أسماء الشامسية

يَبْنِي الدكتور أحمد برقاوي فكرةَ مقاله على ثلاثة اتجاهات فلسفية؛ هي: طبيعة الوعي الفلسفي -النظري- لدى المنظِّرين والفلاسفة العرب؛ انطلاقًا من فكرة "فلسفة التقدم"، عبرَ مفاهيم الأمة والقومية العربية والحرية في إطَارها الماركسي لأقطاب تلك العقائد، مرورًا بفكرة "الفلسفة العقلية النقدية وحرية العقل"، متعينةً في عِلل التخلف وميتافيزيقية العقل العربي وأيديولوجيته، وفي الفلسفة الاجتماعية عبر الاضطهاد الطبقي باسم الدولة، واستبداله بالمجتمع؛ من أجل صَوْغ مفهوم واقعي للحرية؛ انتهاءً بموقف الفلسفة من اللاهوت ومشكلة التراث العربي الإسلامي.

وبحسب برقاوي، فإن مشكلة التقدُّم ارتبطَتْ بمشكلة لصيقة بها؛ وهي: "الحرية"، وأنَّ الوعي الفلسفي العربي المعاصر تشكَّل عبر مُحاولة فهمه لـ"الحرية" كمفهوم ومبدأ، وقد بعثت الحرية فلسفيًّا عبر التنظير لأهم المشاريع العربية، وهو مشروع "القومية العربية"، ويحاول برقاوي نَقْد الأيديولوجية القومية التي تعلو على الخطاب الفلسفي القومي؛ من خلال قولبَة الأسس النظرية وإشكالاتها وتعقيداتها التي أسست عليها "القومية". إنَّ الإشكال الأول في الخطَاب الفلسفي القومي هو تناقض الإرادة والتاريخ في الوعي الفلسفي؛ فالفلسفة القومية جعلتْ الإرادة في مكانٍ أرفع من التاريخ؛ هذا الأخير الذي ساهم في الحؤول دون إرادة الأمة العربية في تحقيق تقدُّمها بسببٍ من المشكلات التاريخية العالقة والعراقيل السياسية والإرث الثقافي والتناقض الاجتماعي الطبقي؛ فالفلسفة القومية تقيم ارتباطًا حول فاعلية الأمة وحرية إرادتها؛ إذ إنَّ فاعلية الأمة توصل إلى اكتمال حريتها، ولا تتم الأخيرة إلا بتحقيق الوحدة. إنَّ الارتباط بين مفهومين عظيمين "الإرادة والحرية"، وتحقيقهما بالوحدة، يفضي إلى تنظير فلسفي آخر؟ إنَّ الحرية ليستْ حقا مستقلا بذاته، بل فعلاً لا تتم إلا ضمنَ "تكتل قومي"، وهو ما يعني أنَّ الدول القومية الحرة هي الهوية المطلقة؛ فلكي تقوم وحدة الأمة يجب أن تختزَل حرية الأفراد في الحرية الأسمى للدولة التي هي ليست بالضرورة حرية المجتمع؛ فوحدة الأمة تعني "نزع الاختلاف": الاختلاف المذهبي والطبقي والعشائري والقطري. ويُمكنني القول بأن ما أفشَل مشروع القومية هو مبدؤها في التنظير القائم على ذوبان الأقطَار وتمايزاتها الثقافية والاجتماعية ككل؛ فها هي"الجمهورية العربية المتحدة" مؤسسةً في سوريا ومِصر؛ آلت إلى التفكك بفضل الاختلافات الراسخة بين الإقليمين التي يتعذر معها جمع مستويين من التاريخ والثقافة في مستوىً واحد. إن حتى نزع الاختلاف المذهبي ليس بريئًا في حد ذاته؛ لأن هدفه الأوحد ليس التخلص من الفرقة المذهبية بقدر ما هو تركيع الفروقات في المجتمع لصالح المشروع الماركسي. إنَّ هذا التركيع واضحٌ في النصف الثاني من القرن العشرين من عمليات إبادة كل من تسوِّل نفسه إقامة دولة قطرية أو تأسيس مشروع سياسي مستقل في كل من العراق وسوريا ومصر.

ويعرِّج برقاوي على ظهور اتجاه جديد في الخطاب القومي وهو" الفلسفة النقدية وحرية العقل" بسبب فشل تَعين فكرة الأمة الحرة على أرضِ الواقع؛ فكان لابد من تحرير العقل العربي من القيود التي تحد من قدرته على التفكير الواعي، والعقل العربي بحسب الاتجاه الجديد هو عقل ميتافيزيقي، خرافي، مغترب؛ مما يؤسس لعقل متمايز. ويعترض برقاوي على تصنيف العقل العربي بأنه مُتمايز من جهةِ أن مفهوم "العقل العربي" غير متعيَّن واقعيا بخلاف مفهوم الأمة العربية المتعيَّنة واقعًا. وعلى هذا؛ فلا توجد عقول متمايزة، إنما أمم متمايزة عبر مكونات عديدة؛ لأنَّ العقل انتصر لأن يكون عقلا إنسانيا واحدًا. وربما يجد برقاوي في فكرة التمايز بين العقول ضَرْبا من العنصرية المتعمدة في اعتبار العقل العربي الميتافيزيقي والخرافي الضد من العقل الوضعي والعلمي؛ لذلك يرفض الفكرة كليًّا، ولكنني أجد أن التصنيف لا يعيبه شيء من جهة أن كلَّ عَقل يتشكل عبر مراحل وفقًا لمكونات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة وراسخة، ويتحوَّل تاريخيًّا عبر مرحلة فاصلة؛ فالعقل الأوروبي منذ ما قبل الكشوفات الجغرافية كان عقلاً قروسطيا ما ورائيا قبل التحول الفاصل بإرهاصات الثورة الفرنسية وبزوغها النهائي في القرن السابع عشر؛ فالعقل العربي متمايز عن العقل الأوروبي، وعن العقل الياباني، وعن العقل الأمريكي، وعن العقل الإفريقي، وهكذا بسبب من التحولات التاريخية الداخلية والخارجية والعبر زمنية التي تؤثر في أنساق المجتمع نفسها بما فيها الثقافية والاجتماعية. إنَّ ما يُشير إليه برقاوي بالعقل الإنساني اللامتمايز يُعبِّر عن المنتج النهائي لكل عقل وآخر، ويُشكِّل مُجتمِعًا بخبراته وتفرُّداته عقلا إنسانيا متراكمًا، ولكنه مُتراكم عبر تمايز خاص.

