686 - وعن عائشـة رضي الله عنها قـالـت : قـال رسـول الله: « خمس من الدواب كلهن فواسق ، يقتلن في الحل والحرم : العقرب ، والحِدَأة ، والغـراب ، والـفأرة ، والكلب العقور » . متفق عليه .


قال البخاري رحمه الله : حدثنا يحيى بن سليمان قال : أخبرنا ابن وهب قال: أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها .
وقال مسلم رحـمه الله : حدثنا ابن المثنى وابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها.
قول : « خمس » :
لا مفهوم لهذا العدد ، فقد جـاء بلـفظ اربع ، وجاء بلفظ ست ، وليس هذا للحصر ، ولكن نبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الخمس لأنهن أصل الفويسقات فيلحق بهن ما كان بمنزلتهن من الأذى ، فإن ما آذى طبعاً قتل شرعاً.
قوله: « يقـتـلن » :
هذا على الجواز ، وقال بعض أهل العلم : يحتمل أن يكون للندب أو الإيجاب، وفي هذا نظر ، والصحيح أنه على الجواز ما لم يقترن بالمسألة شيء يجعله للاستحباب أو للإيجاب .
قوله : « في الحل والحرم » :
هذا نفيٌ لما قد يتوهمه المرء من أن الإذن في الحل دون الحرم ، ولو كن هؤلاء صيداً لما جاز قتلهن في الحرم ، فإن الله يقول : { لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وقد أجمع العلماء علىتحريم الصيد في الحرم ، فعلم أن هذه المذكورات ليست من الصيد ، وضابط الصيد ما يجوز أكله ، وأما ما يحرم أكله فليس بصيد ولكن لا يلزم من هذا جواز قتله مطلقاً ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة ، وهي ليست من الصيد ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد والضفدع وليسا بصيد .
قوله: « العقرب » :
ويُلحق بالعقرب جميع ذوات السموم ، فإنها بمنزلتها بالأذى وأشد كالعقربان والحية وما أشبه ذلك .

قوله: « والحِـدَأة » :
بكسر الحاء وفتح الدال : وهو طائر معروف يختطف الأموال الثمينة فيلحق، به كل طائر مؤذي .

قوله : « والغراب » :
أياً كان لونه عند جماهير العلماء ، وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن عائشة تقييد الغراب الأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، فحمل الإمام ابن خزيمة رحـمه الله المطلق على المقيد وقال : لا يقتل إلا الغراب الأبقع الذي في ظهره أو بطنه بياض ، أما الأسود البحت الذي لم يخالطه لونٌ آخر لا يُقتل . ولكن قال الإمام ابن قدامة رحـمه الله : الروايات المطلقة أصح، ولذلك أعل جماعة من أهل الحديث رواية ( الأبقع ) بالشذوذ ، ولذلك لم يخرجها البخاري رحمه الله في صحيحه ، إنما جاءت في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم .

قوله : « الفأرة » :
وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فويسقة لأذاها ، وكل مؤذي يصدق عليه هذا الاسم ، ويلحق بالفويسقة كل شيء بمنزلتها بالأذى كالوزغ وما شابهه .

قوله : « الكلب العقور » :
يلحق به جميع أنواع الحيوانات المفترسة كالأسد والفهد والنمر والذئب وما شابه ذلك ، وذهب بعض أهل العلم إلى الحصر فقالوا : لا يجوز قتل ما لم يذكر في الحديث ، وهذا مروي عن فقهاء الأحناف وأهل الظاهر ، وهذا اللائق بظاهريتهم ، ولكن جاء في بعض طرق الحديث الحية ، وهذا ينقض من حصر الأشياء التي لا تقتل في الحل والحرم بخمس . وأيضاً مَـنْ تأمل معاني الحديث والأسباب التي من أجلها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذه الخمس تبين له إلحاق ما عداها بها ، فالمراد المعنى ليس اللفظ ، فمن المحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم اقتلوا الكلب العقور ثم يأتي أسد ولا يُقتل ، والنبي نبه بالأدنى وهو الكلب على الأعلى كالذئب وما هو أعلى من الذئب كالنمر وما هو أعلى من النمر كالأسد .


687- وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس .
وقال الإمام مسلم رحـمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء وطاووس عن ابن عباس .

والحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم ، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد ، ولكن قالوا : ما لم يقطع شعراً فإن قطع شعراً فدى . وجاء عن ابن عمر وهو مذهب مالك كراهية الحجامة للمحرم مطلقاً .
وذهب الحسن البصري إلى لزوم الفدية لـمن احتجم ولو لم يقطع شعراً ، والحق في هذه القضية القول بـمـا دل عليه الخبر من جواز الحجامة للمحرم سواء كانت الحجامة للحاجة أم لغير حاجة ، وأما ما جاء عند أبي داود من طريق يزيد بن زريع عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله وهو محرم في رأسه من داء كان به . فلا أظن أن هذه الرواية تثبت ، ومن لوازم الحجامة في الرأس قطع بعض الشعر ، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فدى أو أمر بالفدية ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذه المسألة شبيهة بحك الرأس ، فالغالب أن الشعر مع الحك يتساقط ، كذلك غسل الرأس يحصل معه تساقط شعر ، وقد كان رسول الله يغتسل وهو محرم . والحديث في الصحيحين . وتقول عائشة رضي الله عنها : لو ربطت يداي لحككت رأسي برجلي . وما أحسن ما قاله الأعمش رحـمه الله حين سأله سائل عن مقدار حك الرأس فقال : حك حتى يخرج العظم .

يريد بهذا رحـمه الله أن يبين أنه لا داعي للتنطع في التورع عن حك الرأس كما يفعل بعض الناس من ضربه كأنه يضرب مسماراً في خشبة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « هلك المتنطعون » . وأما حلق الرأس كله فإنه يوجب الفدية ، يدل عليه ما ذكره المؤلف في الباب :

688- وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : حُـمـلـتُ إلى رسول الله والقُـمـلُ يتناثر على وجهي ، فقال : « ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ، أتجد شاة ؟ » ، قلت : لا ، قال : « فصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع » . هذا الخبر متفق عليه .



قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سيف عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة .
قال الإمام مسلم رحـمه الله : حدثنا ابن نمير قال : أخبرني أبي عن سيف به .
والحديث دليل على أن من كان به أذى مــن رأسـه لقمـل أو نحوه فإنـه يحلـق شعـره ولا إثـم عليه ، لأنه حلق للعــــذر ، ولكــن عليه الفدية كما قال تعـــالى : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
وقد جاءت السنة بتوضيح هذا الآية ، فقوله تعالى : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } وضحت السنة الصيام وأنه ثلاثة أيام .

قوله تعالى : { أَوْ صَدَقَةٍ } :
وضحت السنة مقدار الصدقة وأنه طعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع .
قوله تعالى : { أو نسك } :
وضحت السنة أن النسك ( الشاة ) وما يجزئ أضحية ، وقد ذكر الحافظ في فتح الباري أن أكثر التابعين يجوزون وضع الفدية في أي مكان ، وذهب بعض الفقهاء إلى لزوم الفدية في مكة ولكنهم يخرجون عن ذلك الصيام ويقولون أنه لا يتعلق بالفقراء ، فيجوز حينئذٍ في كـل مكان ، والقول الأول هو ظاهر الحديث ، وبه قال الإمام مالك رحـمه الله ، فإن قولـه صلى الله عليه وسلم : « أنسك شاة » عام ولم يدل دليل علىتقييده بالحرم ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، ولكن قال بعض الفقهاء : إن الفدية بمنزلة الهدي ، فعلى هذا القول يجب ذبح الفدية في الحرم وتوزيعها على فقراء أهله ، وقد ألحق جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة جميع محظورات الإحرام بحلق الرأس فأوجبوا الفدية على كل من عمل محظوراً . مع أن الحديث في المتعمد . هذه القضية الأولى .

القضية الثانية : في حلق الرأس دون غيره .

القضية الثالثة : أن الحديث جاء بالتخيير بين الإطعام والصيام والذبح بينما قال غير واحد من الفقهاء بلزوم الدم على كل من فعل محظوراً ، وهذا تضييق لما وسع الله ، فالله جل وعلا خير العباد فقال : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } و ( أو )هنا : للتخيـيـر .


689- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتح الله تعالى على رسول الله مكة قام رسول الله في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلــط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد من قبلي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحد بعدي ، فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكهــا ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين » . فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله في قبورنا وبُيوتنا ، فقال : « إلا الإذخر » . متفق عليه .


قال البخاري رحمه الله : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا شيبان قال أخبرنا يحيى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحـمه الله : حدثنا زهير بن حرب قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به .
ورواه الإمام أحـمد وأهل السنن وابن الجارود في المنتقى كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير به .
قـوله : [ لما فتح الله مكة ] :
وكان هذ الفتح في رمضان سنة ثمان من الهجرة .
قوله : [ قام رسول الله ] :
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالناس خطيباً مبتدئاً بحمد الله والثناء عليه، وهذا هو المشروع في كل خطبه ، سواء كانت خطبة جمعة أو غيرها ، وروى أبو داود في سننه والترمذي في جامعه من طريق عاصم بـن كـليب عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء » .
وقد روى الإمام أحـمد والترمذي في جامعه من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص وأبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود ، وكل الإسنادين صحيح ، قال : كان رسول الله يعلمنا خطبة الحاجة كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول : « إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » .
وإنْ حـمد الله جل وعلا في غير ما ذكر هنا صح هذا وأجزأ . المراد أن لا يُـخـلي خطبته من حـمد الله والثناء عليه ، فإن فعل أي أخلى خطبته من الحمد والبسملة معاً لم يتم مطلوبه وإن تم حساً لم يتم معنى ولا يبارك الله في ذلك .


