ثم إن الفقهاء اختلفوا : هل وادي محـسر من منى أم لا ؟
فذهب جماهير العلماء إلى أن وادي محسر برزخ بين منى ومزدلفة ، وليس من منى فعند الجمهور لا يشرع الجلوس فيه وذلك لوجهين : -
الوجه الأول : أنه موطن عذاب .
الوجه الثاني : أنه ليس من منى .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن وادي محسر من منى جاء هذا مصرحاً به في صحيح الإمام مسلم في حديث الفضل ، وأما كونه محل عذاب فهذا كما سبق لا بد له من دليل صحيح .
قوله : [ حتى أتى الجمرة ] :
أي أتى النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة ، وهي أبعد الجمار عن منى وأقربها إلى مكة ، وجمرة العقبة هي آخر منى ، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يبعث من ينادي بأن العقبة ليست من منى فكان كل من وراء العقبة يؤمر بالدخول ، والنبي في هذا الحال لم يزل يلبي حتى أتى جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات ، وهذه الحصى مثل حصى الخذف ، ليست كبيرة فتوذي الآخرين ، وأيضاً الرمي بالحجار الكبار من الغلو ، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو ، وليست أيضاً صغيرة حيث لا يراها الرامي هل وقعت أم لا ؟ . وكـان رسول الله يكبر مع كل حصاة وهذا التكبير مستحب غير واجب .
ويلاحظ على بعض الناس أنه يقول : باسم الله ، الله أكبر ، وهذا غلط فالمستحب الاقتصار على التكبير دون التسمية . وهنا بعض المسائل في الرمي : -
المسألة الأولى : ما حكم الرمي بحصى قد رمي فيه ؟ .
الجواب : لا مانع من هذا ، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ، نص عليه كما في ( الأم ) ، وما يرد في بعض الكتب الفقهية خصوصاً كتب الحنابلة بمنع هذا فهذا يحتاج إلى دليل ، علماً بأن فقهاء الحنابلة يقولون معللين بالمنع كالنهي عن الوضوء بالماء الفاضل ـ يعني الذي يفضل ـ فيقال على هذا : إذا بطل الأصل بطل الفرع ، فليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يمنعون الوضوء بما يفضل من المرء ، فهذا الماء طاهر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الماء طهور لا ينجسه شيء » . صححه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
وأيضاً لو كان الرمي بالحصى الذي رمي فيه ممنوعاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحاجة داعية إلى هذا ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
المسألة الثانية : يجب الرمي بسبع حصيات فإن نقصن يجب عليه الرجوع لإتمام ما نقص ، وهذا قول الجمهور أيضاً .
وأما الأثر الوارد عند النسائي من حديث مجاهد عن سعد قال : منا من رمى بست ، ومنا من رمى بسبع ، ولم يعب بعضنا على بعض . هذا الأثر منقطع ، فإن مجاهداً لم يسمع من سعد ، وقد أنكره الإمام ابن التركماني في الجوهر النقي ، وبين وجوب الرمي بسبع حصيات ، لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الاقتداء به .
المسألة الثالثة : يستحب حين الرمي أن يجعل منى عن يمينه ومكة عن يساره، جاء هذا مصرحاً به في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
المسألة الرابعة : له رمي جمرة العقبة من أي جهة شاء إذا تأكد وقوع الحصى في موضع الرمي، ولذلك يقال : لو تكاثر الحصى لا مانع من الرمي عليه ، إذ لا يشترط وضعها في نفس الحوض، لأن هذا الحوض لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا في عهد الأئمة الأربعة ، وإنما أحدث أخيراً ، فالمطلوب هو وضع الحصى عند العمود الممتد وهذا ليس خاصاً برمي جمرة العقبة بل بالجمرة الدنيا والوسطى والعقبة أيضاً .
المسألة الخامسة : لا يجزء وضع الحصى وضعاً في المرمى لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى ، فيجب عليك أن ترمي بما يسمى باللغة أو العرف رمياً ، وأما مجرد وضع الحصى فهذا غلط .
المسألة السادسة : ما الحكم لو رمى السبع بقذفة واحدة ؟ .
الحكم أنها تحتسب له واحدة ، فعليه أن يرمي ستاً أخرى ، يرمي كل حصاة على حدة ، وهناك أيضاً بعض المسائل المتعلقة في الرمي سوف نذكرها إن شاء الله فيما بعد .
