"قصه من الماضي"
ذات ليلة من ليالي السنوات الماضية ؛ كانت جدتي تقص علي وعلى مجموعة من فتيان الحارة قصص جميلة ضمن سلسلة قصصها التي كانت تبدأ بعد صلاة العشاء ، حيث كنا نجد تسلية في الاستماع لرواياتها ، صيفيا وشتاء .
ففي أوقات الصيف كانت تستمع بالقص تحت أضواء القمر ، وحيث تكون السماء ساطعة بالنجوم التي تتلألأ عاكسة أضوائها على مياه البحر الفيروزي ، لتجعل من زرقة البحر أشد قتامة ، في مشاهد سريالية جميلة ، لم يكن ينقصها سوى هواتف هذا العصر لالتقاط تلك المشاهد الخلابة ، حيث التصق الانسان بالبحر .
كان بيتنا يقع على شاطيء البحر ، وكان الناس يهجعون لمنازلهم باكرا ، حيث لم تكن توجد أنشطة تلهيهم ، أو تؤخرهم عن العودة لمنازلهم ، ولذا ما أن يحل الظلام ، حتى تجد أهل الحارة جميعا قد عادوا مع الطيور التي تعود لاعشاشها ، ليدخل الجميع إلى بيوتهم أو يتجمعون أمامها لتناول القهوة والتسامر ، حتى ينتصف الليل ، ثم يهجعون للنوم كانت القصة الأولى التي روتها جدتي بعنوان
" حين تقترن فتاة بثعبان يدعى "ميمون "
مما روته الجدة عن هذه القصة ، أن ثمة أسرة مكونة من أب وزوج ، كانا يعيشان في بلدة ريفية جميلة ، حياة سعيدة ، فالأب كان مزارعا ، وكانت زوجته تعد الطعام وتقوم بأعمال البيت اليومية . وكان الأب يتمنى لو رزقه الله ولدا يساعده في أعمال المزرعة ، وكانت الزوجة تسمعه يدعو ربه بعيد كل صلاة .
لكن مشيئة الله ، والقدر شاءا ألا تتحقق أماني ذلك الأب بأن يرزق ولدا ، بل ولدت زوجته ابنتة جميلة ، لكن الأم مالبثت أن فارقت الحياة بعد أن بلغت البنت سن العشرين عاما ، دون أن يتسنى لها زفافها . ولأن الرجل مؤمن بقضاء الله وقدره ، فقد صبر ،
حتى جاءه جاره يوما ليقول له :
أن الحياة لابد أن تستمر ، وأنه لابد له من الزواج ، حتى تكون هناك امرأة تقوم بالعناية بالمنزل ، فالبنت لوحدها لن تتمكن من رعايته والقيام بواجبات البيت ، وقد يأتي يوما تتزوج فيه ، وتنتقل لمنزل زوجها ليلتها لم ينم الأب ، وظل يقلب الفكرة في رأسه .
وفي الصباح طلب من ابنته الجلوس معه ، حيث أخبرها برغبته في الزواج ، لكي تساعد الزوجة في ترتيب المنزل
فوافقته البنت ، لأنها شابة عاقلة ، وتفهم رغبات والدها.
وحين سمع الأب اجابة ابنته ، فرح وتشجع ، وذهب بعدها لجاره ليخبره بالموافقة على الزواج ، وطلب منه أن يدله على المرأة التي يرشحها للزواج منه ، فكانت المفاجأة أنها أخت الجار ، العانس والسليطة اللسان .
فكر الأب كثيرا ، ورجع لابنته ليخبرها أن جاره رشح له شقيقته ، وأنه يتوجس خيفة من الزواج بها ، بسبب تسلطها ، وأنه يظن بأن أخيها إنما يريد الخلاص منها فقط ، بعد أن سببت له مشاكل مع زوجته .
لكن إبنته شجعته ، قائلة له :
ربما يكون عدم زواجها هو سبب عصبيتها ، وأن الله قادر على كل شيء ، وحثته على الزواج منها ، خاصة وأنها تلمس وجود جوانب ايجابية فيها ، وقد تستطيع التعايش معها .
فتزوج الرجل من تلك المرأة ، والتي أكدت أن صاحبة الطبع ، لا يمكن أن تتغير ، حيث أظهرت حقيقتها بعد فترة ، من خلال رغبتها في التسلط على الجميع داخل المنزل ، وأن تكون هي الآمر والناهي فيه ، بل أنها كانت تسخر الفتاة لخدمتها ، وكانت توغر قلب أبيها عليها لأتفه الأسباب ، حتى بات يشعر حينا بكرهها .
ولكن بعد عدة أشهر بدأت تلك المرأة في الشعور بأعراض الحمل ، وهنا بدأت تتدلل على الزوج ، الذي مال ناحيتها كثيرا ، ظنا منه أنها ستلد الولد .
لكن مشيئة الله شاءت أن تعكس أمنياتها لتكون بنتا .
وبدأت تلك الزوجة تصب جام غضبها على البنت المسكينة ، فكانت تطلب منها أن تذهب لتجلب الحطب من منطقة بعيدة .
