701- وعن عمر أنه قبل الحجر وقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان الثوري عن سليمان الأعمش عن إبراهيـم عن عابس بن ربيعة عن عمر بن الخطاب به .
وقال الإمام مسلم رحـمه الله : حدثنا هارون بن سعيد الأيلي قال : حدثنا ابن وهب عن عمرو عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن ابن عمر .
ورواه البخاري رحمه الله من طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر .
ورواه مسلم من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر به .
قوله : [ قـبَّـل الحجر ] :
فيه استحباب تقبيل الحجر ، وأما البكاء عليه والسجود فقد تقدم أن الأخبار في هذا لا تصح ، وأنها كلها معلولة .
والحجر الأسود نزل من الجنة ، ولما نزل كان أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا أهل الإشراك كما جاء هذا عند الترمذي من حديث ابن عباس ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .
قوله : [ إني أعلم أنك حجـرٌ لا تضر ولا تنفع ] :
المعنى أراد أمير المؤمنين بهذا أن يوضح للداخلين في الإسلام وللجهال أن الأحجار لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً ، ونحن لا نُقبل الحجر الأسود لأنه حجر ، وإنما نقبله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قـبَّـلهُ تعبداً لله جل وعلا ، وإلا فتقبيل الأحجار غير مشروع وتعظيمها من الوثنية ، ولذلك قال أمير المؤمنين : ( ولولا ) ولولا حرف امتناع لوجود غيره [ ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ] فلذلك طارت بهذه الكلمة الركبان وسارت مسير الشمس وانتفع بها أممم كبيرة وجموع غفيرة .
وفيه دقة نظر الصحابة رضي الله عنهم بمعرفة التوحيد ومعرفة غاياته ومقاصده.
702- وعن أبي الطفيل قال : رأيت رسول الله يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ، ويقبل المحجن . هذا الخبر رواه الإمام مسلم في صحيحه .
قال مسلم رحـمه الله : حدثنا محمد بن المثنى قال : أخبرنا سليمان بن داود عن معروف بن خرَّبوذ عن أبي الطفيل .
ورواه أحـمد وأبو داود وابـن ماجه وابن خزيمة كلهم من طريق معروف بن خربوذ ، وأبو الطفيل اسمه : عامر بن واثلة من صغار أصحاب رسول الله ، قيل إنه ولد عام أحد ، وأما وفاته فقد قيل إنه آخر الصحابة وفاتاً ، فقد توفي سنة عشر بعد المئة ، وقيل غير ذلك .
وقد جاء في الباب خبر ابن عمر عند الإمام مسلم من طريق أبي خالد الأحمر عن عبيد الله بن عبد الله عن نافع قال : رأيت عبد الله بن عمر يستلم الحجر بيده وقبل الحجر بيده وقال : لو لم أكن رأيت رسول الله يفعله ما فعلته .
والخبر يدل على مشروعية تقبيل ما مس الحجر من محجن أو يدٍ أو غيرها ، وهذا إذا لم يتيسر تقبيل الحجر ، وإلا فالمشروع أولاً تقبيل الحجر فإذا لم يتيسر شرع استلامه إما باليد أو بالعصا ونحو ذلك وشرع حينئذٍ تقبيل ما استلمته به ، فإن لم يتيسر أشير إليه إشارة ولا تقبل ما أشرت به ، ولا يُشرع تقبيل ما لم يمسه وإنما شرع تقبيل ما مسه تعظيماً للحجر الأسود لأنه نزل من الجنة ، وإلا فتقبيل الأحجار والعصي وما شابه ذلك فإنه غير مشروع وإنما المشروع تقبيل الحجر تعظيماً لله ، وتعظيماً لهدي رسول الله .
