بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً ﴾
معنى : خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي
*خاف على هؤلاء الذين يدعوهم إلى الله ، خاف على تلامذته ، خاف على أتباعه ، خاف على المؤمنين الذين هم معه ، خاف عليهم أن يضيعوا بموته ، أنْ يَشَّتَتُوا ، أن يضلوا ، أن يتفرَّقوا ، أن يضلوا بعد الهدى ، خاف عليهم ، ولكن الطريق مسدود ، فأنَّى له أن يأتيه الغلام ؟ هو قد بلغ من الكِبَرِ عِتيَّا ، أي قد تجاوز السن التي يمكن فيها أن يُنجب الأولاد ، وامرأته عاقر في الأصل ، وفوق أنها عاقر فقد تجاوزت السن التي تنجب فيها النساء غير العواقر ..
﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾
مرافقة الأسباب للنتائج :
*وقف بعض المفسِّرين عند هذه الآية وقفةً رائعة ، فقال : هو نبيٌّ يعلم أن الله عزَّ وجل لا تقف الأسباب عَقَبَةً أمام أمره ،
﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
*الأسباب ليست هي سبب النتائج ، إنما هي ترافقُها ، لأنَّ المُسبِّبَ هو الله عزَّ وجل ، وما السبب إلا حدث يرافق النتيجة وجوداً وعدماً ، وبالإمكان أن تظهر النتيجة بلا سبب ، فلماذا وصف نفسه بأنه قد بلغ من الكبر عِتيا ؟ ولماذا وصف امرأته بأنها عاقر ؟ ليعلِّم إخوانه أن الله عزَّ وجل على كل شيٍ قدير ، فعلى الرغم من أنه قد بلغ من الكبر عتياً ، وأن امرأته كانت عاقراً ، وقد تجاوزت السنَّ التي يمكن فيها أن تلد غير العاقر ، ومع ذلك فالله على كل شيءٍ قدير .
إِنّ مع العُسرِ يسراً :
*ونحن أيُّها الإخوة لا ينبغي أن نيأس من رحمة الله ، ولو أن الإنسان أصابه مرضٌ عضال فليس له أن يقول : إنَّ هذا المرض ليس لهُ شفاءٌ ، فهذا كلام الجهل ، بل اسأل الأطبَّاء من أهل الإيمان ، فإنهم يقولون لك : هناك شفاءٌ ذاتي لا يعلم الطب كيف يحدث ، شفاءٌ ذاتي .. هو من عند الله .
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين ﴾
( سورة الشعراء : 80)
*إنَّ الله سبحانه وتعالى يجعل مع العُسر يسراً ، يخلق من الضعف قوَّة ، ومن الضيق فرجاً ، ومن شأن المؤمن أن يوقن أن الله سبحانه وتعالى يرزقه من حيث لا يحتسب ، وأنه مَن يتوكَّل على الله فهو حسبه ، وأنه ..
﴿ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾
( سورة الطلاق : 2)
*هذه الآية صورة رائعة ..
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾
*ما كان لديه من مخرج ، والأمور أُحْكِمَت حَلقاتها ، سُدَّت من كل جانب ، جميع أبواب الفرج مسدودة ، لكن ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، متى جُعِلَ هذا المخرج ؟ بعد أن ضاقت إلى درجة ظُنَّ معه أنه ليس هناك مخرج ..
﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾
دقة متناهية : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
*ولكن دقَّة هذه الآية أنه لم يقل : فهب لي وليا ، لو قال : فهب لي وليا ، أنت بلغت من الكِبَر عتيا ، وامرأتك عاقر فكيف يأتيك الغلام ؟ ولكنَّه قال :
﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾
*أي من طريقك يا رب ، من دون أخذٍ بالأسباب ، هذه حالةٌ استثنائيِّة ..
﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾
*يا رب .. بالإعجاز ، بتجاوز الأسباب ، من دون أن يكون السبب هو الواسطة ..
﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾
*مرَّت معنا هذه في سورة الكهف :
﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾
( سورة الكهف : 65)
﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً* يَرِثُنِي﴾
*يكون داعياً إلى الله مِن بعدي ، يرث هؤلاء الذين أدعوهم إلى الله..
﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ﴾
الدعاء بالولد الصالح :
*رضيّاً لك ، اجعله مرضياً يا رب ، اجعله ممن ترضى عنه ، لأنك إذا رضيت عن إنسان فهذا الرضا هو كل شيء ، ما من مرتبةٍ على وجه الأرض أعظم من أن يرضى الله عنك ، وهل مِن وصفٍ وُصِفَ به أصحاب النبي عليهم رضوان الله وعليه الصلاة والسلام ، هل من وصفٍ أبلغ من أن يقول الله عزَّ وجل :
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾
( سورة الفتح : " 18 " )
*فكلمة (رضي الله عنهم)هذه أعلى شهادة ، وأعلى رتبة ينالها إنسان على وجه الأرض ..
﴿ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ﴾
*أي يا رب هب لي غلاماً تكون راضياً عنه ، وراضياً لك ، هب لي غلاماً ينوب عني بعد موتي في تعريف الناس بك ، في دلالتهما عليك ، في الأخذ بيدهم إليك ، هب لي غلاماً يرث هذا المقام الذي أقوم به بين الناس ، فكان الجواب من الله عزَّ وجل :
﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ﴾
تابع غدا ان شاء الله...
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية




رد مع اقتباس