قوله : « إن الله حبس عن مكة الفيل » :
أي منع عن مكة الفيل ومن أتى به وهم وفود الحبشة بقيادة أبرهة ، وذلك أن أبرهة حين رأى الناس يعظمون الكعبة ويحجون إليها ويعظمونها ولها وقع في قلوبهم وإن كانوا عبدة أوثان ، عزم حينئذٍ أن يبني كعبة في دياره ليحج الناس إليها عوضاً عن بيت الله الموجود في مكة فبنى كعبة ، فلما تم بناؤها أمر الناس أن يطوفوا بها ، فجاء أحد أصحاب الغيرة والأنفة فلطخها بالقاذورات ، فلما علم أبرهة بهذا عزم على هدم الكعبة ليذلل الناس ويرغمهم على الطواف بكعبته ، فحينئذ جهز جيوشه وجعل الفيلة في مقدمة ذلك فحبس الله تعالى الفيل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول .

قوله: « وسلط عليها رسوله والمؤمنين » :
أي جعل مكة منقادة لرسول الله وللمؤمنين حيث مَـنَّ الله عليهم بفتحها والتمكين من أهلها بعدما أخرجوا منها وتركوا ديارهم وأموالهم وأهاليهم .

قوله : « وإنها لم تحل لأحد كان قبلي » :
المراد بهذا : إن مكة لا يجوز فيها القتال ، وهذا أمر مجمع عليه ، فإن الله حرم القتال في مكة على جميع الأمم السابقة فلم تحل لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولن تحل لأحد بعده ، وإنما أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من الـنهار ، والمراد بالساعة هنا اللحظة من الزمن .


وهل يجوز في مكة إقامة الحد على الجاني ؟ .


فيـه خـلاف بين الفقهاء رحـمهم الله : فذهب الإمام أحـمد وأبو حنيفة إلى المنع ، وعن أحـمد رواية وهي مذهب مالك والشافعي جواز إقامة الحدود في مكة، إنما المنهي عنه هو القتال لا إقامة الحدود ، وهذا القول أصح من القول الأول فليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من إقامة الحدود في مكة ، وأيضاً إنما ينهى عن القتال فيهــا ابتداء ، أما إذا بغت الأعداء فلا بد حينئذٍ من الدفاع عن النفس ، فيجوز حينئذٍ قتال العدو وكف شره وأذاه ، فإن هذا الأمر أمر لا بد منه .

قوله : « فلا ينفر صيدها » :
وذلك لشرف مكة وعظمها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بتنفير الصيد إقامتــه للجلوس في مكانـــه ، ويشمل هذا تنفيره ليخرج عن الحرم ليصاد .

قوله : « لا يختلى شوكها » :
وفي رواية : « ولا يختلى خلاها » ، والمراد بالاختلى القطع .

الحديث يدل على تحريم قطع شجر مكة وشوكها ونحو ذلك ، ولكن قال جمهور العلماء : يستثنى من ذلك ما أنبته الآدميون ، كالأشجار فإنه يجوز قطعها، وقال الشافعي بالعموم ، وقول الجمهور أصح .
وهل على من قطع شيئاً جزاء ؟ . الجواب : لم يرد على هذا دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتهد بعض أهل العلم فأوجب جزاءً لمن قطع شيئاً كفارةً لفعله ، وقالت طائفة أخرى : يستغفر الله ويتوب إليه ، ولا كفارة عليه ، فإن الكفارات لا بد لها من دليل ولا يجوز فيها الاجتهاد ، أما التعزير فهذا أمر وارد ولكن الصحيح في التعزير أنه لا يكون إلا للحاكم ومن ينوب عنه .




وهل يجوز للمسلم أن يمكن بهائمه من الرعي ؟ .

جوز هذا جماعة من أهل العلم ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الرعي والأصل في هذا الجواز كما اختار هذا الشنقيطي رحمه الله في ( أضواء البيان ) .
قوله : « ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد » :
المراد بالمنشد : المعرف ، فلقطة مكة أعظم من لقطة غيرها ، فإن لقطة سائر البلاد تعرفها سنة بعدما تعرف عفاصها ووكاءها ، فإن جاء صاحبها وإلا انتفعت بها وأما لقطة مكة فيجب تعريفها على الدوام ، ويحرم تملكها ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ولا تحل ساقطتها » أي لا تجوز لقطة مكة إلا لمنشد : أي لمن أراد تعريفها والقيام بحقوقها .

