, أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف, راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.
    ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة, فاندفعت تقترب من أبواب المدينة, وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
    وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها, لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.
    ولم يمض وقت غير وجيز, حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا, ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل, وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..

    وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وقد تردد إلى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..
    سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟
    وأجيبت: إنها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..
    قالت أم المؤمنين:
    قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!
    أجل يا أم المؤمنين.. إنها سبعمائة راحلة..!!
    وهزت أم المؤمنين رأسها, وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا, كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته, أو حديث سمعته..
    "أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..

    عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟
    ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟
    ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة إليه, فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة, وبأكثر من صيغة.
    وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته, حث خطاه إلى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..

    ثم قال:
    " أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها, وأقتابها, وأحلاسها, في سبيل الله عز وجل"..
    ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في مهرجان برّ عظيم..!!
    هذه الواقعة وحدها, تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".
    فهو التاجر الناجح, أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
    وهو الثري, أكثر ما يكون الثراء وفرة وإفراطا..
    وهو المؤمن الأريب, الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين, ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الإيمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!

    متى وكيف دخل هذا العظيم الإسلام..؟
    لقد أسلم في وقت مبكر جدا..
    بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة, وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..
    فهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام..
    عرض عليه أبوبكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص, فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك, بل سارعوا مع الصدّيق إلى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.
    ومنذ أسلم إلى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره, وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم, مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".
    وفور إسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب, ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..
    وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد إلى مكة, ثم هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر إلى المدينة.. وشهد بدرا, وأحدا, والمشاهد كلها..
    وكان محظوظا في التجارة إلى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:
    " لقد رأيتني, لو رفعت حجرا, لوجدت تحت فضة وذهبا"..!!
    ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..
    بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..
    كلا..
    إنما كانت عملا, وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس, ومزيدا من السعي..
    وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة, تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..
    فهو إذا لم يكن في المسجد يصلي, ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا, حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر, ومن الشام, محملة بكل ما تحتاج إليه جزيرة العرب من كساء وطعام..
    ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه, مسلكه غداة هجر المسلمين إلى المدينة..
    لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه, أحدهما مهاجر من مكة, والآخر أنصاري من المدينة.
    وكانت هذه المؤاخاة تم على نسق يبهر الألباب, فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه, فإذا كان تزوجا باثنين طلقإحداهما, ليتزوجها أخوه..!!
    ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف, وسعد بن الربيع..
    ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:
    " .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي, أنا أكثر أهل المدينة مالا, فانظر شطر مالي فخذه!!
    وتحتي امرأتان, فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها, وتتزوجها..!
    فقال له عبدالرحمن بن عوف:
    بارك الله لك في أهلك ومال..
    دلوني على السوق..
    وخرج إلى السوق, فاشترى.. وباع.. وربح"..!!
    وهكذا سارت حياته في المدينة, على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته, أداء كامل لحق الدين, وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة, لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!
    ومما جعل تجارته ناجحة مباركة, تحرّيه الحلال, ونأيه الشديد عن الحرام, بل عن الشبهات..
    كذلك مما زادها نجاحا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى, يصل به أهله, وإخوانه, ويجهّز به جيوش الإسلام..

    وإذا كانت الجارة والثروات, إنما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف إنما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!
    لقد سمع رسول الله يقول له يوما:
    " يا بن عوف انك من الأغنياء..
    وانك ستدخل الجنة حبوا..
    فأقرض الله يطلق لك قدميك"..
    ومن سمع هذا النصح من رسول الله, وهو يقرض ربه قرضا حسنا, فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
    باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار, ثم فرّقها في أهله من بني زهرة, وعلى أمهات المؤمنين, وفقراء المسلمين.
    وقدّم يوما لجيوش الإسلام خمسمائة فرس, ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة.
    وعند موته, أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله, وأوصى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار, حتى إن عثمان بن عفان رضي الله عنه, أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" إن مال عبدالرحمن حلال صفو, وان الطعمة منه عافية وبركة".

    كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..
    وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..
    بل هو يجمعه هونا, ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه وإخوانه ومجتمعه كله.
    ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:
    " أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.
    " ثلث يقرضهم..
    وثلث يقضي عنهم ديونهم..
    وثلث يصلهم ويعطيهم.."
    ولم كن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه, لو لم يمكّنه من مناصرة دينه, ومعاونة إخوانه.
    أما بعد هذا, فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..
    جيء له يوما بطعام الإفطار, وكان صائما..
    فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:
    " استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني, فكفّن في بردة إن غطت رأسه, بدت رجلاه, وان غطت رجلاه بدا رأسه.
    واستشهد حمزة وهو خير مني, فلم يوجد له ما يدفن فيه إلا بردة.
    ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط, وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!
    واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام عنده.
    وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
    ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟
    قال:
    " لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..
    ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!
    كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
    حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه, ما استطاع أن يميزه من بينهم..!!
    لكن إذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه, فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة, وان إحدى هذه الإصابات تركت عرجا دائما في إحدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..
    عندئذ لا غير, يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة, المضيء الوجه, الرقيق البشرة, الأعرج, الأهتم من جراء إصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!
    رضي الله عنه وأرضاه..

    لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...
    أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه, ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..
    فإذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا, رأينا إنسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها إلى سموّ فريد..!

    حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة, ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..
    كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..
    ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة, فقال:
    " والله, لأن تؤخذ مدية, فتوضع في حلقي, ثم ينفذ بها إلى الجانب الآخر أحب إلي من ذلك"..!!

    وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ إخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..
    وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء, فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم, وقال الإمام علي:
    " لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء, وأمين في أهل الأرض"..
    واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة, فأمضى الباقون اختياره.

    هذه حقيقة رجل ثري في الإسلام..
    فهل رأيتم ما صنع الإسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته, وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟
    وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة, يجود بأنفاسه..
    وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه, فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها إلى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..
    ولكنه مسلم أحسن الإسلام تأديبه, فيستحي أن يرفع نفسه إلى هذا الجوار...!!
    ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون, إذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن إلى جوار صاحبه..

    وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمع ولسانه يتمتم ويقول:
    " إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..
    ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته, فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..
    وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..
    لعله آنئذ, كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:

    " عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..
    ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..
    ( ّالّذيِنَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262))..(البقرة )

  5. #45
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبو موسى الأشعري ( الإخلاص.. وليكن ما يكون )

    عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى البصرة, ليكون أميرها وواليها, جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:
    " إن أمير المؤمنين عمر بعثني إليكم, أعلمكم كتاب ر بكم, وسنة نبيكم, وأنظف لكم طرقكم"..!!
    وغشي الإنس من الدهشة والعجب ما غشيهم, فإنهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير, أما إن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم, فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..
    فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:
    " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟

    إنه عبدالله بن قيس المكنّى بـأبي موسى الأشعري..
    غادر اليمن بلده ووطنه إلى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو إلى الله على بصيرة, ويأمر بمكارم الأخلاق..
    وفي مكة, جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
    وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
    وعاد إلى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..
    ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..
    وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده, بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الإسلام, وأخوان شقيقان له, هم, أبو رهم, وأبو بردة..
    وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..
    ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..
    وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه, فيقول فيهم وعنهم:
    " إن الأشعريين اذا أرملوا في غزو, أو قلّ في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد, ثم اقتسموا بالسويّة.
    " فهم مني.. وإنا منهم"..!!
    ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين, الذين قدّر لهم إن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته, وإن يكونوا حملة الإسلام إلى الدنيا في كل عصورها ودهورها..

    أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..
    فهو مقاتل جسور, ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..
    وهو مسالم طيب, وديع إلى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!
    وهو فقيه, حصيف, ذكي يجيد تصويب فهمه إلى مغاليق الأمور, ويتألق في الإفتاء والقضاء, حتى قيل:
    " قضاة هذه الأمة أربعة:
    " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!
    ثم هو مع هذا, صاحب فطرة بريئة, من خدعه في الله, انخدع له..!!
    وهو عظيم الولاء والمسؤولية..
    وكبير الثقة بالناس..
    لو أردنا إن نختار من واقع حياته شعارا, لكانت هذه العبارة:
    " الإخلاص وليكن ما يكون"..
    في مواطن الجهاد, كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه:
    " سيّد الفوارس, أبو موسى"..!!
    وإنه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:
    " خرجنا مع رسول الله في غزاة, نقبت فيها أقدامنا, ونقّبت قدماي, وتساقطت أظفاري, حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!
    وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..
    فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل, ويحسمها في عزم أكيد..

    ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس إن هبط الأشعري بجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..
    بيد إنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. إنما أرادوا إن يهيئوا لأنفسهم الإعداد لضربة غادرة..
    ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة إليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة, وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!

    وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ إمبراطورية الفرس, كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه, بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..
    وفي موقعة تستر بالذات, حيث انسحب الهرزمان بجيشه إليها وتحصّن بها, وجمع فيها جيوشا هائلة, كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..
    ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين, على رأسهم عمار بن ياسر, والبراء بن مالك, وإنس بن مالك, ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..
    واتقى الجيشان..
    جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..
    وانسحب الفرس إلى داخل مدينة تستر المحصنة..
    وحاصرها المسلمون أياما طويلة, حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..
    وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي, أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة, أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.
    ولم تكد الأبواب تفتح, وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.
    واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس, حيث بعث بهم أبو موسى إلى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..

    على إن هذا المقاتل ذا المراس الشديد, لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل إلى أوّاب, بكّاء وديع كالعصفور...
    يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:
    " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!
    كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:
    " شوّقنا إلى ربنا يا أبا موسى"..
    كذلك لم يكن يشترك في قتال إلا إن يكون ضد جيوش مشركة, جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..
    أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم, فإنه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.
    ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية, وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.
    ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة, وهو موقفه من التحكيم بين الإمام علي ومعاوية.
    هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على إفراط أبي موسى في الطيبة إلى حد يسهل خداعه.
    بيد إن الموقف كما سنراه, وبرغم ما عسى إن يكون فيه تسرّع أو خطأ, إنما يكشف عن عظمة هذا الصحابي الجليل, عظمة نفسه, وعظمة إيمانه بالحق, وبالناس, إن رأى أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في إنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا, كل فريق يتعصب لإمام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.
    نقول: إن رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ, كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.
    إن الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك إنما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم, فليتنازل الإمام علي عن الخلافة مؤقتا, وليتنازل عنها معاوية, على أن يرد الأمر كله من جديد إلى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.
    هكذا ناقش أبو موسى القضية, وهكذا كان حله.
    صحيح إن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.
    وصحيح إن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي إن يمكّن من غرضه في إسقاط الحق المشروع. بيد إن الأمور في النزاع بين الإمام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام, في رأي أبي موسى, قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية, لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..
    بل إن ذلك كله تطوّر إلى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الإسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.
    فإزاحة أسباب النزاع والحرب, وتنحية أطرافه, مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..
    ولقد كان من رأي الإمام علي حينما قبل مبدأ التحكيم, أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس, أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.
    وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية, بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..
    ولم يكن في دين أبي موسى, ولا في إخلاصه وصدقه ما يريب الإمام.. لكنه كان يدرك نوايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة, ويحب إن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الإمام علي إن ينخدع أبو موسى للآخرين, ويتحول التحكيم إلى مناورة من جانب واحد, تزيد الأمور سوءا...

    بدأ التحيكم بين الفريقين..
    أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الإمام علي..
    وعمرو بن العاص, يمثل جانب معاوية.
    والحق إن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.
    ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين, الأشعري, وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو إن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى إعلانه خليفة للمسلمين, وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من إجماع رائع على حبه وتوقيره وإجلاله.
    ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..
    إن مغزى اقتراح أبي موسى, إنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الإمام علي..
    ومعناه أيضا إنه مستعد لإسناد الخلافة إلى آخرين من أصحاب الرسول بدليل إنه اقترح عبدالله بن عم..
    وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح إلى غايته, فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.
    ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فإنه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام إلى وجهة أسلم, فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا, وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم, فيجب إن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..
    وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجلي لصالح معاوية..
    ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:
    أبو موسى: يا عمرو, هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟
    عمرو: وما هو..؟
    أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر, فإنه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.
    عمرو: وأين أنت من معاوية..؟
    أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.
    عمرو: ألست تعلم إن عثمان قتل مظلوما..؟
    أبو موسى: بلى..
    عمرو: فإن معاوية وليّ دم عثمان, وبيته في قريش ما قد علمت. فإن قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فإن لك في ذلك عذرا. تقول: إني وجدته ولي عثمان, والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا, اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أحد أصحابه..
    أبو موسى: اتق الله يا عمرو..
    أمّا ما ذكرت من شرف معاوية, فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فإنه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟
    وأما قولك: إن معاوية ولي عثمان, فأولى منه عمرو بن عثمان..
    ولكن إن طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره, بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..
    عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟
    أبو موسى: إن ابنك رجل صدق, ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا, فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..
    عمرو: يا أبا موسى, إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما, ويطعم بالآخر..!!
    أبو موسى: ويحك يا عمرو.. إن المسلمين قد أسندوا إلينا الأمر بعد إن تقارعوا السيوف, وتشاكوا بالرماح, فلا نردهم في فتنة.
    عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى إن نخلع الرجلين, عليّا ومعاوية, ثم نجعلها شورى بين المسلمين, يختارون لأنفسهم من يحبوا..
    عمرو: رضيت بهذا الرأي فإن صلاح النفوس فيه..
    إن هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا إن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..
    إن أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..
    بل إنه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..
    فعندما أراد عمرو إن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش, وولايته لدم عثمان, جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..
    اذا كانت الخلافة بالشرف, فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..
    وإذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه, فابن عثمان رضي الله عنه, أولى بهذه الولاية من معاوية..

    لقد سارت قضية التحكيم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤوليتها عمرو بن العاص وحده..
    فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر إلى الأمة, تقول كلمتها وتختار خليفتها..
    ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..
    ولم يكن يخطر ببال أبي موسى إن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الإسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ إلى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..
    ولقد حذره ابن عباس حين رجع إليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..
    حذره من مناورات عمرو وقال له:
    " أخشى والله إن يكون عمرو قد خدعك, فإن كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده"..!
    لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من إن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..
    واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الإمام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..
    ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:

    " ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!
    وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.
    وقال:
    " أيها الناس.. إنا قد نظن فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..
    وإني قد خلعت عليا ومعاوية..
    فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...
    وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...
    وصعد عمرو المنبر, وقال:
    " أيها الناس, إن أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,
    ألا وإني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فإنه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه.."!!
    ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..
    وعاد من جديد إلى عزلته, وأغذّ خطاه إلى مكة.. إلى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..
    كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه وأصحابه وحبهم...
    ففي حياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..
    وبعد وفاة الرسول عاد إلى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الإسلام ضد فارس والروم..
    وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..
    وولاه الخليفة عثمان الكوفة..

    وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..
    ومن كلماته المضيئة عن القرآن:
    " اتبعوا القرآن..
    ولا تطمعوا في إن يتبعكم القرآن"..!!
    وكان من أهل العبادة المثابرين..
    وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:
    " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..

    وذات يوم رطيب جاءه أجله..
    وكست محيّاه إشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز
    والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها:
    تلك هي:
    " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...

