د. هلال الحجري
أثناء قراءتي لبعض الدراسات الآركيولوجية المتصلة بعمان، خاصة تلك التي قام بها باولو كوستا حول المساجد والأضرحة العمانية القديمة، استوقفني مشهد مثير يستوجب التأمل، وهو وجود بعض الصحون الصينية الجميلة، ذات اللون الأزرق والأبيض، والتي تزين بها معظم محاريب المساجد القديمة في عمان. يتجلى المشهد في وجود طائر العنقاء الخرافي الذي يتوسط هذه الصحون الملصقة في محاريب المساجد العمانية. ومنها على سبيل المثال، الصحن الذي يزين محراب مسجد "الشواذنة" المشيّد في حلة العَقْر في نزوى سنة 936هـ/ 1529م، أو الصحن الأزرق - الأبيض تزيّنه العنقاء، والذي زُخرِف به محراب مسجد "العالي" في منح المشيد سنة 909هـ/1503م. وهذا أمر مألوف في المساجد العمانية الأخرى مثل مسجدي "العين" و" سعال" في نزوى، والأول بناه الإمام المهنا بن جيفر، والثاني بني في عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي.
ما يوحي به تأمل هذا المشهد هو مدى سعة الأفق الديني الذي كان يتمتع به الأسلاف؛ فوجود صورة طائر في محراب مسجد، يرتاده الأئمة والعلماء والفقهاء، أمر ليس هينا، ولا يمكن تفسيره إلا بسعة الأفق وروح التسامح وتقدير الجمال المعماري. لم يكونوا سُذجًا حتما حتى يمر عليهم مثل هذا المشهد دون دراية بأبعاده الدينية والاجتماعية، كلا لم يكونوا كذلك، وإنما في تقديري، غلب حبُّ الجَمال على نفوسهم فلم تتسع تلك القلوب الطاهرة للتنطع والغلو الذي يفيض به الخطاب الإسلامي اليوم.
لقد علم أولئك المشايخ أن "الدين المعاملة"، ولا يمكن أن يُختزل في شكليات غثة تتحول تدريجيا وسيكولوجيا إلى أفكار متطرفة وعنيفة. إن ذلك الاستقبال الجليل للثقافة الصينية في المساجد العمانية يدل على هذا الوعي المكين بالدين، الذي اتسم به أسلافنا، قدس الله أرواحهم. لقد كانوا يُعلون من شأن الجَمال في كل شيء؛ في الشعر، والأدب، والعمارة، والرسم. هكذا كانوا منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهودهم الماجدة.
لقد كانت دماء المشايخ القدماء تنحاز للجمال، ولم يغلب عليها جفاف الفقه وغلظة الطبع. ولذلك سَلِموا من مزالق التطرّف، فاتسعت نفوسهم للأدب والفن والحياة، وهذا ما تؤكده شواهد عديدة من تراثهم الثقافي، والشعري، والفكري. ترى المصاحفَ العمانية القديمة، فيُدهشكَ الاحتفاءُ باللون بين الأسود، والأزرق، والأحمر، والذهبي، ناهيك عن الاهتمام بالزخرفة على دَفّتيّ المصحف وهوامش الآيات، فترى مخطوطة القرآن وكأنّها لوحة تشكيلية حديثة تتعانق فيها مختلف الألوان. وترى المحاريب في المساجد، فتَعجَبُ من نزوع القوم إلى النحت والزخرفة، سواء على الخشب أو الجص، حيث تتنوع الرسومات بين أشكال زهرية، وخطوط جميلة، وطاسات صينية مختلفة، نقشت عليها آيات من القرآن، أو خُلّد فيها أسماء الفنانين الذين أبدعوا هذه التحف الفنية الرائعة. وترى الحصونَ في نزوى، وبهلاء، والرستاق، والحزم، وغيرها من المناطق العمانية، فتجد الفن حاضرًا، بنقوشه، ورسومه، وأشعاره، رغم الغرض العسكري الذي شيدت من أجله هذه المعاقل. وهناك نماذج أخرى من التراث الثقافي العماني تشهد على عشق القوم للجَمال وتقديرهم له، منها الرسومات والخطوط الزاهية التي نجدها على جذوع النخل في أسقف المنازل العمانية التقليدية، ومنها أيضا النقش على الجِرَار، والطاسات، والصحون، والحِليِّ، والسيوف، والبنادق. إنّها منظومة فنية متكاملة تعزز هذا الموضوع الذي انطلقت منه هذه المقالة. وفي هذا السياق أشيد بكتاب أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بالتعاون مع وزارة التراث والثقافة، نشر باللغة الإنكليزية في مسقط سنة 2008، يتناول بمقالات علمية رصينة "الفن الإسلامي في عمان"، وقد صدر هذا الكتاب مؤخرا باللغة العربية.
إن حُبَّ الجَمال فطرة ركزها الخالق في نفوس العباد، به تتزن نفوسهم، فيقبلون على الحياة بمختلف ألوانها وأطيافها، وإذا تجردت منه النفس البشرية فإنّها تجنح للغلوّ، وتنحاز إلى الاستبداد.