قد نُقادُ كرهًا نحو مقاصل الاختيار، وقد حُشِرنا في زاوية ضيقة، حيث لا خيار يُبايِنُ الأوحدَ ولا متنفس يصد غصة القهر، وكأن الدروب انكمشت حتى غدت كالشعرة بين كفِّ القدر.
لعله يكون سَأمًا وضجرًا من تصدير المصائب أو دحرجتها إلى الأمام؛ فهي تعابير الحكاية التي ينزف حبرها دمًا، يصرخ في كل قطرة منه أملٌ مشنوقٌ في طِمارِ الأنانية، ويتمتم بالألم المستتر في صدى الصمت البارد؛ وكأن الكلمات قناديل منطفئة، تنتظر لفتة دفء تعيد إليها نورها، أو بوحًا صادقًا يزيل عنها قشور العتمة.
نعيش وكأننا في غابة غالب قاطنيها من السِّباعِ الجائعة التي تنظر إلى كل حركة تُحرِّكها أوراق الأحراش على أن خلفها فريسةٌ تدعوك إلى تناولها على مائدة الهناء؛ حيث تصرخ الأشجار في خجلها، وتئن الأرض من وطأة الأقدام العابثة، وتنكمش الحياة في صمتها كأنها تهيئ نفسها لعاصفة لا تُبقي من الحنين إلا فتاته.
ما عاد لفصول السنوات فوارقُ مناخ بعدما تساوى فيها الضِّدّان؛ مكفهرةٌ هي الحروف، تولد ثَكلى تنوح في صفحات كاتبها، تسافر بين الألم والرجاء، وتكتب على جدران الزمن خيالاتٍ متقطعة كالشمس الغاربة، وتستجدي من اللحظة رمقًا يرد للروح ثباتها، أو قبسًا يطرد عن القلب ارتحاله في المجهول.
عاجز وهو يطارد فراشات الأمل، وهو يدوس على عظيم الألم، يُمنّي نفسه بأن الغد يكون الأجمل، وكأن الحياة ما عاد يكتنفها ويزيّنها غير الباهت من السواد؛ فيظل صدى الأنين يلاحقه، ويهمس في أذنه أن الضوء آتٍ ولو بعد طول ليل دام، وأن للقلوب المكسورة موعدًا مع الفرج وإن تأخر، وللدموع وقفة عز وإن انحدرت، وللروح باب عودة مهما ضلَّت طُرُقُها.