وقـد جاء عن الإمـام الترمذي رحـمه الله : مـن طـريق عبد الله خثيم عن سعيد بن جبير عـن ابن عباس أن النبي صلى الله عـليه وسـلم قال في الحجر الأسود : « ليبعثنه الله يوم القيامة له لسان ينطق به وعينان يبصربهما ، يشهد على من استلمه بحق » أي : يشهد على من استلمه بحق دون أذية للآخرين ، ويكون أحد الشهداء الذين يستشهدون على أعمال العبد .
فيتلخـص عندنا ثلاث مراتب للحـجـر الأسود :
المرتبة الأولى : مشروعية تقبيله ولم يرد تحديد عدد للتقبيل ، فـالأولى مرة واحدة ، إذا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أكثر من مرة لنقل إلينا ، والمشروعية تصدق بمرة واحدة ، كما إن الواجب يصدق فعله بمرة واحدة ما لم يـدل دليل على قـصد التكرار ، وأما السجود عليه أو البكاء فلم يثبت في هذا خبر كما تقدم تقريره .
المرتبة الثانية : استلامه باليد أو بالعصا ونحو ذلك ، وذلك إذا شق تقبيله فإنه لا يشرع للمسلم أن يزاحم الناس من أجل تقبيل الحجر ، لأنه ربما ارتكب محرماً بزحامه وأذيته للآخرين ليفعل سنة ، وهذا عين الجهل حيث يفعل المرء سنة ويرتكب محرماً ، فالفقيه كل الفقيه الذي يدع السنة لئلا يقع في المحرم .
أما الـمـرأة فهي أشد من الرجال في هذه القضية فيجب عليها البعد عن مواطن مزاحمة الرجال ، خصوصاً عند استلام الحجر الأسود ، فنقول : إذا تعسر تقبيل الحجر الأسود استلمه بيده أو بعصا وقبّل ما استلمه به .
المرتبة الثالثة : الإشارة إليه بدون استلام ، وحينئذ لا يشرع له ولا يجوز له تقبيل ما أشار به إذا لم يستلمه ويقتصر مع الإشارة على التكبير مرة واحدة كما سبق ذكره ، والمشروع في التكبير عند المحاذاة وكل بحسبه ، فمن كان في نظره أنه حاذاه كبر . والناس يتفاوتون بالرؤية ، وهذا من الحكم التي يستحق عليها ربنا الحمد فإن في تفاوتهم بالرؤية والنظرة للاستقبال مما يعطي متسعاً لدفع الزحام ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والاستلام والتقبيل والإشارة والتكبير كلها مستحبات فمن شق عليه شيء منها تركها ومضى .
703- وعن يـعلى بن أمـيـة قال : طاف رسول الله مضطبعاً ببـرد أخضـر .
هذا الخبر رواه الإمام أحـمد وأبو داود وابن ماجه من طريق سفيان عن ابن جريج عن ابن يعلى عن أبيه به . ورواه الترمذي في جـامعه من طريق قبيصه عن سفيان عن ابن خريـج عن عبدالحمـيد عن ابن يعلى به .
وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وليس عند الترمذي ذكر (الأخضر).
والخبر يدل على على مشروعية الاضطباع وللخبر شاهد رواه أبو داود في سننه من طريق حماد بن سلمة عن عبد الله بن خُثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوا بها على عواتقهم اليسرى .
وهذا الخبر إسناده جيد ، وفي عبد الله بن خثيم اختلاف ، فقد وثقه جماعة وضعفه آخرون ، وقد صحح له الترمذي رحـمه الله .
وهذا الخبر يدل على مشروعية الاضطباع في طواف القدوم ، فيجعل طرف إزاره الأيمن تحت إبطه الأيمن ويـقذف به علىعاتفه الأيسر ، وهذا الاضطباع سنة وليس بواجب ، وينتهي الاضطباع بانتهاء الطواف ، فما يفعله بعض الناس من الاضطباع عند الركعتين وفي المسعى هذا خلاف السنة ، وكذلك يقع من بعض الجهال اضطباع عند الإحرام ، وهذا غلط وخلاف السنة ، فالسنة بالاضطباع أن يكون عند الطواف وينتهي بانتهائه .
