الحبُّ حمارُ السَّرْد!
كتب بواسطة: حياة الياقوت

1 / 2
يفاجئني هذا الانطباع العام الفاشِي لدى الكثير من القراء، وبعض الكُتّاب أنّ العمل السَّرْدِيّ (الرواية والقصة القصيرة تحديدا) يجب أن يحوي قصة حبّ، سواء أكانت القصة الرئيسة للعمل، أو قصةً ناقلةً للقضية التي يودُّ الكاتب أن يتناولها.

وأنا هنا لست أُعادي الكتابة عن الحب، لكنّي أستغرب أن يكون الموضوع الأوحد، أو موضوعا يدس أنفه في كل قصة، وكأن عناصر القصة صارت: الشخصيات، والأحداث، والزمان والمكان، و ... وقصة حبيبين!

والسؤال هنا: من أين أتى هذا الانطباع الذي صار واقعًا بشكلٍ أو بآخر؟

زمن ما قبل السرد
حينما نرجع إلى الشعر الجاهلي، نجد أنّ القصيدة أيّا كان غرضها (مدح، هجاء، رثاء ... إلخ) تُفتتح في الغالب الأعمّ بأمرين؛ الغزل، أو البكاء على الأطلال، أو كليهما أحيانا. هذا كان العُرف الجمالِي والفنيّ آنذاك. وهذا مُبرَّر في ذلك العصر؛ حيث الترحال للبحث عن أفضل مرعى، وما يتبع ذلك من فراق حتمي يثير حالة من الشجن الدائم لدى العربيّ الذي يشعر بأنّ الفراق قدَرُه. لذا، فإنّ البكاء على الأطلال شعور وُجودي لدى أيّ عربي آنذاك، شعور يستسيغه كلّ فرد من الجمهور الذي سيسمع القصيدة، لأنّه ذو معنى واقعيّ وشخصيّ بالنسبة له. وكذلك الغزل، فهو كثيرا ما يرتبط بفراق الحبيبة الراحلة "ودّعْ هريرة إنّ الركب مرتحل ..."، "لخولة أطلال ببرقة ثهمد"، "يا دار عبلة بالجواء تكلمي ...". وحتى وإن لم يرتبط بالفراق تحديدا، فالحب في الوجدان العربي مرتبط باللوعة والسهر والعذاب، وكل هذه المعاني تناسب طبيعة العربي الملتاع ببيئة قاسية. فالغزل في الشعر الجاهلي ليس طقسا احتفاليا، وقليلا ما يثير الحب مشاعر مبهجة تبثّ في روح الشاعر البهجة والحياة، إلا في بعض القصائد كقصيدة عنترة الذي يشجعه تذكّر عبلة على القتال:
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها **** لمعت كبارقِ ثغرِكِ المتبسّمِ

لهذا نجد أنّ قصيدة مثل "البُردة" التي قالها كعب بن زهير -رضي الله عنه- أمام الرسول –عليه الصلاة والسلام- قصيدة جاهلية بامتياز! فهي تبدأ بذكر الحبيبة سعاد (الوهميّة بطبيعة الحال) التي بانت وابتعدت:

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ *** مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ

وقد يستغرب غير المُطّلع على تاريخ الأدب العربيّ أن يقول رجل في أول يوم لإسلامه قصيدة يمتدح فيها الرسول عليه الصلاة والسلام طالبا منه العفو، والعدول عن إهدار دمه، ويبدأها بمديح حبيبته سعاد والتغزّل فيها. وليس هذا وحسب، فإذا أجرينا "تحليل محتوى" سريع، نجد أنّ القصيدة المكونة من 59 بيتا، خصص منها 16 بيتا لمديح الحبيبة الراحلة سعاد. ثم انتقل الشاعر –رضي الله عنه- لوصف الناقة التي رحلت بسعاد إلى أرض بعيدة. ولم يبدأ بذكر الرسول –عليه الصلاة والسلام- أو الإسلام إلا في البيت 39 من القصيدة. أي أن ثلثا القصيدة ذهبا لموضوع آخر غير الغرض الذي نظمت القصيدة من أجله!

ونجد كعبا -رضي الله عنه- يصف سعاد قائلا:

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً *** لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

وهذا وصف أقل ما يقال عنه إنّه غير لائق على الأقل في حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام. والسؤال هنا، لِمَ لَمْ ينهَ الرسول عليه الصلاة والسلام أو الصحابة كعبًا رضي الله عنه عن هذا البيت مثلا؟

لأنّ هذه قصيدة جاهلية، نظمها ناظمها وهو جديد على الإسلام وأحكامه. شاعر غلبت عليه التقاليد الفنية لبيئته. بعد زمن من إسلامه رضي الله عنه، نجد أنّ قصائد كعب بن زهير رضي الله عنه تغيّرت وانسلخت من جِلْدها الجاهلي وأعرافه الفنيّة.

إذا، القاعدة أنّ تغيّر بيئة الشاعر، يغير طريقة تعبيره عن المعنى. ولا يخفى على القارئ الكريم القصة الطريفة للشاعر الذي أراد أن يمتدح الخليفة بتعابير من بيئته الشخصية، فقال:
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُد *** وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أدرك الخليفة أنه أراد المدح، وإن جاءت التعابير قاست ومسيئة في ظاهرها. فأمر الخليفة أن تخصص للشاعر دار قرب دجلة. وبعد فترة سُئل عن آخر ما قال من شعر، فكان:

عُيونُ المَها بَينَ الرصافَةِ وَالجِسرِ *** جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدرِي

فلننظر كيف أن تغيّر بيئة الشاعر، غير تعابيره، وغير اهتماماته أيضا وأفكاره.

ولهذا نجد أنّ البوصيري (توفي آخر القرن الميلادي الثالث عشر) حينما كتب "البردة"، لم يبدأها لا بغزل أو بغيره، بل دخل في الموضوع مباشرة:

مولاي صلِّ وسلِّم دائمًا أبدا *** على حبيبكِ خيرِ الخَلْقِ كُلّهمِ

وحتى حينما نظم أحمد شوقي (توفي في الثلاثينات من القرن العشرين) نهج البردة، اختار عمدا وقصدا أن يبدأها بالغزل، ليس لأن هذا تقليد عصره، بل اتّباعا وتناصا مع بردة كعب بن زهير رضي الله عنه. فنجد شوقي يقول:

ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ *** أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

والحاصل أنّه بتغير العصور، تغيّرَ الشعر، وصار الشاعر حينما يتغزل، فإنه يتغزل لغرض الغزل وحسب. ولا يستخدمه مقدمةً، أو تمهيدًا، أو أداةً لغرض آخر. لقد تحرر الشاعر من السطوة الوجدانية القاسية في عصر الجاهلية، ما عاد الهم الوجودي للشاعر شجون التنقل والفراق، بل هموم أخرى. فانتفى غرض الابتداء بالغزل أو وصف الأطلال. وهذا لا يعني أن الغزل اختفى من الشعر العربي، بل ظل حاضرا، لكنه كان بشكل عام غزلا لغرض الغزل، لا وسيلة يتوصل بها لغرض آخر، أو تمهيد لازم يفتتح به كل موضوع.