وفي يوم من الأيام ذهبت البنت لمنطقة جلب الحطب فشاهدت بطيخة كبيرة جدا ، ففرحت بها ، وأخبرت البنات اللائي كن يرافقنها بأمر تلك البطيخة العجيبة .
فقررت ألا تقوم بجمع الحطب ، بل حمل البطيخة للمنزل
وحين وصلت المنزل غضبت زوجة الأب ، وأرادت أن تضرب البنت ، لكن البطيخة انفلقت لنصفين ليخرج منها ثعبانا كبيرا كاد أن يلتهم الزوجة ، لكنه في لمحة استدار نحو تلك الأبنة ، ليقول لها أنه ليس بثعبان بل هو ملك أرسله الله لانقاذها من براثن عمتها ، وطلب منها أن تخبر والدها برغبتها بالزواج من ذلك الثعبان .
وحين استفاقت العمة من اغمائها ، كان الثعبان قد اختفى ، وهنا بدأت ترتعد ، وتعيد النظر فيما شاهدته ظانة أن الأمر مجرد حلم فقط ، فلم تلبث أن تعود لجبروتها ، لكن الثعبان كان بالجوار ، فنفث ريحا من فمه ، جعل زوجة الأب تتراجع وتتأكد من الحقيقة .
وحين عاد الأب من المزرعة ، سأل عن الغداء ، لكن الزوجة قصت عليه قصة ذلك الثعبان ، الذي جلبته ابنته معها بدلا عن الحطب ، وبالتالي فهي لم تعد الغداء
فغضب الأب على ابنته ، وحين سألها عن قصة ذلك الثعبان ؟
ردت عليه ابنته : أنها تريد الزواج به .
فقال الأب : أتريدين بعدما كبرتي الزواج بحيوان؟
فهزت الفتاة رأسها .
وحين نظر الأب لزوجته ، قالت له :
زوجه إياها عسى أن تذوق الأذى منه وتعود إلى رشدها
وهنا عاد الأب ليسأل ابنته عن زوجها ذاك الذي تزعم به ، وماذ سيقول للناس عنه ؟
لكن الثعبان أناب عنها ، حيث حضر فجأة ، لكن حضوره هذه المرة فاجأ الجميع ، فقد كان في هيئة انسان جميل الشكل ، وأكد على رغبته بالزواج من الابنة فاستغرب الأب ، كما استغربت زوجته من جمال ذلك الرجل ، الذي كانت الزوجة تشكك فيه ، وبدأت الزوجة تتمتم بأن البنت ساحرة دونما شك.
لم يضيع الرجل ( الثعبان ) الفرصة بل طلب انهاء اجراءات الزواج بسرعة .
وهنا تدخلت زوجة الأب وأين ستسكنها إن شاء الله ؟
فرد عليها أنه هيأ لها قصرا في أطراف المدينة .
وطلب منهم مرافقته لمشاهدة القصر ، وحين دخلوه استغربوا من جماله وفخامته ، فوافق الأب فورا .
لكي ترتاح ابنته من عذاب زوجته .
فيما بدأت زوجة الأب تتودد للفتاة لكي تصادقها على أمل أن يأتي يوما وتبحث لابنتها عن ثعبان ليكون عريسا لها أيضا .
وتم عقد القران بين ابنت الرجل وذلك الثعبان الذي بدأ في هيئة شاب وسيم ، وانتقلت الفتاة لتعيش في القصر وسط خدم يخدمونها ، ووسط حياة رغيدة ، وانتقل الأب وزوجته وابنتها معها أيضا ، حيث خصصت لهم أحد اجنحة القصر . ولكن زوج الفتاة الثعبان كان قد اختفى من المشهد نهائيا ، بعد أن أخبرها أن دوره من حياتها انتهى ، وأن كل شيء سيظل تحت أمرها ، وإن أرادته فما عليها ألا أن تصعد للسطح لتناديه بكلمة ( ميمون) حيث سيحضر لها ويلبي طلباتها .
وبعد أن كبرت ابنة زوجة الأب ، بدأت أمها تخطط لأن تتزوج ابنتها من ثعبان أيضا ، لتحظى بنفس العز ، وما أن أخبرت أخيها الجشع بالأمر ، حتى تشجع لفكرتها ، طلبا للغنى والجاه ، لكنه طلب منها أن تبقي الأمر سرا حتى عن الزوج وابنته خشية الحسد ،
أو حتى لا يفسد الزواج .
فما كان من الأم وأخيها ألا أن قررا يوما اصطحاب ابنتهما لمكان جمع الحطب ، وكان معهما بطيخة كبيرة وضعاها هناك ، فتسلل ثعبان كبير الحجم لداخل تلك البطيخة ، وما أن تأكدا من وجوده بها ، حتى عادوا فرحين ، وقرروا تزويج الفتاة بذلك الثعبان بشكل سري .
وفي اليوم التالي وجدوا ابنتهم قد فارقت الحياة فقد لدغها الثعبان ، بعد أدخلت البنت لغرفة كان يتواجد فيها . ليسود الحزن أرجاء الحارة ، وليخيم الوجوم على الأب لتكون وفاة تلك البنت ، بمثابة رسالة عضة وعبرة ، لكل أم متسلطة ، وبمثابة نهاية حتمية لكل شرير