  6. #46
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    الزبير بن العوّام ( حواريّ رسول الله )

    ولا يجيء ذكر الزبير إلا ويذكر طلحة معه..
    فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة, آخى بين طلحة والزبير.
    وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:
    " طلحة والزبير جاراي في الجنة".
    وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.
    أما طلحة, فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.
    وأما الزبير, فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..
    وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..
    فالتماثل بينهما كبير, في النشأة, في الثراء, في السخاء, في قوة الدين, في روعة الشجاعة, وكلاهما من المسلمين المبكرين بإسلامهم...
    ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجنة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل إليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.
    وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.

    ولقد أسلم الزبير, إسلاما مبكرا, إذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا إلى الإسلام, وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..
    وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..
    ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى إن المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الإسلام كان سيف الزبير.
    ففي الأيام الأولى للإسلام, والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت إشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير إلا أن استلّ سيفه وامتشقه, وسار في شوارع مكة, على حداثة سنه كالإعصار..!
    ذهب أولا يتبيّن الخبر, معتزما أن ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفر بهم أو يظفروا به..
    وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله ماذا به....؟ فأنهى إليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول, ودعا له بالخير, ولسيفه بالغلب.
    وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.
    وكان الذي تولى تعذيب عمه.. كان يلفه في حصير, ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه, ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد, أدرأ عنك العذاب".
    فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ, غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهيب:
    " لا..
    والله لا أعود لكفر أبدا"...
    ويهاجر الزبير إلى الحبشة, الهجرتين الأولى والثانية, ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.

    وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها, أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!
    ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده, يحدثنا عنها فيقول:
    " صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده, فرأيته مجذّعا بالسيوف, وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.
    فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.
    فقال لي: أم والله ما منها جراحة إلا مع رسول الله وفي سبيل الله"..
    وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا إلى مكة و ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع إلى المدينة واستئناف القتال..

    وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين, وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فإن اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير, جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين, وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق إبراز قوتها, وما هي إلا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها, وأسرعت خطاها إلى مكة..!!

    ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة, صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده, ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها, وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو, ولا يحبو..!!
    وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة, عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.
    وكان يقول:
    " إن طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء, وقد علم ألا نبي بعد محمد...
    واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!
    وهكذا سمى ولده, عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.
    وسمى ولده المنذر, تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.
    وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.
    وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.
    وسمّى جعفر, تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.
    وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.
    وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..
    وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.
    ولقد قيل في تاريخه:
    " انه ما ولي إمارة قط, ولا جباية, ولا خراجا ولا شيئا إلا الغزو في سبيل الله".
    وكانت ميزته كمقاتل, تتمثل في اعتماده التام على نفسه, وفي ثقته التامة بها.
    فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف, لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.
    وكان فضيلته كمقاتل, تتمثل في الثبات, وقوة الأعصاب..
    رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة, فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه, وضاغطا على قبضة سيفه, لا يفكر إلا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!
    وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب, فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:
    " والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة, أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..
    ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..
    وبقوة أعصاب مذهلة, أحكما إنزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!
    ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه, وبقايا جيشه المنهزم, فاقتحم حشدهم وحده, وشتت شملهم وحده, وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين, العائدين من المعركة..!!

    ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..
    وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:
    " إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير ن العوّام"..
    ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب, ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين, بل كان ذلك الوفي القوي, والشجاع الأبيّ, والجوّاد السخيّ, والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:
    ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:
    أقام على عهد النبي وهديــــــــــــه حواريّـــــــــه والقول بالفعل يعدل
    أقام على منهاجــــــــــــــه وطريقه يــــوالي وليّ الحق, والحق أعدل
    هو الفارس المشهور والبطل الذي يصـــــــول, اذا ما كان يوم محجّل
    له من رسول الله قربى قريبــــــــة ومن نصـــــرة الإسلام مجد موثّل
    فكم كربـــــــــــة ذبّ الزبير بسيفه عن المصطفى, والله يعطي ويجزل

    وكان رفيع الخصال, عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!
    فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة, وكان ثراؤه عريضا, ولكنه أنفقه في الإسلام حتى مات مدينا..!!
    وكان توكله على الله منطلق جوده, ومنطلق شجاعته وفدائيته..
    حتى وهو يجود بروحه, ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:
    " اذا أعجزك دين, فاستعن بمولاي"..
    وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟
    فأجابه: الله, نعم المولى ونعم النصير"..
    يقول عبدالله فيما بعد:
    " فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقضِ دينه, فيقضيه".
    وفي يوم الجمل, على النحو الذي ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..
    فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال, وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال, وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..
    وذهب القاتل إلى الإمام علي يظن أنه يحمل إليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير, وحين يضع بين يديه سيفه الذي استلبه منه, بعد اقتراف جريمته..
    لكن عليّا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن, صاح آمرا بطرده قائلا:
    " بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار"..
    وحين أدخلوا عليه سيف الزبير, قبّله الإمام وأمعن بالبكاء وهو يقول:
    " سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله"..!!

    أهناك تحيّة نوجهها للزبير في ختام حديثنا عنه, أجمل وأجزل من كلمات الإمام..؟؟
    سلام على الزبير في مماته بعد محياه..
    سلام, ثم سلام, على حواري رسول الله...

  7. #47
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    خالد بن الوليد ( لا ينام ولا يترك أحدا ينام )

    إن أمره لعجيب..!!
    هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الإسلام بقية الأيام..!!
    ألا فلنأت على قصته من البداية..
    ولكن أية بداية..؟؟
    إنه هو نفسه, لا يكاد يعرف لحياته بدءا إلا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
    ولو استطاع لنحّى عمره وحياته, كل ماسبق ذلك اليوم من سنين, وأيام..
    فلنبدأ معه إذن من حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله, وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن, وكلتا يديه يمي, فنفجّرت شوقا إلى دينه, وإلى رسوله, وإلى استشهاد عظيم في سبيل الحق, ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..

    لقد خلا يوما إلى نفسه, وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا, وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ إليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين, فقال:
    " والله لقد استقام المنسم....
    وان الرجل لرسول..
    فحتى متى..؟؟
    أذهب والله, فأسلم"..
    ولنصغ إليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وعن رحلته من مكة إلى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
    ".. وددت لو أجد من أصاحب, فلقيت عثمان بن طلحة, فذكرت له الذي أريد فأسرع الإجابة, وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل إذا عمرو بن العاص, فقال مرحبا يا قوم,
    قلنا: وبك..
    قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه, وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
    فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق, فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
    فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير..
    وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
    فقال: إن الإسلام يجبّ ما كان قبله..
    قلت: يا رسول الله على ذلك..
    فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
    وتقدّم عمرو بن العاص, وعثمان بن طلحة, فأسلما وبايعا رسول الله"...

    أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟
    إن الذي يضع هذه العبارة بصره, وبصيرته, سيهتدي إلى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الإسلام..

    وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
    أما الآن, فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها, لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ, يعطي لآلهة آبائه وأمجاد قومه ظهره, ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا, كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..
    مع خالد إذن وقد أسلم, لنرى من أمره عجبا..!!!!

    أتذكرون أنباء الثلاثة شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟
    لقد كانوا زيد بن حارثة, وجعفر بن أبي طالب, وعبدالله بن رواحة..
    لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل, والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
    وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:
    " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
    ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى قتل شهيدا..
    ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
    كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة, ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
    هذه البقيّة هي:
    " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله, ففتح الله علي يديه".
    فمن كان هذا البطل..؟

    لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع إلى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد, وجعفر وعبدالله ابن رواحة, والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
    وبعد سقوط آخر القواد شهيدا, سارع إلى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا تبعثر الفوضى صفوفه..
    ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا إلى خالد بن الوليد, قائلا له:
    " خذ اللواء يا أبا سليمان"...
    ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالإسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالإسلام..
    أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها أهل وبها جدير!!
    هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:
    " لا آخذ اللواء, أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
    وأجابه ثابت:" خذه, فأنت أدرى بالقتال مني, ووالله ما أخذته إلا لك".
    ثم نادى في المسلمين: أترضون إمرة خالد..؟
    قالوا: نعم..
    واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه إلى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاجب سيقطعه البطل وثبا..
    في حياة الرسول وبعد مماته, حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
    ولّي خالد إمارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون, وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح, ظافر مدمدم..
    ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا, فتجعل المغلوب غالبا, والغالب مغلوبا..
    وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه, هو وقف الخسائر في جيش الإسلام, والخروج ببقيته سالما, أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.
    بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..
    ولكن, إذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد, ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!

    هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر, ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه, والقتال دائر, إلى مجموعات, ثم يكل إلى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة, خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الإسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!
    وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..

    وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..
    وعلى الجناح الأيمن من الجيش, يجعل الرسول خالدا أميرا..
    ويدخل خالد مكة, واحدا من قادة الجيش المسلم, والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..
    وتخطر له ذكريات الطفولة, حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب, حيث ملاهيه الصاخبة..
    ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..

    وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت روعة المشهد وجلاله..
    مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول, يعودون إلى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا, يعودون إليه على صهوات جيادهم الصاهلة, وتحت رايات الإسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس, إلى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا, وتهليلات باهرة ظافرة, يبدو الكون معها, وكأنه كله في عيد...!!
    كيف تمّت المعجزة..؟
    أي تفسير لهذا الذي حدث؟

    لا شيء إلا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم إلى بعض فرحين قائلين:
    ( وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {6}الروم )..!!

    ويرفع خالد رأسه إلى أعلى. ويرمق في إجلال وغبطة وحبور رايات الإسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
    أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!
    ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للإسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا, واحدا من الذين يحملون راية الإسلام إلى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الإسلام..

    ويظل خالد إلى جانب رسول الله, واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه, ونذر له كل حياته.

    وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى, ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة, وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة, مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. أبي سليمان, سيف الله, خالد بن الوليد..!!
    وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين إلا بجيش قاده هو بنفسه, ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل, وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا, كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..

    عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لإنجاز مؤامرتها الضخمة, صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه, ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة, لا يؤكدها في رأيه إلا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الإيمان, وبين جيوش الضلال والردة, وإلا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..
    ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة, على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..

    لقد وجد فيها جميع الموتورين من الإسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة, سواء بين قبائل العرب, أم على الحدود, حيث يجثم سلطان الروم والفرس, هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الإسلام الأكبر عليه, فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!
    ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد, وغطفان, وعبس, وطيء, وذبيان..
    ثم في قبائل: بني غامر, وهوزان, وسليم, وبني تميم..
    ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت إلى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
    واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين, وعمان, والمهرة, وواجه الإسلام أخطر محنة, واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن, كان هناك أبو بكر..!!
    عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم إلى حيث كانت قبائل بني عبس, وبني مرّة, وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
    ودار القتال, وتطاول, ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
    ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..

    وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني, ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم, ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة, ويعترض الإمام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض أمام جيشه الزاحف فيقول له:
    " إلى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
    إني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:
    لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."
    وأمام إجماع مصمم من المسلمين, رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش إلى إحدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..
    وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
    ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه, اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
    " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة, خالد بن الوليد, سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..

    ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة إلى معركة, ومن نصر إلى نصر حتى كانت المعركة الفاصلة..

    فهناك باليمامة كان بنو حنيفة, ومن انحاز إليهم من القبائل, قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة, يقوده مسيلمة الكذاب.
    وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة, فلم تبلغ منه منالا..
    وجاء أمر الخليفة إلى قائده المظفر أن سر إلى بني حنيفة.. وسار خالد..
    ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق إليه حتى أعاد تنظيم جيشه, وجعل منه خطرا حقيقيا, وخصما رهيبا..

    والتقى الجيشان:
    وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ, سير تلك المعركة الهائلة, تأخذك رهبة مضنية, إذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا الحديثة, وإن اختلفت في نوع السلاح وظروف القتال..
    ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة, وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه, صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!

    وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه, والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب, وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
    وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء, فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة, ذكية وعميقة..
    ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
    رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة, فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا إلى أقصاه.. فمضى ينادي إليه فيالق جيشه وأجنحته, وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة, ثم صاح بصوته المنتصر:
    " امتازوا, لنرى اليوم بلاء كل حيّ".
    وامتازوا جميعا..
    مضى المهاجرون تحت راياتهم, والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
    وهكذا صار واضحا تماما, من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة, اتّقدت مضاء, وامتلأت عزما وروعة..
    وخالد بين الحين والحين, يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها أمرا, فتتحوّل سيوف جيشه إلى مقادير لا رادّ لأمرها, ولا معوّق لغاياتها..
    وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات, فالمئات فالألوف, كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!

    لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء إلى جنوده, وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت إحدى خصال عبقريّته الباهرة..
    وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها, وقتل مسيلمة..
    وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال, وطويت تحت التراب إلى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..

    وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر, إذ منحهم هذا النصر, وهذا البطل..
    وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الإسلام وأهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..
    امبرطوريتان خرعتان, تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب, بل وتسخرهم, وأكثرهم عرب, لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة, يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله, ويجتثون عفنه وفساده..!
    هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته إلى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
    ويمضي البطل إلى العراق, وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره, إذن لرأينا من أمرها عجبا.
    لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها إلى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..
    " بسم الله الرحمن الرحيم
    من خالد بن الوليد.. إلى مرازبة فارس..
    سلام على من اتبع الهدى
    أما بعد, فالحمد لله الذي فضّ خدمكم, وسلب ملككم, ووهّن كيدكم
    من صلى صلاتنا, واستقبل قبلتنا, وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم, له ما لنا وعليه ما علينا
    إذا جاءكم كتابي فابعثوا إليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة
    وإلا, فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!

    وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق, فلم يضيّع وقته, وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
    في الأبلّة, إلى السّدير, فالنّجف, إلى الحيرة, فالأنبار, فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للإسلام راية يأوي إلى فيئها الضعفاء والمستعبدون.
    أجل, الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم, ويسومونهم سوء العذاب..
    وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره إلى جميع قوّاته:
    " لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء, دعوهم في شغلهم آمنين, إلا أن يخرج بعضهم لقتالكم, فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
    وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
    وهناك دوّت أصوات المؤذنين, وتكبيرات الفاتحين.
    ترى هل سمع الروم في الشام..؟
    وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم, وعالمهم..؟
    أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في جنون معركة اليأس والضياع..!

    كان النصر الذي أحرزه الإسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..
    فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة, واختار لإمارتها نفرا من القادة المهرة, أبو عبيدة بن الجراح, وعمرو بن العاص, ويزيد بن أبي سفيان, ثم معاوية بن أبي سفيان..
    وعندما نمت أخبار هذه الجيوش إلى إمبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين, وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..
    بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
    " والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله إلى أرضنا"..
    وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل, وأربعين ألفا.
    وأرسل قادة المسلمين إلى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
    " والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!
    وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك, تلقى أمر الخليفة بالزحف إلى الشام, ليكون أميرا على جيوش الإسلام التي سبقته إليها..
    وما أسرع ما امتثل خالد وأطلع, فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام, وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز, وبين يدي المعركة واللقاء, وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:
    " إن هذا يوم من أيام الله, لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
    أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم, وتعالوا نتعاور الإمارة, فيكون أحدنا اليوم أميرا, والآخر غدا, والآخر بعد غد, حتى يتأمّر كلكم"...
    هذا يوم من أيام الله..
    ما أروعها من بداية..!!
    لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
    وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!

    ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالإيثار, فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه, فانه لم يشأ أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه, فتنازل لهم عن حقه الدائم في الإمارة وجعلها دولة بينهم..
    اليوم أمير, وغداً أمير ثان.. وبعد غد أمير آخر.. وهكذا..
    كان جيش الروم بأعداده وبعتاده, شيئا بالغ الرهبة..
    لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين, وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما, من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود, وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..
    ولكن إيمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات, فإذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!

    ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم, فقد قال أبو بكر, وهو بالرجال جدّ خبير:
    " خالد لها".!!
    وقال:" والله, لأشفينّ وساوسهم بخالد".
    فليأت الروم بكل هولهم, فمع المسلمين الترياق..!!
    عبأ ابن الوليد جيشه, وقسمه إلى فيالق, ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل إخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..
    ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع, خطوة خطوة, وحركة حركة, حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة, لما أخطأ التقدير والحساب..!!
    كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..
    كل انسحاب تنبأ به فعلوه..
    وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا, احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار, خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالإسلام, بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..
    وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد, هو الثبات..
    وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة, يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...
    من أجل هذا, كان صارما, تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..
    وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك, وبعد أن أخذ جيشه مواقعه, دعا نساء المسلمين, ولأول مرّة سلّمهن السيوف, وأمرهن, بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
    " من يولّي هاربا فاقتلنه"..
    وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
    وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز إليه خالد ليقول له بضع كلمات ..
    وبرز إليه خالد, حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..
    وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"
    " قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجوع والجهد..
    فان شئتم, أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير, وكسوة, وطعاما, وترجعون إلى بلادكم, وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها".!!
    وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه, وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..
    وقرر أن يردّ عليه بجواب مناسب, فقال له:
    " انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم, فجئنا لذلك"..!!
    ولوى البطل زمام جواده عائدا إلى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
    " الله أكبر"
    " هبّي رياح الجنة"..
    كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.
    ودار قتال ليس لضراوته نظير..
    وأقبل الروم في فيالق كالجبال..
    وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
    ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
    فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
    " إني قد عزمت على الشهادة, فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟
    فيجيب أبو عبيدة:
    " نعم قل له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
    ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا إلى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه, ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
    وهذا عكرمة بن أبي جهل..
    أجل ابن أبي جهل..
    ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
    " لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الإسلام,أفأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟
    ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..
    فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين, ثم ينطلقون معا إلى قلب المعركة لا باحثين عن النصر, بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم,
    فيستشهدون..!!
    وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة, وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم, فلما قدم الماء إلى أولهم, أشار إلى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر, وظمؤه أشد.. فلما قدّم إليه الماء , أشار بدوره لجاره. فلا انتقل إليه أشار بدوره لجاره..
    وهكذا, حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وإيثارا..!!
    أجل..
    لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
    ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة, تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده, ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي, وخالد يصيح في المائة الذين معه:
    " والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم.
    واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".
    مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!
    ولكن أي عجب؟؟
    أليس ملأ قلوبهم إيمان بالله العلي الكبير..؟؟
    وإيمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟
    وإيمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا, وهدى ونبلا؟

    وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه, هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا, بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد, يحلب بيده شياه الأيامى, ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟
    وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر, والصلف, والبغي, والعدوان, وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟
    أليس ذلك, كذلك..؟
    إذن, هبي رياح النصر...
    هبّي قويّة عزيزة, ظافرة, قاهرة...

    لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم, مما حمل أحدهم, واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال.
    وحين يلتقيان, يوجه القائد الرومي حديثه إلى خالد قائلا:
    " يا خالد, أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
    هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك إيّاه, فلا تسلّه على أحد إلا هزمته"؟؟
    قال خالد: لا..
    قال الرجل:
    فبم سميّت بسيف الله"؟
    قال خالد: إن الله بعث فينا نبيه, فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا إلى الإسلام, وهدانا برسوله فبايعناه..
    فدعا لي الرسول, وقال لي: أنت سيف من سيوف الله, فهكذا سميّت.. سيف الله".
    قال القائد الرومي: وإلام تدعون..؟
    قال خالد:
    إلى توحيد الله, وإلى الإسلام.
    قال:
    هل لمن يدخل في الإسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟
    قال خالد: نعم وأفضل..
    قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟
    قال خالد:
    لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا, وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..
    أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه, ثم آمنتم بالغيب, فان أجركم أجزل وأكبر ، صدقتم الله سرائركم ونواياكم.
    وصاح القائد الرومي, وقد دفع جواده إلى ناحية خالد, ووقف بجواره:
    علمني الإسلام يا خالد"".!!!
    وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما, فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلبالشهادة حتى نالها وظفر بها..!!

    وبعد, فها نحن أولاء نواجه العظمة الإنسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. إذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية, ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا, بقدر ما هو مضن ورهيب, وإذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد, أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم, نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه, وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..
    قرأ خالد الكتاب, وهمهم بابتهالات الترحّم على أبي بكر والتوفيق لعمر..
    ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره, وألا يتصل بأحد.
    استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر, وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..
    ودقّت ساعة الظفر, واندحر الروم..

    وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا إليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حقق نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا, فقبّل خالد بين عينيه, وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..

    وثمّت رواية تاريخية أخرى, تقول: إن الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر إلى أبي عبيدة, وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..
    وسواء كان الأمر هذا أو ذاك, فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..
    ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ بإخلاصه العميق وصدقه الوثيق, مثل هذا الموقف...

    فسواء عليه أن يكون أميرا, أو جنديا..
    إن الإمارة كالجندية, كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به, ونحو الرسول الذي بايعه, ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..
    وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
    ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس, كما هيأه لغيره, طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
    أبو بكر وعمر..
    اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان, حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الإنسان, وعظمة الإنسان..
    وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد, فان نزاهة عمر وعدله,وورعه وعظمته الخارقة, لم تكن قط موضع تساؤل لدى خالد..
    ومن ثم لم تكن قراراته موضع شك, لأن الضمير الذي يمليها, قد بلغ من الورع, ومن الاستقامة, ومن الإخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..

    لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء, ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع, والحدّة..
    ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله إثر مقتل مالك بن نويرة, فقال:
    " إن في سيف خالد رهقا"
    أي خفة وحدّة وتسرّع..
    فأجابه الصدّيق قائلا:
    " ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".
    لم يقل عمر إن في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه, وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب, بل وعن تقديره لخالد أيضا..
    وخالد رجل حرب من المهد إلى اللحد..
    فبيئته, ونشأته, وتربيته وحياه كلها, قبل الإسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس, مخاطر, داهية..

    ثم إن إلحاح ماضيه قبل السلام, والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه, والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة, وجباها عابدة, كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ, جعل سيفه توّاقا إلى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الإسلام..
    وإنكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له:
    " يا رسول الله..
    استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".
    وعلى الرغم من إنباء الرسول صلى الله عليه وسلم إياه, بأن الإسلام يجبّ ما كان قبله, فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..
    والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد, ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر والتعويض, ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤامرات والعداوات, فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة, وحدّته الخاطفة..

    وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
    فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح إلى بعض قبائل العرب القريبة من مكة, وقال له:
    " إني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
    غلبه سيفه على أمره ودفعه إلى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلغه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة, رافعا يديه, ومعتذرا إلى الله بقوله:
    " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
    ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.
    وقيل إن خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:
    إن رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الإسلام..
    كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم إلى هدم عالمه القديم كله..
    ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.
    لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية, لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره, يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.
    فهو يضرب بيمينه, وبشماله, وبقدمه, ويصيح في الشظايا المتناثرة, والتراب المتساقط:
    " يا عزّى كفرانك, لا سبحانك
    إني رأيت الله قد أهانك"..!!
    ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!
    كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..
    ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها إلا سيفه..
    وإلا.." كفرانك لا سبحانك..
    إني رأيت الله قد أهانك"..!!