وفي حديث الباب دليـل على جواز الإحرام بالأخضر ، ويصح الإحرام بأي لــون ، من أخضر وأحمر أو أسود ، ولكن الأفضل الإحـرام بإزار ورداء أبيضين ، وقـد تـقـدم عندنـا حـديث ابن خثـيم عـن سعـيد بن جـبير عـن ابن عبـاس أن النبي صلى الله علـيه وسلم قـال : « خير لباسكم البياض وكفنوا فيها موتاكم » ، فخير لباس المرء البياض ، فيشمل هذا الحديث الإزار والرداء والثوب والعمامة وغير ذلك من الملبوسات ، اما الـمـرأة فتلبس ما شاءت من الثياب ، فليس للمرأة ثياب خاصة تحرم بها إلا أن الـمـرأة تـجـتـنب ثياب الزينة التي تفتن الناضرين كما قال تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } . فالواجب على الـمـرأة أن تخفي زينتها الظاهرة كما تخفي زينتها الباطنة .
وقد أجمع العلماء رحـمهم الله إلى أن الاضطباع خاص بالرجال ، واتفقوا على أن الرجل وكذا الـمـرأة يحرمان بـمـا شاءا من الثياب .
704- وعــن أنس رضي الله عنـه قال : " كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ، ويكبر منا لمكبر فلا ينكر عليه " . متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن محمد بن أبي بكر أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة : ماذا كنتم تفعلون مع رسول الله في هذا اليوم ؟ فقال أنس : كان يُهل ... الحديث .
وقال مسلم رحـمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن محمد بن أبي بكر به .
والخبر يدل على مشروعية التلبية والتكبير في يوم عرفات ، وقد ذكر بعض الفقهاء بأن التلبية تنقطع في هذا اليوم وهـذا الحـديث ردٌ عليه .
وفي الحديث دليل على أن التلبية لا تلزمك هذا اليوم فيقوم مقامها التكبير ، فإن المقصود في هذا اليوم تعظيم الله جل وعلا ، وهذا يحصل بالتكبير أو التلبية أو غير ذلك مما يعظم به الله جل جلاله .
قوله : [ فلا ينكر عليه ] :
في هذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم لا يقرون منكراً ، لأن أنساً رضي الله عنه احتج على جواز مشروعية التكبير والتلبية في هذا اليوم بأن الرجل كان يلبي ، وكان يهل ولا ينكر عليه إذ لو كان هذا الفعل غلطاً ومخالفاً للسنة لبادر الصحابة رضوان الله عليهم إلى الإنكار عليه .
فإن قال قائل : لعل الصحابة لم ينكروا رجاء إنكار النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع فعلهم ، فنقول في هذا نظر من وجوه :
الـوجه الأول : لو سلمنا تسليماً جدلياً بأن الرسول الله لم يسمعـهم فربنا يقول : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(64) } .
الوجه الثاني : لو سلمنا أيضاً في الـمقدمة الأولى فلا بد أن الصحابة رضي الله عنهم ، حصل عندهم أحد الأمرين : إما أنهم تيقنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع فسكتوا ، وإما أنهم تيقنوا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه فأجمعوا على جواز هذا الفعل إجماعاً سكوتـياً ، وإلا على الأقل لذهب بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله منا المكبر ، ومنا المهل ، هل هذا جائز ؟ فلما لم يقع هذا الفعل علم اجماع الصحابة رضي الله عنهم بالسنة الإقـرارية مـن رسول الله على جواز ذلك .
الوجه الثالث : أنه لا يوجد دليل أصلاً في النهي عن فعل أحد الأمرين في هذا اليوم بل كله جائز ، سواء لبى الإنسان أو سبح أو كبر أو هلل أو عظم أو مجد كل هذا جائز .