قوله : [ ثم انصرف إلى المنحر فنحر ] :
المستحب في يوم النحر أن يبدأ الحاج أولاً بالرمي ثم يثني بالنحر ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قـال الله تعالى{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ثم يُلث بالحلق وهذا لم يذكره جابر بن عبدالله ولكنه ذكره غيره وتواثر عن النبي صلىا لله عليه وسلم أنه حلق بعدما نحر ثم ربع النبي صلى الله عليه وسلم بالطواف بالبيت ، فلو قدم شيئاً من هذه الأمور على بعض جاز ، سواء كان لعذر أم لغير عذر كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر في هذا اليوم إلا قال افعل ولا حرج .
هذا يدلنــا على أن أعمــال الحــج مبنية على التسامح والتساهل ، قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وكلمة (حَرَجٍ ) نكــرة وقعت بعد ( مِنْ ) في سياق النفي ، والنكرة إذا وقعت بعد ( مِنْ ) في سياق النفي تفيد العموم ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا حرج » ربما يقال إن هذا للمعذور ، ومن فعل هذا جهلاً ، ولكن قوله « افعل » تنفي التوهم وتدل على أن التقديم والتأخير يجوز مطلقاً لأنه يشق على الناس الترتيب .
قوله : [ فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ] :
هكذا قال جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في مكة بينما قال ابن اعمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في منى ، وقد جمع بينهما بعض أهل العلم فقال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاتين ، أدركته الصلاة بمكة فصلى بهم ، ورجع إلى منى وهم ينتظرونه فصلى بهم ، وذهبت طائفة إلى ترجيح حديث جابر على غيره ، لأن جابراً رضي الله عنه قد عُني بحجة النبي صلى الله عليه وسلم فكان قوله أرجح من قول غيره ، وذهبت طائفة ثالثة إلى ترجيح حديث ابن عمر على حديث جابر لأن أكثر الأخبار على حديث ابن عمر .
ولذلك نقول : إن أمكن الجمع بينهما بأن يقال : بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين وحـدث كل صحابي بما رأى فهذا أمر مطلوب ، فقد قال في (المراقي) :
والجمع مطلوب متى ما أمكنا *** وإلا فللأخير نسخٌ بيناًوإلا فكون النبي صـلى الله عليه وسلم صلى في منى أرجح لأن الأحاديث في هذا أكثر ، وقد قال في ( المراقي ) :
وكثرة الدليل والرواية *** مرجحٌ لدى ذوي الدراية
693- وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار .
هذا الخبر رواه الإمام الشافعي والبيهقي والدارقطني والبغوي في شرح السنة كلهم من طريق صالح بن محمد عن عمارة بن خزيمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وصالح بن محمد قال عنه الإمام أحمد : ما أرى به بأساً ، ولكن قال عنه الإمام البخاري رحمه الله : منكر الحديث ، وقال عنه النسائي ضعيف ، وضعفه أيضاً الدارقطني وغيره . وقال أيضاً الإمام أبو محمد بن حزم في عمارة بن خزيمة بأنه مجهول ولا يدرى من هو ، وفي هذا نظر . فقد وثقـه الإمام النسائي ولم يطعن فيه أحد ، وروى عنه جمع من الثقات ، ووثقه العجلي ، وذكره ابن حبان في ثقاته، وقال عنه ابن سعد : كان ثقة قليل الحديث ، فمثله أقل ما يقال عنه بأنه صدوق .
والخـلاصة : أن الخبر إسناده ضعيف لحال صالح بن محمد ، فإذا ثبت ضعفه فلا يشرع العمل به ، لأن الله جل وعلا إنما تعبدنا بالأحاديث الصحاح دون الضعاف ، ولكن لا ريب أن الله جل وعلا شرع لنا الاستغفار عقب الأعمال الصالحة ، كما في قول الله جـل وعلا : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) } . وقد كان رسول الله يستغفر ثلاثاً عقب كل صلاة مفـروضـة . رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها .
694- وعـن جـابـر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف » . رواه مسلم .
قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال : حدثنا أبي عن جعفر بن محمد قال : حدثني أبي عن جابر بن عبد الله به .
ورواه أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد به ، ورواه ابن ماجه في سننه من طريق وكيع قال : حدثنا أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « منى كلهـا منحـر، وكـل فجـاج مكة طريق ومنحر » .
قوله : « نحرت ها هنا ومنى كلها منحر » :
أي فلا أفضلية لموضع دون موضع ، وقد ذهب جماهير العلماء إلىأن النحر يصح في جميع الحرم ، لقوله في رواية ابن ماجه : « وكل فجاج مكة طريق ومنحر » ولقول الله جل وعلا : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ، وقال تعالى : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أي في الحرم ، فليس النحر خاصاً بمنى ، بل قال الحبر عبد الله بن عباس : كان النحر بمكة فنزهت عن الدماء فصار في منى . وهذا إسناده صحيح إلى ابن عباس .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم النحر خارج الحرم ، فذهب الجمهور ومنهم الأئمـة الأربعة إلى أنه لا يجزئ ، وذهب الإمام الطبري إلى الإجزاء، وقول الجمهور أحوط ، فلا ينحر المسلم إلا بالحرم ، سواء كان في منى أو مزدلفة أو في مكة ، كل هذا لا مانع منه .