    على أننا إذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر, لوخلا سيف خالد من هذا الرهق, فإننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:
    " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!
    لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا, وعلم الإنس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب, بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر إذ كان يعتزم رد الإمارة إلى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله, لولا أن تداركه الموت وسارع خالد إلى لقاء ربه.
    نعم سارع البطل العظيم إلى مثواه في الجنة..
    أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟
    أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:
    " الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟
    أما هو, فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة, ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والإسلام..
    إن روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وأبدا, حيث تصهل الخيل, وتلتمع الأسنّة, وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..
    وأنه ليقول:
    " ما ليلة يهدى إليّ فيها عروس, أو أبشّر فيها بوليد, بأحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد, في سريّة من المهاجرين, أصبح بهم المشركين"..
    من أجل ذلك, كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه, وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده, وتحت بريق سيفه...

    هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم, وقهر أصحاب الردّة, وسوّى بالتراب عرش فارس والروم, وقطع الأرض وثبا, في العراق خطوة خطوة, حتى فتحها للإسلام, وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للإسلام...
    أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..
    كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!
    هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:
    " لقد شهدت كذا, وكذا زحفا, وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح, أو رمية سهم..
    ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير, فلا نامت أعين الجبناء"..!
    كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن, إلا مثل هذا الرجل, وحين كان يستقبل لحظات الرحيل, شرع يملي وصيّته..
    أتجرون إلى من أوصى..؟
    إلى عمر بن الخطاب ذاته..!!
    أتدرون ما تركته..؟
    فرسه وسلاحه..!!
    ثم ماذا؟؟
    لا شيء قط , مما يقتني الناس ويمتلكون..!!
    ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ, سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.
    وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..
    شيء واحد, كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..
    سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:
    " إن فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتفاءل بها, وأستنصر".

    وأخيرا, خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
    أنت خير من ألف ألف من القو م إذا ما كبــت وجوه الرجال
    أشجـــاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال
    أجواد..؟ فأنــــت أجود من سي ل غامر يسيــل بين الجبال

    وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:
    " صدقت..
    والله إن كان لكذلك".
    وثوى البطل في مرقده..
    ووقف أصحابه في خشوع, والدنيا من حولهم هاجعة, خاشعة, صامتة..
    لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها, وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها, يقودها عبيره وأريجه..

    وإذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية, وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها, يهدّ عروش فارس والروم, ويشفي وساوس الوثنية والبغي, ويزيح من طريق الإسلام كل قوى التقهقر والشرك...
    وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط, ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!
    ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!
    لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..
    ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟
    وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

    إيه يا بطل كل نصر..
    ويا فجر كل ليلة..
    لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:
    " عند الصباح يحمد القوم السرى"..

    حتى ذهبت عنك مثلا..
    وهأنذا, قد أتممت مسراك..
    فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!
    ولذكراك المجد, والعطر, والخلد, يا خالد..!!
    ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
    " رحم الله أبا سليمان
    ما عند الله خير مما كان فيه
    ولقد عاش حميدا
    ومات سعيدا

  8. #48
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عثمان بن مظعون ( راهب صومعته الحياة )

    إذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم الزمني إلى الإسلام فاعلم إذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون..
    واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا, كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع..
    واعلم أخيرا أن هذا الصحابي الجليل الذي تطالع إلان سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع, بل من رهبان الحياة...!!
    أجل.. كانت الحياة بكل جيشانها, ومسؤولياتها, وفضائلها هي صومعته..
    وكانت رهبانيته عملا دائبا في سبيل الحق, وتفانيا مثابرا في سبيل الخير والصلاح...

    عندما كان الإسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته , عليه الصلاة والسلام, التي يلقيها في بعض الأسماع سرا وخفية..
    كان عثمان بن معظون هناك, وحدا من القلة التي سارعت إلى الله والتفت حول رسوله..
    ولقد نزل به من الأذى والضر, ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين..
    وحين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا إيّاها بالهجرة إلى الحبشة. مؤثرا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده, كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من المهاجرين, مصطحبا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل. وضراوة قريش, وهو عذابها....

    وكشأن المهاجرين إلى الحبشة في كلتا الهجرتين... الأولى والثانية, لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه إلا استمساكا بالإسلام. واعتصاما به..
    والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان ظاهرة فريدة, ومجيدة في قضية الإسلام..
    فالذين آمنوا بالرسول صلى الله وصدّقوه, واتبعوا النور الذي أنزل معه, كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاتها, وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو معجونة من صلصال..!!
    وحين هاجروا إلى الحبشة واجهوا فيها دينا سائدا, ومنظما.. له مناسكه وأحباره ورهبانه..
    وهو, مهما تكن نظرتهم إليه, بعيد عن الوثنية التي ألفوها في بلادهم, وعن عبادة الأصنام بشكلها المعروف وطقوسها التي خلفوها وراء ظهورهم..
    ولا بدّ أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم, وإقناعهم بالمسيحية دينا...
    ومع هذا كله نرى أولئك المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للإسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في شوق وقلق, ذلك أن اليوم القريب الذي يعودون فيه إلى بلادهم الحبيبة, ليعبدوا الله وحده, وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان القتال, إذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال..

    في الحبشة إذن عاش المهاجرون آمنين مطمئنين.. وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف, وما ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ, فراح يتسلى بهجائه ويتوعده:
    تريش نبالا لا يواتيك ريشها وتبري نبالا, ريشها لك أجمع
    وحاربت أقواما مراما أعزة وأهلكت أقواما بهم كنت تزغ
    ستعلم إن نابتك يوما ملمّة وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع

    وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله, ويتدارسون ما معهم من القرآن, ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. إذ الأنباء تواتيهم أن قريش أسلمت, وسجدت عم الرسول لله الواحد القهار..
    هنالك حمل المهاجرون أمتعتهم وطاروا إلى مكة تسبقهم أشواقهم, ويحدوهم حنينهم..
    بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن إسلام قريش..
    وساعتئذ سقط في أيديهم, ورأوا أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!!
    وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن, تحيّن فرصته, وتأتي به مقاديره..!!

    كان الجوّار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والإجلال, فإذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي, أصبح في حمى منيع لا يهدر له دم, ولا يضطرب منه مأمن...
    ولم يكن العائدون سواء في القدرة على الظفر بجوار..
    من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم قلة, كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بم المغيرة.
    وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا, ومضى يعبر دربها, ويشهد ندواتها, لا يسام خسفا ولا ضيما.

    ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن, ويربيه محمد صلى الله عليه وسلم, يتلفت حوإليه, فيرى إخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين, الين لم يجدوا لهم جوارا ولا مجيرا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل سبيل.. بينما هو آمن في سربه, بعيد من أذى قومه, فيثور روحه الحر, ويجيش وجدانه النبيل, ويتفوق بنفسه على نفسه, ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد, وأن ينضو عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله, وشرف الشبه بإخوانه المسلمين, طلائع الدنيا المؤمنة, وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا إيمانا, وتوحيدا, ونورا..

    ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث:
    " لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة, قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك, وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني, لنقص كبير في نفسي..
    فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:
    يا أبا عبد شمس وفت ذمتك. وقد ردت إليك جوارك..
    فقال له:
    لم يا ابن أخي.. لعله إذاك أحد من قومي..؟
    قال.. لا. ولكني أرضى بجوار الله, ولا أريد أن أستجير بغيره...
    فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية ..
    فانطلقا حتى أتيا المسجد, فقال الوليد: هذا عثمان..
    قد جاء يردد عليّ جواري..
    قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته وفيّا كريما الجوار, ولكنني أحببت إلا أستجير بغير الله..
    ثم انصرف عثمان, ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشدهم, فجلس معهم عثمان فقال لبيد:
    ألا كل شيء ما خلا الله باطل
    فقال عثمان: صدقت..
    قال لبيد:
    وكل نعيم لا محالة زائل
    قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة لا يزول..
    فقال لبيد: يا معشر قريش, والله ما كان يؤذي جليسكم, فمتى حدث هذا فيكم..؟
    فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله..
    فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما. فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابا, والوليد بن المغيرة قريب, يرى ما يحدث لعثمان, فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة, لقد كانت في ذمة منيعة..
    فال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس..!!
    فقال له الوليد: هلم يا بن أخي, إن شئت فعد إلى جواري..
    قال ابن مظعون: لا...
    وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم, ولكن روحه تتفجر عافية, وصلابة, وبشرا..
    ولقد مضى في الطريق إلى داره يتغنى بشعره هذا:
    فإن تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحدا في الدين ليس بمهتدي
    فقد عوّض الرحمن منها ثوابـه ومن يرضـه الرحمن يا قوم يسعد
    فاني وإن قلتـــــــم غويّ مضلل لأحيـــــــا على دين الرسول محمد
    أريد بذاك الله, والحق ديننــــــا على رغـم من يبغي علينا ويعتدي

    هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلا, هو له أهل, وبه جدير..
    وهكذا شهدت الحياة إنسانا شامخا يعطّر الوجود بموقفه الفذ هذا..
    وبكلماته الرائعة الخالدة:
    " والله إن عيني الصحيحة, لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر"..!!
    ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش إذاها, وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك الأذى بمثابة النار التي تنضج الإيمان وتصهره وتزكّيه..
    وهكذا سار مع إخوانه المؤمنين, لا يروعهم زجر.. وبل يصدّهم إثخان..!!

    ويهاجر عثمان إلى المدينة, حيث لا يؤرّقه أبو جهل هناك, ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. ولا عتبة, ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم, وأدمت نهارهم..
    يذهب إلى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته, والذين لم يهاجروا إلى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب إلى كل أقطار الأرض حاملين راية الله, مبشرين بكلماته وآياته وهداه..
    وفي دار الهجرة المنوّرة, يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة, فإذا هو العابد, الزاهد, المتبتل, الأواب...
    وإذا هو الراهب الجليل, الذكي الذي لا يأوي إلى صومعة يعتزل فيها الحياة..
    بل يملأ الحياة بعمله, وبجهاده في سبيل الله..
    أجل..
    راهب الليل فارس النهار, بل راهب الليل والنهار, وفارسهما معا..
    ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم, كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل, فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه إمعانا رائعا, أحال حياته كلها في ليله ونهاره إلى صلاة دائمة مضيئة, وتسبيحة طويلة عذبة..!!
    وما إن ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة..
    فمضى لا يلبس إلا الملبس الخشن, ولا يأكل إلا الطعام الجشب..
    دخل يوما المسجد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس, وكان يرتدي لباسا تمزق, فرقّعه بقطعة من فروة.. فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم, ودمعت عيون أصحابه, فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
    " كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة, ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر الكعب..؟!"..
    قال الأصحاب:
    " وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله, فنصيب الرخاء والعيش"..
    فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا:
    " إن ذلك لكائن.. وأنتم اليوم خير منكم يومئذ"..
    وكان بديهيا, وابن مظعون يسمع هذا, أن يزداد إقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!!
    بل حتى الرفث إلى زوجته نأى عنه وانتهى, لولا أن علم أن رسول الله عليه السلام علم عن ذلك فناداه وقال له:
    " إن لأهلك عليك حقا"..

    وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا عظيما..
    وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة, وأولهم ارتياد لطريق الجنة, كان الرسول عليه الصلاة والسلام, هناك إلى جواره..
    ولقد أكبّ على جبينه يقبله, ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات إشراقه وجلاله..
    وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب:
    " رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الدنيا وما أصبت منها, ولا أصابت منك"..

    ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته, بل كان دائم الذكر له, والثناء عليه..
    حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة, حين فاضت روحها:
    " الحقي بسلفنا الخيّر, عثمان بن مظعون"..!!!


  9. #49
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    ثابت بن قيس ( خطيب رسول الله )
    كان حسّان بن ثابت شاعر رسول الله والإسلام..
    وكان ثابت خطيب خطيب رسول الله والإسلام..
    وكانت الكلمات تخرج من فمه قوية, صادعة, جامعة رائعة..
    وفي عام الوفود, وفد على لمدينة وفد بني تميم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا"..
    فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم:
    " قد أذنت لخطيبكم, فليقل"..
    وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو بمفاخر قومه..
    ولما آذن بانتهاء, قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه..
    ونهض ثابت فقال:
    " الحمد لله, الذي في السموات والأرض خلقه, قضى فيهنّ أمره, ووسع كرسيّه علمه, ولم يك شيء قط إلا من فضله..
    ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة. واصطفى من خير خلقه رسولا.. أكرمهم نسبا. وأصدقهم حديثا. وأفضلهم حسبا, فأنزل عليه كتابه, وائتمنه على خلقه, فكان خيرة الله من العالمين..
    ثم دعا الناس إلى الإيمان به, فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابا, وخيرهم فعالا..
    ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابة..
    فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله"..

    شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد, والمشاهد بعدها.
    وكانت فدائيته من طراز عجيب.. جد عجيب..!!
    في حروب الردّة, كان في الطليعة دائما, يحمل راية الأنصار, ويضرب بسيف لا يكبو, ولا ينبو..
    وفي موقعة اليمامة, التي سبق الحديث عنها أكثر من مرة, رأى ثابت وقع الهجوم الخاطف لذي شنّه جيش مسيلمة الكذاب على المسلمين أول المعركة, فصاح بصوته النذير الجهير:
    " والله, ما هذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
    ثم ذهب بغير بعيد, وعاد وقد تحنّط, ولبس أكفانه, وصاح مرة أخرى:
    " إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء..
    يعني جيش مسيلمة..
    وأعتذر إليك مما صاع هؤلاء..
    يعني تراخي المسلمين في القتال"..
    وانضم إليه سالم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحمل راية المهاجرين..
    وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة ثم نزلا فيها قائمين, وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما..
    وهكذا وقفا..طودين شامخين, نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفرة.. في حين نصفهما الأعلى, صدرهما وجبهتهما وذراعهما يستقبلان جيوش الوثنية والكذب..
    وراحا يضربان بسيفهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما, ومالت شمس كل منهما للغروب..!!
    وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في ردّ المسلمين إلى مواقعهم, حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه الأقدام..!!

    وثابت بن قيس.. هذا الذي تفوّق خطيبا, وتفوّق محاربا كان يحمل نفسا أوابة, وقلبا خاشعا مخبتا, وكان من أكثر المسلمين وجلا من الله, وحياء منه..

    لما نزلت الآية الكريمة:
    ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا {36}النساء)..
    أغلق ثابت باب داره, وجلس يبكي..وطال مكثه على هذه الحال, حتى نمى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, فدعاه وسأله.
    فقال ثابت:
    " يا رسول الله, إني أحب الثوب الجميل, والنعل الجميل, وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين"..
    فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيا:
    " انك لست منهم..
    بل تعيش بخير..
    وتموت بخير..
    وتدخل الجنة".
    ولما نزل قول الله تعالى:
    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {2}الحجرات )..
    أغلق ثابت عليه داره, وطفق يبكي..
    وافتقده الرسول فسأل عنه, ثم أرسل من يدعوه...
    وجاء ثابت..
    وسأله الرسول عن سبب غيابه, فأجابه:
    " إني امرؤ جهير الصوت..
    وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله..
    وإذن فقد حبط عملي, وأنا من أهل النار"..!!
    وأجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:
    " انك لست منهم..
    بل تعيش حميدا..
    وتقتل شهيدا..
    ويدخلك الله الجنة".

