بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم.
نتابع تدبر سورة مريم الصفحة الثانية من موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.

قال الله عزَّ وحل :

﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾

معنى : خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ

*خذه بقوَّة ، العلماء قالوا : " معنى أخذه بقوَّة
أن تعلم ما فيه أولاً ،
وأن تطبِّقه بحزمٍ ثانياً "
فإذا أردت أن تأخذ الكتاب بقوَّة ينبغي أن تعرفه أولاً ، وأن تطبقه ثانياً ، فالعلم ليس هدفاً بذاته ، إنما هو وسيلةٌ لهدفٍ كبير ، إذا اتخذت العلم هدفاً أصبح العلم سلَّماً نحو الأسفل ، أصبح العلم حجاباً بينك وبين الله ، أما إذا اتخذته وسيلةً بمعنى أنك خرجت منه إلى تطبيقه ، إلى ممارسته ، إلى تنفيذ ما تعلم فهو سلم إلى الله حقيقة.

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾

وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا

*(الحكم) أي الحكمة ، والحكمة هي الإصابة في العلم والعمل ، علمٌ بالحقائق وعملٌ بموجبها ، علمٌ مع التطبيق ، أي أن هذا الحكيم تصرُّفاته حكيمة ، ينطلق في أعماله من عِلمه ، علمه مطبَّق ، علمه مترجمٌ إلى واقع ، يعلم الحقيقة ويعيشها ، يعلم الحقيقة ويطبٍقها ، يعلم الحقيقة ويعمل وَفْقها..

﴿ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾

*وآتيناه أيضاً :

﴿ وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا ﴾

من علامات الإيمان رحمة القلب :

*من علامات الإيمان رحمة القلب ، والقلب القاسي أبعد القلوب من الله عزَّ وجل ، من علامة الكُفْرانِ قسوة القلب ، من علامة الإيمان رقَّة القلب ، اعرف نفسك من رقَّة قلبك ، لا تغترَّ بالصلاة ، ولا بالصيام ، انظر إلى قلبك الذي هو مَحطّ نظر الله ، هل فيه رحمةٌ للناس ، هل ترحمهم ؟

﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا ﴾

*آتيناه حناناً من لدنَّا ، أي رحمةً ..

﴿ وَزَكَاةً ً﴾

من علامات الإيمان الطهارة والتقوى :

*آتيناه زكاةً أي طيباً ، الزكاة صفاتٌ عاليةٌ في النفس ، طيبٌ ، رحمةٌ ، عدالةٌ ، مروءةٌ ، صدقٌ ، وفاءٌ ، حِرصٌ ، تواضعٌ ، نباهةٌ ، وزكاةً ..

﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾

معنى التقوى ومقتضياتها :

*لأنه كان تقياً ، لأنه اتقى أن يعصي الله عزَّ وجل ، اتقى أن يكون في موضعٍ لا يرضي الله ، ما الولاية ؟ أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك ، أين تكون بعد أذان الظهر يوم الجمعة ، في المسجد أم في النزهة ؟ أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك ..

﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾

*لأنه كان تقياً آتيناه الحكم صبياً ..

﴿ وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ﴾

*وآتيناه شيئاً آخر ..

﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾

من علامات الإيمان بر الوالدين :

*ومن علامات الإيمان بِرُّ الوالدين ، ومن علامات الكُفران عقوق الوالدين ..

﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾

*لو أن في اللغة كلمةً أقلَّ مِن(أف)لقالها الله عزَّ وجل ..

﴿ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾
( سورة الإسراء : " 23 " )

﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾

*كان بارًّا بهما ..

﴿ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ﴾

وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا

*جبَّاراً على الخَلق ، عصياً للحق ، ما في أرقى من هذا الوصف ؛ مع الحق طائع ، مع الخلق متواضع ، مع الأمِّ والأب بَرٌ كريم ، في التعامل ذكيٌ عظيم ، في القلب رحمةٌ كبيرة ، في المنطق والسلوك حكمةٌ ما بعدها حكمة، هذه صفات الأنبياء ، لذلك :

﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ﴾

السلام في الحياة وبعد الممات :

*(سلامٌ) ، السلام الطمأنينة ، حياةٌ كلُّها سلامٌ بسلام ، فلا منغِّص ، ولا خوف ، ولا قلق ، ولا نقص ، ولا مرض ، ولا خطر ، ولا شَبَح ..

﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ﴾

*وبعد الموت إنه في البرزخ ، والبرزخ أي القبر ، روضةٌ من رياض الجنَّة ، أو يكون القبر للكافر حُفْرَةً من حُفَرِ النيران ..

﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ﴾

مقصود القصة القدوة والإتباع :

*على كلٍ كما قلت قبل قليل : إن المقصود من هذه القصَّة أن تكون نبراساً لنا نهتدي بها ، أبرز ما في هذه القصَّة الدُعاء ، انظروا : شيخٌ فانٍ بلغ من الكبر عتيا ، وامرأةٌ عجوز عاقر ، وقد دعا هذا النبي العظيم ربَّه دعاءً خفيَّا : أن هب لي من لدنك غلاماً يرثني في الدعوة إليك ، يرعى إخواني ، يرعى تلامذتي ، يهديهم إليك ، يكون استمراراً لي ، يكون خليفةً لي ، لأني أخاف عليهم ، شدَّة حرصه على إخوانه ، وعلى أتباعه ، وعلى تلاميذه جعله يدعو هذا الدعاء ، وكيف أن الأمور تبدو مستحيلة ، وكيف أن الطرق مسدودة ، وكيف أن الأسباب معطَّلة ومع ذلك جاءت حكمة الله وجاءت قدرة الله عزَّ وجل فوهبه غلاماً نبياً .
*وكيف أن آداب الدعاء ثلاثة : أن يكون الصوت خافتاً ، وأن يكون التذلل واضحاً ، وأن يكون التوسُّلُ بعملٍ صالحاً ، أو بحسن ظنٍ بالله عزَّ وجل ، اخفض صوتك ، وتذلل لربك ، وتوسَّل إليه بصالح عملك ، وهذه من آداب الدعاء .
*وكيف أن هذا النبي العظيم دعا ربه ، فما الذي جعله يدعو ربَّه الكريم إلى غلامٍ حكيم ؟ ما رآه من مريم الصِدِّيقة كيف أنها نشأت في طاعة الله ، ما من شيءٍ على وجه الأرض أعظم من أن تقرَّ عينك بابنك، أن تراه طائعاً لله ، مصلياً ، وقوراً ، ذا سمتٍ حسن ، يحبُّ الله ورسوله ، يسعى في طاعة الله ورسوله ، إذاً هذا تعليمٌ لنا ، والقضية قضية سؤال ، لم يفعل هذا النبي العظيم إلا شيئاً واحداً أنه سأل المولى جلَّ وعلا ، وانتهى الأمر ، لم يفعل شيئاً إلا أنه سأل ربَّه ، وربُّ زكريَّا هو ربنا ، وربُّ زكريَّا الذي استجاب له ، وهو معنا ، ويستجيب لنا .
*إذاً ليس المقصود من هذا الدرس أن نستمع إلى الأحداث ، والمواقف ، والعقدة والحل ، وما كان وكيف كان ، هذه كلُّها ليست معنيةً في هذا الدرس ، المعني أن ندعو ربنا ، وأن نسلك الطريق التي سار بها هذا النبي الكريم .
والذي أريد أن أؤكد عليه أنَّ كلمة (رب) التي وردت في هذه السورة تشير إلى أن الرب هو الممدّ ، فكما قلت لكم من قبل : هناك نعمة الإيجاد ، وهناك نعمة الإمداد ، وهناك نعمة الإرشاد ، فهذا الهواء من ربنا ، لولا الهواء لمات العِباد ، وهذا الماء الذي نشربه ، وهذه الأمطار التي تنزل من السماء إنما هي رحمةٌ من الله عزَّ وجل ، فكلَّما رأيتَ نعمةً ، أو عاينتَ رحمةً تذكَّر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سخَّره لك ، وبين المؤمن وبين المُشرك هذا هو الفرق ، المشرك يقول :

﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾

( سورة القصص : " 78 " )

*بينما المؤمن يعزو ذلك إلى الله عزَّ وجل .

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.