بربشتر.. استنجاد ثمنه القتل
وبدأ سقوط المدن والحصون الأندلسية في يد الصليبيين، فكانت البداية في مدينة بربشتر في شمال الأندلس التي دخلها الصليبيون عنوة وتعرض أهلها لأهوال الذبح والأسر. كان حاكم المدينة قد قسمها بين أولاده الخمسة قبل موته، وبعده نشبت بينهم الخلافات وأخذ كل منهم يحاول الاستيلاء على ملك الآخر، تابعهم الصليبيون النومانديون واغتنموا إحدى الفرص للاستيلاء على المدينة، واستطاعوا دخولها عنوة واستباحتها وقتل من فيها حتى قُدِّر عدد القتلى والأسرى بين 40 ألف و100 ألف، وقُتل من أهلها 6 آلاف ذبحًا، وراح الجنود ينهبونها ويحتلون دورها، ورثاها الفقيه ابن العسال بقصيدة انبرى فيها يهاجم ملوك الطوائف ويصمهم بالجبن والتخاذل:

هتكوا بخيلهم قصور حريمها لم يبق لا جبل ولا بطحاء

جاسوا خلال ديارهم فلهم بها في كل يوم غارة شعراء

باتت قلوب المسلمين برعبهم فحماتنا في حربهم جبناء

كم موضع غنموه لم يرحم به طفل ولا شيخ ولا عذراء

بينما عزا ابن العسال ما ألمّ بالمدينة إلى ذنوب المسلمين فقال :

لولا ذنوب المسلمين وأنهم ركبوا الكبائر ما لهن خفاء

ما كان ينصر للنصارى فارس أبدًا عليهم فالذنوب الداء

فشرارهم لا يختفون بشرهم وصلاح منتحلي الصلاح رياء

وكان شاعر آخر مقرب من المعتضد بن عباد هو أبو الحفص الهوزني قد راح يستنهض الملك فكتب إليه يقول:

أعبّاد ضاق الذرع واتسع الخرق ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق

ودونك قولا طال وهو مقصّر فللعين معنىً لا يعبّره النطق

إليك انتهت آمالنا فارم ما دهى بعزمك يدمغ هامة الباطل الحق

ويقول أيضًا:

فلقّ كتابي من فراغك ساعة وإن طال فالموصوف للطول موضع

إذا لم أبثّ الداء ربّ دوائه أضعت وأهل للملام المضيّع

وأتبع الهوزني قصيدته بكتاب صوّر فيه للمعتضد الأهوال التي لقيها أهل المدينة، واختتمها يقول:«وإن هذا الأمر له ما بعده إلا أن يكتب الله على يديك دفعه وصدّه»، أصمّ المعتضد أذنيه عن الرسالة واعتبر أنها إنما أُرسلت لتوريطه وإظهار عجزه، واستدعى إليه أبا حفص الهوزني وقتله بيديه في إشبيلية.

وربما يفسر هذا ما لاحظه الباحثون من أن القصائد وإن لم تخل من التعرض لأسباب تلك النكبات المتوالية على المسلمين، فقد أشار أغلبها إلى أسباب بعيدة عن الحقيقة مثل عين الحاسد وذنوب الأمة، فيما السبب الحقيقة البادي للعيان هو ضعف الحكام وخيانتهم. على أن الأصوات التي راحت تستنهض ملوك الطوائف لنجدة بربشتر وجدت في النهاية من يسمعها ويستجيب، فقد جمع ابن هود فرسانه وحاصر المدينة واستطاع تحريرها بعد أن بقيت تسعة أشهر في أيدي المسيحيين.