تستوقفك كثيرًا عباراتٌ تَرِدُ من لسانٍ أو بَنانِ أحدهم، يُلقيها تارةً من باب النقد، وأحيانًا من باب المزاح الفجّ، وتارةً أخرى من غير وعي، غير أنّها تَرْسُخ في القلب والعقل، كجذرٍ غائرٍ في تربةِ الإحساس، تكاد تفصلنا عن حكمةِ العقل واتّزانِ الوجدان.

فهي تُربكُ الحسابات، وتُشتّت العواطف، وتَخلِط الأوراق، بل تَقذِفها في هواءِ الشكوك، وتذرها تتقاذفها رياحُ الظنون، فتفتحُ بذلك أبوابَ الريبة، فيَلِجُ منها سوءُ الظنّ الذي يشدُّ على ساعدِه همساتٌ ووشوشاتُ الشيطان، وهوى النفسِ حين يعلو في لحظةِ غفلةٍ عن بصيرةِ القلبِ ونورِ الفهم.

بالرغمِ من طولِ الصحبة، ومعرفةِ شخصِ ذلك القائلِ الذي لطالما جمعتْنا به ليالٍ طوال، وتحادثْنا تحتَ سقفِ الودِّ والصفاء، وكان من خِيرةِ الناسِ وأصدقِ الرفاق، إلا أنّ الكلمةَ تبقى لها القولُ الفصل، فهي تَعبُرُ الأسماعَ لتستقرَّ في أعماقِ الإدراك، تُوقظُ فينا ظنونًا، وتُثيرُ منا حيرةً، وتُبدّدُ صفوَ اللحظةِ كنسمةٍ انقلبت إعصارًا.

وما علينا إلاّ أن نتبيّنَ المعنى والقصد، قبل أن نُصدر الحكمَ أو نُفصِحَ بالرأي، كي لا نُسقِطَ الواجبَ الذي فرضه علينا الشرعُ والعقلُ والضميرُ، بالتثبّتِ قبل النُطق، والتأمّلِ قبل الحُكم، والتريّثِ قبل أن نسقطَ في مهاوي الظلمِ أو غياهبِ التسرّع.

فبعدها لا ينفعُ الندمُ إن أخطأنا التقدير، ولا يُغني الحسرةُ لو فقدنا الصوابَ في لحظةِ انفعال؛ فنعضُّ أصابعَ الندم حيث لا يجدي ندمٌ، وقد أعنّا الشيطانَ وأعوانَه، وفتحنا للوجعِ أبوابَه، وللظنِّ مسالكَه.

فمن ذلك... وجب التريّثُ قبل الحكم، والتأنّي قبل الردّ، والتماسُ الخيرِ في القولِ كما نلتمسُ النورَ في العتمة، فإن تبيّنَ المعنى بعد التروّي، بحثْنا عن الحلّ لا عن العِتاب، وعن الجبرِ لا عن الكسر، كي لا نفقدَ من نُحبّ، ولا نهدمَ جسرَ المودّةِ الذي بنيناهُ بأناةٍ وصدقٍ وإخلاصٍ في النوايا.