فإن قـال قائـل : مـا هي الـحـكـمـة في تخصيص مكة عن سائر البلاد ؟ .

فالجواب أن يقال : الحكمة ـ والعلم عند الله ـ أن مكة لا يمكن أن تخلو من أحد فيسهل حينئذٍ وجدانها خصوصاً أوقات المجامع كالحج .

واختلف العلماء رحمهم الله في حكم التقاط اللقطة ، قالت طائفة من أهل العلم إن التقاطها واجب ، وقالت طائفة : إن التقاطها مستحب ، وقالت طائفة ثالثة: إن التقاطها مكرمة ، وفيه أيضاً مذاهب أخرى ، والحق في هذه المسألة التفصيل ، فإن علم من نفسه القيام بالمشروع وتعريف اللقطة وغلب على ظنه حفظها والقيام بحقوقها فإن التقاطها حينئذٍ مستحب ، لقول الله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ، وأما إذا خشي من نفسه عدم القيام بحقوقها وعدم أداء الأمانة فيها فهو بخير النظرين : إما أن يدفعها للجهات المختصة لتقوم بدورها وتبرأ ذمته حينئذٍ ، وإما أن يدعها فيلتقطها من يقوم بها على الوجه المطلوب ، لأنه بهذه الحالة ربما أخذها ولم يعرفها فيأثم ، فتركها حينئذٍ خيرٌ من أخذها ، وأخذها بهذه الحالة يتراوح ما بين الكراهة والتحريم .


قوله : « ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين » :

أي إما أن يعفوا ويقبلوا الدية ، وإما أن يطلبوا القصاص ، وهذا باستثناء قتل الغيلة ، فيجب إنفاذ القـصاص بالجاني ، وبهذا قال الإمام أحمد ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وذهب بعض العلماء إلى عدم الوجوب ، والحق الوجوب وإن عفا أولياء المقتول ، لأن قتل الغيلة يسبب فساداً في الأرض ، فوجب حينئذٍ إقامة حق الله لينكل من توسوس له نفسه بهذا الفعل العظيم .

وقـد اختلـف الـعلماء رحمهم الله أيهم أفضل : العفو عن القاتل أم طلب القصاص ؟ . ظاهر القرآن يؤيد القول الأول لقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .


وذهب بعض العلماء إلى التفصيل في هذه المسألة ، فإن كان القاتل من أهل الخير وأهل الصلاح ولكنه غضب أو سولت له نفسه بهذه القضية ولم يعرف عنه الشــر فالعفو في هذه القضية أفضل ، لأنه لا يخشى تكرر هذا من مثل هذا الرجل ، وأما إن كان القاتل معروفاً بالفساد والإفساد ، فالأولى طلب القصاص وعدم العفو عنه ، لأن العفو عن مثل هذا يؤدي إلى إزهاق نفوس أخرى ، وأما قضية المبالغة في طلب الدية فهذه القضية جائزة من حيث الأدلة ، كأن يطلب المرء مثلاً مليوني ريال للعفو ولكن هذه دناءة واعتياض بالمال الفاني عن النفس المؤمنة البريئة ، ولا يُشترط بالعفو أن يعفو جميع أولياء المقتول ، بل لو عفا واحد عتق القتيل حتى الزوجة لها حق العفو وقد قتل رجل في عهد عمر رجـل آخر فعفت زوجة المقتول وكانت اختاً للقاتل فقال عمر : الله أكبر عتق القتيل . رواه عبد الرزاق في المصنف ورواته ثقات .


قوله : [ فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله ] :
الإذخر هو نبت طيب الرائحة يجعلونه في القبور ليمنع تسرب الأتربة ، ويضعونه أيضاً في بيوتهم فيكون وقاية ، ويحصل به أيضاً منافع أخرى من روائح طيبة .

والحديث احتج به طائفة من علماء الأصول على صحة الاستثناء ولو بعد مدة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : « فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين » فقال العباس : إلا الإذخر .


وفي هـذه المسألة وقع خلاف بين أهل العلم ، فمنهم من جوز الاستثناء ولو بعد سنة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ولا أظن الإسناد يصح إليه ، ومنهم من قال: يصح الاستثناء في المجلس فقط ، ومنهم من قال لا يصح الاستثناء إلا إن كان مرتبطاً بالكلام . والصحيح في هذه القضية أن الاستثناء يصح ما لم يطل الفصل عرفاً .


قوله : « إلا الإذخر » :
فيه دليل على صحــة ما ذكرنـا ، لأنــه قد اتصل بالكلام ولم يطل عرفاً ، وفيه أيضــاً
عرض المفضول رأيه على الفاضل بما تحصل منفعته لجميع المسلمين . والله أعلم.




يتبع