بسم الله الرحمن الرحيم

*الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
*أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الأول من سورة مريم ، هذه السورة في مجملها تتحدَّث عن شيئين ، كما ورد هذا في آخرها إذا يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ﴾

( سورة مريم )

خلاصة سورة مريم بشارة للمؤمنين وإنذار للكافرين :

*كأن هذه السورة بأكملها تبشِّر المؤمنين وتنذر الفاسقين ، كيف بشَّرت المؤمنين ؟ ربنا سبحانه وتعالى ذكر فيها قصَّة سيدنا زكريَّا ، ويحيى ، ومريم ، وعيسى ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وهارون ، وإسماعيل ، وإدريس ، كل هؤلاء الأنبياء الكرام ورد ذكرهم في هذه السورة الكريمة ، أولئك الذين أنعم الله عليهم ، كيف أنعم عليهم في الدنيا والآخرة ؟ وكيف أعطاهم ؟ وكيف رحمهم ؟ وذكر الذين تركوا الصلوات ..

﴿ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ﴾

( سورة مريم : " 59 " )

*وكيف أنهم سيلقون غيَّاً ، إذاً هذه السورة بأكملها بِشارةٌ للمؤمنين ، وهذه أمثلةٌ كثيرةٌ جداً ، وإنذارٌ للمعرضين ، فكأنها تطبيقٌ عملي لأولئك الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة .
*الشيء الثاني : أَنَّ هذه السورة بدأت بالأحرف :

﴿ كهيعص﴾

الأحرف المقطَّعة المعجِزة وأقوال المفسرين فيها :

*ومعظم المفسِّرين يتوقَّفون عند هذه الحروف ، ويقولون عنها : " الله أعلم بمراده " .*
*وبعض المفسرين يقولون : " إنَّ هذا القرآن المعجز من جنس هذه الحروف " ، فكما أنَّ التراب نَفَخَ الله فيه من روحه فكان بشراً سوياً ، كذلك هذه الحروف جعل الله منها كتابه المعجز ، إذاً إنكم أيها البشر لن تستطيعوا ، والحروف بين أيديكم أن تصوغوا كتاباً فيه إعجازٌ من كل النواحي ؛ إعجازٌ في التشريع ، إعجازٌ في البلاغة ، إعجازٌ في الإخبار ، إعجازٌ في الإرشاد ، إعجازٌ في الهداية ، إعجازٌ في الدلالة ، إنكم لن تستطيعوا أن تصوغوا من هذه الحروف التي بين أيديكم كلاماً بهذا الإعجاز، هذا قاله بعض المفسرين .
ولك أن تقول : إن هذا القرآن الكريم من هذه الحروف ، فيا معشر الجن والإنس ، يتحدَّاهم الله عزَّ وجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن ..

﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾

( سورة الإسراء : 88)

*ترابٌ نفخ الله فيه فكان بشراً سويَّاً ، حروفٌ كان منها هذا القرآن المُعجز ،*
*على كلٍ هذا القرآن لا يعلم تأويله إلا الواحد الديَّان ، نحن نجتهد ، المفسِّرون اجتهدوا ، وأنا نقلت لكم ما قاله المفسرون ..

﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾

قصة زكريا عليه السلام دروسٌ وعبرٌ :

*أَيْ أن هذه القصَّة هي ذِكْرٌ لرحمة الله التي نالت عبده زكريَّا .
*أيُّها الإخوة الأكارم ، أتمنَّى عليكم ألاّ تظنوا أنّ هذه قصَّة تاريخيَّة ، ليس المقصود في كتاب الله أن تُروى القِصَص ، ولا أن تُنْقَل الحوادث ، ولا أن تصوَّر الشخصيات ، ولا أن يدور الحوار ، هذه كلُّها ليست من أهداف كتاب الله ، الله سبحانه وتعالى أراد من هذه القصَّة أن يضع بين أيديكم حقيقةً في التعامل معه ، ما منا واحدٌ إلا وله علاقةٌ بالله عزَّ وجل ، قد تأتي الأمور كما يشتهي ، ما الموقف الذي يجب أن يقفه ؟ وقد تأتي الأمور على خلاف ما يشتهي ، ما الموقف الذي يجب أن يقفه؟ إن هذه القصَّة على إيجازها تضع بين أيدينا حقيقةً أساسيَّةً في التعامل مع الله عزَّ وجل ، فكأنها .

﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ ﴾

*وربُّ زكريَّا هو ربك ، وإله زكريَّا هو إلهك ، وإذا كان الله عزَّ وجل قد أعطى زكريا عليه السلام فلن يَضِنَّ عليك بالعطاء ، لو أنك اتبعت الطريق التي سار به سيدنا زكريا ..

﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾

*هذا النبي الجليل ، هذا النبي العظيم له أتباع ، له موالون ، له تلامذة ، له مَنْ معه من المؤمنين ، هؤلاء خاف عليهم أن يضيعوا من بعده ، أن يُشتَّتوا ، أن يتفرَّقوا ، أن يجهلوا بعد علمٍ ، أن يضيعوا بعد الهُدى .. فـ :

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾

نداء زكريا ربَّه خفيةً :

*قال العلماء : " النداء هو ما كان بصوتٍ مسموع ، والمناجاة هي ما كانت في القلب " ، لقد نادى ، ومن آداب النِداء أن يكون خفيَّاً بصوتٍ منخفض ، فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :*

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا ، إِنَّهُ مَعَكُمْ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ، تَبَارَكَ اسْمُهُ ، وَتَعَالَى جَدُّهُ ))

( متفق عليه )

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾

حكمة ورود لفظ الرب في قوله : إِذْ نَادَى رَبَّهُ :

*وأنت أيُّها الأخُ الكريم ، تستطيع أن تدعو الله عزَّ وجل من دون أن تحرِّك شفتيك ، ويسمعك ، ويستجيب لك ، وهو معك في كل أحوالك ، فهذا النبي عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام نادى ربَّه ، كلمة(ربَّه)أيْ الذي ربَّاه ، الذي خلقه مِن العَدَم ، الذي جعل له الرحِمَ في بطن الأمِّ رحمةً ، والذي أمدَّه بالغذاء ، والذي شقَّ سمعه وبصره ، والذي كوَّن قلبه ، وخفقَ القلبُ في الأسبوع السادس ، وجرى الدم في الشرايين ، ونَمَت الأعضاء ، وظهرت الأعصاب ، واكتمل الخلق ، فلمَّا نزل إلى الدنيا كانت الهَدِيَّة الأولى :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

( سورة البلد : 8-10)

*حليبٌ يتبدَّل تركيبه كل يوم ليوافق طبيعة المولود ، وأجهزته ، وقوَّة احتماله ، في هذا الحليب مواد قاتلة للجراثيم ، في هذا الحليب مواد تمنع التصاق الجراثيم بالأمعاء ، في هذا الحليب مناعةُ الأم كلُّها ، في هذا الحليب فوائد لا تعدُّ ولا تحصى ، إنه يأتي للطفل بارداً في الصيف ، دافئاً في الشتاء ، تثبت الحرارة طوال الرضعة ، جاهزٌ بجاهزيَّةٌ من الدرجة الأولى ، تعقيمٌ مثالي ، حرارةٌ مثاليَّة ، وقايةٌ من الأمراض كلِّها ، مناعةٌ تامَّة ..

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

( سورة البلد : 8-10)

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾

*ربَّه الذي ربَّاه ، الذي أطعمه وسقاه ، الذي خلق له هذه الأعضاء ، وتلك الأجهزة ، وهذه الحواس ..

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾

الحث على كثرة الدعاء والتضرع :

*أنت أيُّها الأخ الكريم هل تنادي ربَّك ؟ كم مرَّةً في الأسبوع تناديه ؟ مرَّةً واحدة ؟! النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ربَّه في كل أحواله ؛ إذا خرج من البيت ، إذا دخل إلى البيت ، إذا دخل إلى السوق ، إذا خرج من السوق ، إذا التقى بإنسان ، إذا ارتدى ثيابه ، إذا خلع ثيابه .. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :*

(( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ ))

[الترمذي]

﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾

شكوى زكريا إلى ربه الضعفَ والكِبرَ

*معنى (وَهَنَ)أي ضعف ، لم يتحدَّث عن جلده ، ولا عن عضلاته ، ولا عن قدراته إنما تحدَّث عن عظامه ، فإذا كانت دِعائمُ البناء قد تضعضعت فلا شيء في البناء إلاّ وقد تداعى أوْ كاد .

﴿ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾

*العظم وهو أساس البناء ، أساس الجسم قد ضعف ..

﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾

*هذه من استعارات القرآن الرائعة ، شُبِّه الشيب بالشرر ، وشُبِّه الرأس بمكان اشتعال النار ، فإذا اشتعلت النار تطاير الشرر في كل الأنحاء ، فكأن وصول الشيب إلى رأس الإنسان بمثابة شررٍ اشتعل في رأسه .. يا ..

﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾

تابع....
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.