وفي الحديث دليل على اشتغال الصحابة رضي الله عنهم بالذكر في هذا اليوم فيشرع للمسلم في يوم عرفات أن يشغل نفسه بالذكر ، ولا يضيع لحظة من عمره بقيل وقال ، أو التفرج على الذاهبين كل هذا غلط ، السنة في هذا اليوم الاشتغال بذكر الله جل وعلا ودعائه .
705- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في الثقل أو قال : في الضعفة من جمع بليل " . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به .
قال الإمام مسلم رحـمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا سفيان بن عينية ، قـال : أخبرنا عمـرو عن عـطاء عـن ابن عباس به .
وفي الباب حديث ابن عمر في الصحيحين من طريق يونس عن الزهري عن سالم ، قال : كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله بليل فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة فيذكرون الله ما بدا لـهم ثم يدفعون قبل الإمام ، وقبل أن يدفع الناس فمنهم من يقدم منى قبل الفجر ومنهم من يقدم بعد الفجر ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، قال عبد الله : أرخص في أولئك رسول الله .
وفي الباب حديث أسماء في الصحيحين : " أنها رمت قبل الفجر ، وقالت : أذن رسول الله للظعن " .
وهذه الأخبار تدل على جواز دفع الضعفة من المزدلفة بليل ، وقد حدده بعض الفـقـهاء بمنتصف الليل ، والحـق تـحديـده بغـيـبوبة القمر ، فإن أسماء كانت تقول: " لمولاها هل غاب القمر ، فإذا قال : لا ، قامـت : تصلي فإذا صلت ساعة ، قالت : هل غاب القمر فلما قال : نعم ، دفعت " .
فالذي يظهر أن عند أسماء علماً بأن الدفع لا يجوز إلا بعد غيبوبة القمر ، سواء كان الوقت صيفاً أم شتاءً ، ويدفع مع الضعفة من كان تابعاً لـهم ، وذلك للقاعدة : " يدخل الشيء ضمناً ، وتبعاً ما لم يدخل استقلالاً " .
فربما يكون التابع قوياً فلا مانع حينئذٍ أن يدفع مع الضعفة إذا كان تابعاً لـهم . وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمزدلفة إذا لو لم يكن واجباً ، ما كان للرخصة معنى في حق الضعفاء ، وبوجوب المبيت بمزدلفة قال الإمام أحـمد وإسحاق والشافعي وجماعة من الأئمة بل ذهب الإمام الشعبي إلى ركنية المبيت بمزدلفة ، وهذا اختيار الإمام ابن خزيمة ومال إليه ابن المنذر رحـمه الله .
وذهب بعض العلماء إلى سنية المبيت بمزدلفة ، وفي هذا نظر وأحاديث الباب تدفع هذا القول إذا لو كان المبيت بمزدلفة سنة لما كان لترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء قبل الدفع معنى ، فلما رخص النبي صـلى الله عـليه وسلم للضعفاء علم عدم الترخيص للأقوياء .
وفي حديث ابن عمر وأسماء دليل على جواز الرمي لـمن قدم منى قبل أن يطلع الفجر ، وبهذا قال الإمام الشافعي وطائفة من أهل الفقه والنظر ، وذهب الإمام أبو حنيفة رحـمه الله إلى أنـه لا يـرمي حتى تطلع الشمس مستدلاً بحـديث ابن عباس : " لا ترموا حتى تطلع الشمس " . وسيأتي إن شاء الله بيان ضعفه ، وبقوله قال الجمهور : إلا إنهم جوزوا الرمي بعد طلوع الفجر ، ولو لم تطلع الشمس وأما قبل طلوع الفجر فيرون أن الرمي غير مجزي ، بل تجب الإعادة وحديث ابن عمر يدفع قولهم وإذا ضم إليه حديث أسماء وأنها رمت قبل الفجر عُلم حقيقة جواز الرمي قبل طلوع الفجر .
يتبع