    بقي في قصة ثابت واقعة, قد لا يستريح إليها أولئك الذين حصروا تفكيرهم وشعورهم ورؤاهم داخل عالمهم الماديّ الضيّق الذي يلمسونه, أو يبصرونه, أو يشمّونه..!
    ومع هذا, فالواقعة صحيحة, وتفسيرها مبين وميّسر لكل من يستخدم مع البصر, البصيرة..
    بعد أن استشهد ثابت في المعركة, مرّ به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام ورأى على جثمان ثابت دعه الثمينة, فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه, فأخذها..
    ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:
    ".. وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه.
    فقال له: إني أوصيك بوصية, فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه.
    إني لما استشهدت بالأمس, مرّ بي رجل من المسلمين.
    فأخذ درعي..
    وان منزله في أقصى الناس, وفرسه يستنّ في طوله, أي في لجامه وشكيمته.
    وقد كفأ على الدرع برمة, وفوق الأبرمة رحل..
    فأت خالدا, فمره أن يبعث فيأخذها..
    فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر, فقل له: إن عليّ من الدين كذا كذا..
    فليقم بسداده..
    فلما استيقظ الرجل من نومه, أتى خالد بن الوليد, فقصّ عليه رؤياه..
    فأرسل خالد من يأتي بالدرع, فوجدها كما وصف ثابت تماما..
    ولما رجع المسلمون إلى المدينة, قصّ المسلم على الخليفة الرؤيا, فأنجز وصيّة ثابت..
    وليس في الإسلام وصيّة ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو, سوى وصيّة ثابت بن قيس..

    حقا إن الإنسان لسرّ كبير..
    ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169}آل عمران).

  10. #50
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبدالله بن عباس ( حبر هذه الأمة )

    يشبه ابن عباس, عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام, ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.
    لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة, ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره, ويزكيه, ويعلّمه الحكمة الخالصة.
    وبقوة إيمانه, وقوة خلقه, وغزارة علمه, اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.

    هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم, عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
    ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة, هيأه لهذا اللقب, ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه, واتساع معارفه.
    لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:
    " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
    ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم, والمعرفة.
    وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.

    فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله, فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..
    وبعد ذهاب الرسول إلى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..
    هنالك, جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة, أو يحفظ حديثا, إلا سارع إليه وتعلم منه..
    وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب, بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..
    يقول عن نفسه:
    " إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد, ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
    ويعطينا صورة لحرصه على إدراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:
    " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:
    هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله, فإنهم اليوم كثير.
    فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون إليك, وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟
    فترك ذلك, وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل, فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة, فأتوسّد ردائي على بابه, يسفي الريح عليّ من التراب, حتى ينتهي من مقيله, ويخرج فيراني, فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت إلي فآتيك..؟؟ فأقول لا, أنت أحق بأن أسعى إليك, فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!
    هكذا راح فتانا العظيم يسأل, ويسأل, ويسأل.. ثم يفحص الإجابة مع نفسه, ويناقشها بعقل جريء.
    وهو في كل يوم, تنمو معارفه, وتنمو حكمته, حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم, وحصافتهم, وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!
    سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟
    فأجاب:
    " بلسان سؤول..
    وقلب عقول"..
    فبلسانه المتسائل دوما, وبعقله الفاحص أبدا, ثم بتواضعه ودماثة خلقه, صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..
    ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:
    " ما رأيت أحدا أحضر فهما, ولا أكبر لبّا, ولا أكثر علما, ولا أوسع حلما من ابن عباس..
    ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات, وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس, ولا يجاوز عمر قوله"..
    وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:
    " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..
    ولا رأيت أحدا, أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..
    ولا أفقه في رأي منه..
    ولا أعلم بشعر ولا عربية, ولا تفسير للقرآن, ولا بحساب وفريضة منه..
    ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..
    وما رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له, ولا سائلا إلا وجد عنده علما"..!!

    ووصفه مسلم من أهل البصرة, وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للإمام عليّ ابن أبي طالب, فقال:
    " انه آخذ بثلاث, تارك لثلاث..
    آخذ بقلوب الرجال إذا حدّث..
    وبحسن الاستماع إذا حدّث..
    وبأيسر الأمرين إذا خولف..
    وتارك المراء..
    ومصادقة اللئام..
    وما يعتذر منه"..!!

    وكان تنوّع ثقافته, وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم, ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة, يأتيه الناس أفواجا من أقطار الإسلام, ليسمعوا منه, وليتفقهوا عليه..
    حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:
    " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا, لو أن جميع قريش فخرت به, لكان لها به الفخر..
    رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق, فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..
    فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه, فقال لي: ضع لي وضوءا, فتوضأ وجلس وقال: أخرج إليهم, فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سالوا عن شيء إلا اخبرهم وزاد..
    ثم قال لهم: إخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.
    ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..
    فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم..
    ثم قال: إخوانكم.. فخرجوا..
    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض, فآذنتهم, فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم..
    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية, والشعر..
    فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم"!!

    وكان ابن عباس يمتلك إلى جانب ذاكرته القوية, بل الخارقة, ذكاء نافذا, وفطنة بالغة..
    كانت حجته كضوء الشمس ألقا, ووضوحا, وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه, لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب, بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
    ومع غزارة علمه, ونفاذ حجته, لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء, يزهو فيها بعلمه, ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..
    ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..
    بعث به الإمام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم إلى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..
    ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..
    سألهم ابن عباس:
    " ماذا تنقمون من عليّ..؟"
    قالوا:
    " ننتقم منه ثلاثا:
    أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله, والله يقول إن الحكم إلا لله..
    والثانية: أنه قاتل, ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم, فلئن كانوا كفارا, فقد حلّت أموالهم, وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!
    والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين, استجابة لأعدائه, فان لم يكن أمير المؤمنين, فهو أمير الكافرين.."
    وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:
    " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله, فأيّ بأس..؟
    إن الله يقول: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ....) المائدة (95)
    فنبؤوني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى, أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!
    وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:
    " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم, فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا, ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟
    وهنا كست وجوههم صفرة الخجل, وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..
    وانتقل ابن عباس إلى الثالثة:
    " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين, حتى يتم التحكيم, فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية, إذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش, فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..
    فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله إني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: اكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!
    واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا, معلنين اقتناعهم, ومعلنين خروجهم من خصومة الإمام عليّ..!!

    ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر, من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.
    فهو في جوده وسخائه إمام وعلم..
    انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!
    ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:
    " ما رأينا بيتا أكثر طعاما, ولا شرابا, ولا فاكهة, ولا علما من بيت ابن عباس"..!!
    وهو طاهر القلب, نقيّ النفس, لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.
    وهوايته التي لا يشبع منها, هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..
    يقول عن نفسه:
    " إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..
    وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل, ويحكم بالقسط, فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!
    وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به, ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"

    وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل, ويصوم من الأيام, ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه, إذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..
    فإذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد, وذكر الموت, والبعث علا نشيجه ونحيبه.

    وهو إلى جانب هذا شجاع, أمين, حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته, وسعة حيلته.
    وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..
    عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج إلى العراق ليقاتل زيادا, ويزيد, تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده, أقضّه الحزن عليه, ولزم داره.
    وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم, لم تكن تجد ابن عباس إلا حاملا راية السلم, والتفاهم واللين..
    صحيح أنه خاض المعركة مع الإمام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة, تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.

    وعاش ابن عباس يملأ دنياه علما وحكمة, وينشر بين الناس عبيره وتقواه..
    وفي عامه الحادي والسبعين, دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف إلى الجنان.
    وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره, كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:
    (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ) الفجر

صفحة 5 من 7 الأولىالأولى ... 34567 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة للسبلة العمانية 2020
  • أستضافة وتصميم الشروق للأستضافة ش.م.م