قوله : « ومنى كلها منحر » :
حدود منى من الجهة الغربية العقبة ، ومن الجهة الشرقية وادي محسر عند الجمهور ، وعند طائفة أخرى المزدلفة ، ومن الجهة الشمالية والجنوبية الجبلان المرتفعان .
قوله : « ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف » :
وهذا من سماحة الشريعة ويسرها ، حيث لم يشق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته فيلزمهم بموقف معين ، بل وسع الأمر لهم وأذن لهم بالوقوف بعرفات في كل موضع منها ، والأفضل للمسلم في هذا اليوم أن يقف عند الصخرات لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يستقبل القبلة فلا يزال في الدعاء حتى تغرب الشمس فإن هذا اليوم يوم مشهود يباهي الله جل وعلا بعباده الملائكة ، ويكون الشيطان في هذا اليوم حقيراً ذليلاً لما يرى من سعة فضل الله على عباده وإحسانه عليهم ومغفرته لذنوبهم وتكفيره لسيئاتهم ، والوقوف بعرفة من حيث العموم ركن من أركان الحج على خلاف بين الفقهاء في مقدار الوقوف وفي بدايته ، فذهب جمهور العلماء إلى أن الوقوف بعرفة يبتدئ من زوال شمس اليوم التاسع ولا ينتهي إلا بطلوع الفجر من يوم النحر ، وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يبتدئ من طلوع الفجر ، ومن وقف قبل الزوال فقد صح وقوفه ، وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى ركنية الجمع بين الليل والنهار ، وقد تقدم الإشارة إلى هذه القضية في الكلام على حديث جابر وقد سبق .
قوله : « وقفت ها هنا وجمع كلها موقف » :
المراد ( بجمعٌ ) هنا المزدلفة ، فإن الناس يجتمعون فيها ، ومدة الاجتماع من بعد غروب الشمس إلى غياب القمر للمعذور ولغيره إلى أن يسفر جداً قبل أن تطلع الشمس ، والحديث صريح في عدم وجوب الوقوف عند المشعر الحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « وجمع كلها موقف » فحيثما وقفت صح وقوفك .
والمراد بالوقوف هنا المكث والإقامة .
واختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم المبيت بالمزدلفة ، أما المعذور فقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدفع بعد غياب القمر ، ويحدده بعض الفقهاء رحمهم الله بمنتصف الليل ، وأما غير المعذور فالراجح فيه أنه يجب عليه المبيت بالمزدلفة ، وبهذا قال الإمام أحمد رحمه الله ، أما الإمام أبو حنيفة فقال : إن المبيت بمزدلفة سنة وليس بواجب .
وذهب فريق ثالث من العلماء إلى أن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا بــه ، وقد استدل أصحاب هذا القول بحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه قال : قال رسول الله :«من شهد صلاتنا هذه ـ يعني بالمزدلفة ـ فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ، فقد تم حجه وقضى تفثه». رواه أهل السنة وسيأتي وإسناده صحيح ، وهذا هو اختيار الإمام ابن خزيمة رحمه الله وفيه نظر . والحق أن الوقوف بمزدلفة واجب وليس بسنة ولا بركن ، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة على حديث عروة بن مضرس .
695- وعن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها ، وخرج من أسفلها . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا الحميدي ومحمد بن المثنى قال : حدثنا ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة .
وقال الإمام مسلم : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام به.
وجاء في الصحيحين مـن طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله دخل مكة من كداء من الـثنية العليا ، وكان يخرج من الـثنية السفلى .
وقد قال بعض أهل العلم باستحباب هذا ، فيتقصد الدخول من الثنية العليا والخروج من الثنية السفلى .
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا لا يستحب لأن هذا الفعل لم يقع تقصداً ، إنما هذا الفعل وقع من غير قصد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا لأنه أسهل له ، ولذلك ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان يدخل من كلتيهما . ولعل هذا القول أقرب إلى الصواب ، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يتأسى بالنبي فدخل من الثنية العليا أجر على هذا ، فهناك فرق عند المحققين بين التأسي الخاص الذي هو السنة ، وبين التأسي العام .
يتبع