عندما سألتني حبيبتي عن أول يوم شعرت فيه بالرجولة ذهبت بالزمن بعيدا للوراء.. يوم كانت الطفولة غارقة في جسدي النحيل من أعلى شعرة متطرفة في رأسي إلى أخمص قدمي.. نعم أذكر يوم طلبت أمي أن أشتري الجبن من دكان سالم بمفردي رغم أن آذان المغرب يوشك أن ينطلق.. يومها شعرت بأني رجلٌ.. لقد قالتها أمي حينما عدت بعلبة الجبن مُظهراً ابتسامتي الرجولية الأولى: " بالفعل يا ولدي صرت الآن رجل البيت ".
منذ ذلك اليوم الطفولي وانا رجل البيت الأول أخدم أخوتي وأمي بكل ما أوتيت من رجولة رغم أنها كلفتني الكثير من الألم.. حينما تواجه من يعتقد أن رجولتي مبكرة كثيرا عما هي العادة.. فلم يكن غريبا لأمي أن أعود بعين متورمة أو دشداشة ممزقة.. هذا الامر أجبرني على ترك مدرستي مبكرا فالرجال يمكنهم العمل في أي وقت يشاؤون.. فكنت أبيع البخور الذي تأتي به أمي منذ كنت في الخامسة ولا يرافقني في هذا العمل سوى الشمس الحارقة ودشداشة مهترئة متسخة.. لكن الريالات التي اكسبها كل يوم تشعرني حقا بالرجولة.
لم أكن أفهم كلمات تتناقل بين رواد الشارع الذي أبيع فيه عندما يشكر طفل أباه لأنه أهداه لعبة ما.. أو أب يمتدح ولده لأنه بذل جهدا في دراسته.. كان عصيا علي أن أفهم مثل تلك الكلمات.. كنت مجردا من الطفولة تماما كأني شجرة نبتت فجأة فارعة الطول موفورة العطاء وسط باحة، ومع ذلك لا أثير دهشة هؤلاء المارة الذين يكتفون بالرمق إلي كمتسول.. أحاول أن أخبيء رجولتي أمامهم وأظهر طفولتي البريئة كنت امثل فقط دور الطفل الذي اختفى داخلي لأستعطف قلوب الناس.. ولم يكلف أحدهم عناء سؤال أحسبه بديهيا الآن" لماذا لست في المدرسة؟!!"
لم آبه أبدا لشاربي الكبيرين عندما نبتا كذلك مبكرا لانهما بالفعل لم يغيرا شيء من شخصيتي الرجولية فهما مجرد كاشفين لهما لا اكثر.. إلا أنني أدركت وأنا ألامس العشرينات من عمري أن أبي لم يمت بل مات وجوده معنا.. وأن الرجولة ما كانت ستأتيني مبكرا لولا موته الوهمي المبكر كذلك.. حينما حاول العودة إلينا كانت أمي وأخوتي ينظرون الي وكأن منافسا لي يريد أن يحتل مكاني الرجولي صافحته كالرجال وشكرته لأنه منحني شيئا عظيما لم يكن في باله وقتها.. ثم طلبت منه أن يعود لمن هم أحوج الى رجولته منا إلى عائلته الجديدة التي لم تسنح لأطفالها فرصة أن يتعلموا الرجولة مبكرا مثلي.
تألمت ليس لأنه غادرنا مجددا.. تألمت لأنه جعلني أفقد شيئا هاما يومها ما زلت أشعر به لكني أُخفيه.. إنها الطفولة فبين الطفولة والرجولة فارق بسيط من شأن ذلك الفارق إذا زال أن يختلطا معا للابد فأنا الآن في هذا العمر وأشعر أن طفلا محبوسا خلف ضلوعي يلحُّ علي بالخروج.
أصبحت تصرفاتي غير متسقة فأنا رجل ثلاثيني يندس خلف الأراجيح ويحمل أقدام الاطفال المبللة بالماء والطين ملطخ وجهه ببقايا الطعام يستوطن الخيال وعالم من الشوكولاتة والمثلجات.. هكذا نضجت عندما كبرت.. نضجا طفوليا غير مفهوم أجلس وحيدا وأبكي كالأطفال.. لكن فقدت متعة البكاء أمام الآخرين دون خجل يوم كان للدمعة ثمن جميل لن يدفعه أحد لي الآن .. فبكائي أصبح عيبا ومُنقصا لهيبة الرجل الذي أرتديه.. حبست دموعي عندما كنت صغيرا وها هي تنفجر عيوني ولا تتوقف إلا بمنديل.. لذلك أظهر أمامك حبيبتي ضعيفا منهكا وربما رومانسيا كما تحبين أن تصفينني .
أهاتفك الآن.. تعطينني كلاما طفوليا وتسألينني عن الرجولة، ثم تطلبين في نهاية كل مكالمة رصيد هاتفي لتسدي جوع صوتك الدائم وأذني المنصتة، وها أنا في كل مرة تطلبين لا أعرف كيف أرفض، ولكن هذه المرة سأطلب شيئا منك.. أن لا تسألينني عن رجولتي مجددا بل اسأليني عن أول يوم شعرتُ فيه بالطفولة فإجابتي ستكون أكثر وضوحا لأني أعيشها الآن .