وفي مَوْقف الفلسفة من اللاهوت، يتساءل برقاوي على لسان الفيلسوف العربي عن إمكان التقريب بين عالمي الإلهام "الوحي" والبرهان "البشر" أم إبقائهما مُنفصلين؟

ولمحاولة إيجاد جواب توفيقي لهذا السؤال، يستعرض آراء فلاسفة عرب حاول بعضهم التقريب بين الفلسفة واللاهوت فيما رَأى بعضهم أن إبقاءهما بمعزل عن بعضهما أولى من تقريبهما؛ من أمثال: إبراهيم بيومي مدكور؛ الذي حاول أن يعرف من الدين جدوى اشتغاله بالفلسفة، وزكي نجيب محفوظ ونقده للأحكام الدينية ومحاولة توضيح موقفه من الميتافيزيقيا الدينية، وفؤاد زكريا وتعريفه للإشكال بأنه إشكال في المنهج لا المضمون؛ باعتبار أن الدين يغلب العاطفة، فيما الفلسفة إنسانية المصدر، حتى يصل برقاوي إلى رؤية فؤاد زكريا التي يحرص أن يستعرضها؛ باعتبارها غير داحضة لأي رؤية دينية، بل باعتبارها مصالحة بين الفكر الديني والفلسفي يُثري بعضهما بعضا. ويدعم برقاوي رغبته في هذه المصالحة بضرورة الاعتراف بخصوصية الفلسفة الإسلامية؛ باعتبارها فلسفة محضة وليست فلسفة يونانية في ثوب عربي كما يزعم المستشرقون؛ أمثال: رينان؛ الذي رأى أن العرب أمة عارية من أي ثوبٍ حضاري في الفلسفة أو الفنون والخيال الخلاق وآداب الملاحِم، وعلى لسان مدكور الذي يُؤكد أنَّ الفلسفة العربية ليست خالصة محضة، بل هي نتاج إضافات الفرس والأوروبيين والهنود؛ لذا فهي فلسفة إسلامية تجمع كافة أطياف المجتمعات التي دخلت ضمن الإمبراطورية العربية بمعناها السياسي.

لكنَّ المأزق الذي وَقَع فيه برقاوي في مناقشته للوعي الفلسفي العربي هو خلطه لرؤية مدكور أنْ ليس ثمة فلسفة عربية وحسب، بل إسلامية عامة، وهو ما يجعل "الوعي الإسلامي" إجمالاً ضمن إطار الوعي الفلسفي العربي؛ مما يعني أنَّ الوعي الفلسفي العربي غير فاعل دون وعي الأجناس "غير العربية" التي شكَّلت الخطاب النظري، بل وما يجعل تأسيس فلسفة "قومية عربية" من الصعوبة بمكان، خصوصًا وأن البلاد العربية نفسها تضم أعراقًا غير عربية من الكرد والأرمن.. وأخيرًا يرى برقاوي أنَّ إعادة قراءة التراث العربي تتطلب ثورية من نوع ثورية حركات التحرُّر الوطني، موافقًا على آراء حسين مروة وطيب تيزيني في مبدأ الثورية على التراث العربي-الإسلامي، وأجدني أتفق مع برقاوي في أنَّ العودة لقراءة هذا التراث كان دافعها: سيرورة الحركة القومية العربية والماركسية العربية التي فُرضتْ فرضًا على أساس فكري عربي وتاريخي مختلف تمامًا عن ذلك الذي نشأت فيه الماركسية وهو ما يُفسِّر سقوط المشروع القومي نهاية الثمانينيات، إلا أنَّ الخراب الذي حلَّ بالأمة العربية أدى إلى أن يحمِّل التيار الإسلامي حركات التحرُّر الوطني هذه المسؤولية، وهذه الأخيرة بدأت تأخذ على عاتقها النهضة الجديدة، ولكنَّ السؤال: إلى أيِّ مدى كان التيار الإسلامي مُستعدًا للعودة للتراث وقلب المقولات الدينية الراكدة وإحداث ثورة في المفاهيم؟ وإلى أيِّ مَدَى تأكد للتيار الإسلامي أنَّ العودة للتراث وغربلته هما الحل الأمثل لاستنهاض روح الأمة العربية؟ إنَّ في رأيي أن ذلك النشاط الإسلامي منذ الثمانينيات وحتى اليوم لم يتحرك قدمًا؛ وذلك لبروز الهدف السياسي عند المشاريع الإسلامية الجديدة أكثرَ من الهدف النهضوي على مستوى المجتمع والفكر والعلم والفلسفة أيضًا؛ فضلاً عن أنَّ القراءات التراثية وغربلتها لم تكن دعوة جدية بقدرِ ما هِيَ دَعوات نظرية تخفِّف من واقع القصور التطبيقي في رفع الحِمل عن الأمة العربية.